يشكل نهر النيل أحد أهم ملاعب السياسية الخارجية المصرية تاريخيًا، وهو الشاغل الأهم على الإطلاق أيضًا للشارع المصري على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وطبقًا لذلك فإن حماية النيل وتطويره وتنميته للمصريين هو مهمة بناة مصر العظام كما يقول أستاذي د. سيد فليفل أحد قامات مصر الوطنية في الدراسات الأفريقية. من هنا، أتصور أن أي سياسي مصري رسمي يقدم علي محاولة فصل المسارين عن بعضهما البعض، ويقول للمصريين تفرغوا لأعمالكم ونحن نقوم بأعمالنا مخلصين وهو أمر ليس محل شك. ولكن كان عليه أن يعلم أن نيل المصريين مصيرهم جميعًا ولايجوز التفرقة فيه بين ماهو رسمي وماهو غير رسمي.
في هذا السياق، تواجه مصر تحديًا وجوديًا ليس الأول من نوعه في تاريخها، ولكنه ربما يكون الأشد وطأة والأعمق أثرًا على جيلنا والأجيال القادمة. من هنا ربما تكون الاستزادة من الخبرات السابقة ومحاولة وضع الحاضر في إطار مقارن مع الماضي فكرة قد تدعم خياراتنا في هذه اللحظة، وكذلك طرائق ومناهج أدائنا بما يحفظ بلدنا ومقدراتنا الأساسية.
من هذه الزاوية نستعرض هنا معارك المصريين من أجل النيل وكيفية تفاعلهم في إطار الملعب الدولي لحماية حقهم في الحياة. حيث شكلت الفواعل الخارجية دائمًا أحد العوامل المؤثرة علي تفاعلات دول حوض النيل بشأن النهر. وذلك طوال ما يزيد عن قرن، ومارست هذه الفواعل هندسة جيوسياسية لموارده بما يخدم مصالحها التاريخية والمستحدثة، مع إدراك مدى تأثير هذا النهر علي النظم السياسية المصرية المتعاقبة، كون الحفاظ على نهر النيل متدفقًا أحد مصادر شرعية هذه النظم.
فمع الاستعمار البريطاني لمصر عام 1882، تم النظر إلى نهر النيل باعتباره موردًا طبيعيًا لابد وأن تصب عوائده في مصالح لندن. خصوصًا مع تجربة محمد علي في تنظيم النهر واستزراع القطن طويل التيلة، الذي كان الرافعة الاقتصادية لمشروعه التحديثي في مصر. من هنا، تدخلت بريطانيا في العلاقات البينية بين دول حوض النيل، وذلك على مراحل، حيث بدأت بإثيوبيا ثم السودان ثم باقي حوض النيل طبقًا لاتجاهات مصالحها، واحتياجاتها الاستراتيجية التي تبلورت في اتجاه تلبية مصانع لانكشاير من القطن طويل التيلة والتوسع في زراعته بكل من مصر والسودان لاحقًا.
وفي هذا السياق، تم عقد إتفاقية 1902 بين بريطانيا باعتبارها حاكمًا لمعظم دول حوض النيل ماعدا إثيوبيا المستقلة عن كل أنواع الاستعمار، والممارسة له بضم الكثير من الأقاليم المجاورة للهضبة الحبشية، وطبقًا لهذه الاتفاقية قام الإمبرطور ملينيك الثاني إمبرطور إثيوبيا بتوقيع الاتفاق الذي نص علي تعهد إثيوبي بعدم بناء أي إنشاءات أو سدود على نهر النيل، وذلك في مقابل علي حصوله على أراض بني شنقول السودانية، وهي التي يقام عليها حاليًا سد النهضة.
وفي هذا السياق، دخل نهر النيل في كل التفاعلات السياسية بين مصر وبريطانيا دولة الاستعمار، وذلك إلى حد أن الإنذار البريطاني إلى مصر بشأن حادث اغتيال السيرلي ستاك عام 1924 تضمن في المادة السادسة منه أن بريطانيا ستضاعف من كميات سحب مياه النيل بالسودان للتوسع في زراعات القطن، وهو الإنذار الذي تسبب في استقالة سعد زغلول كما أن المحتوي المائي في الإنذار قد فتح الباب أمام اتفاقية 1929 للمياه بين مصر والسودان، حيث ناضل المصريون تحت المظلة الاستعمارية البريطانية لتحجيم وتنظيم سحب المستعمر لمياه النيل وضمان الحقوق المصرية فيه، وهو المستعمر الذي حرص أن تكون زيادة الموارد المائية المصرية بتمويل مصري خالص لسدود تقام في دول أعالي النيل، ولكن دون ولاية مصرية مباشرة عليها.
ويبدو أن الانقلاب الاستراتيجي المصري في مسألة نهر النيل الذي أحدثه جمال عبد الناصر بالإقدام على تخزين المياه داخل الحدود المصرية، قد آثار حفيظة القوى الدولية. من هنا خاضت مصر معركة كبرى لبناء السد العالي ضد كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية معًا، حيث اتخذت بريطانيا عددًا من الخطوات الإجرائية لتعطيله، ومن ذلك تحويل الاهتمام المصري لبناء السد العالي نحو إنشاء مشروعات تخزين المياه بعيدًا عن مصر و السودان كمشروع خزانات تانا والنيل الأزرق، وحينما لم تسفر المجهودات البريطانية عن أثر لدى صانع القرار المصري انقلبت لتقود معارك شرسه ضده عبر عدد من الآليات منها خلق التحالفات المعادية في السودان ضد مصر. من هنا كان التحالف البريطاني مع تكوينات الأنصار وحزب الأمة له علاقة مباشرة بمشروع السد العالي، حيث تم استخدام أوراق قذرة للوقيعة بين المصريين والسودانيين عامة، كما مارس مجلس العموم البريطاني أدوارًا تحريضية ضد مصر غير مسبوقة، وذلك تحت مظلة أدوار أمنية ومخابراتية مشهودة في الوثائق المفرج عنها من جانب كل من بريطانيا والولايات المتحدة.
الشاهد أن إدارة مصر للضغوط الدولية في هذا التوقيت كانت تعتمد علي تفعيل كل الأدوات للدفاع عن النيل بقوة. رغم أن أوراقها كانت ضعيفة بالحسابات السياسية الحالية فهي لم تكن تملك مثلاً علاقات بدول أعالي النيل، كالتي تملكها اليوم، حيث أن هذه الدول كانت تحت ولاية المستعمر البريطاني. وكانت القاهرة أيضًا قد خرجت للتو من معركة فاشلة لبناء منظومة فنية بمواصفات معينة تزيد الموارد المائية لنهر النيل، حيث وقفت بريطانيا ضدها في هذه المشروعات، وهي الموارد المائية المهدرة حتي الآن وتقدر بـ56 مليار متر مكعب من المياه.
وأيضًا كان المسرح السوداني منقسمًا على القاهرة، ولكنها استطاعت أن تضمن تحالفًا فعالاً إلى جانبها بأدوات مبتكرة. وفي النطاق الدولي لم يكن المعسكر الشرقي ولا الاتحاد السوفيتي قد بني قدراته الدولية في منتصف الخمسينيات، وموازين القوة لم تكن في صالحه، ولكن اختيار مصر أن تتفاعل معه زاد من وزنه وأستطاع أن يسندها في معركة بناء السد العالي.
أجد هذا المشهد يقارب ما نراه حاليًا، الناقص فيه بناء خيال مصري قادر علي بلورة نقاط القوة واستخدامها بيقين مدركًا أن حسابات الموقف الدولي التاريخي لم ولن تتغير وهو تقييد حق المصريين في النيل لأغراض استراتيجية تطورت من حقوق دول المنابع التي يتم فيه تجاهل أن لهذه الدول مواردًا أخرى للمياه إلى تسعير المياه وبيعها.
في هذا السياق القبول بالملء الثاني من جانب مصر والسودان هو انقلاب استراتيجي مضاد لمصالح الشعبين لا يجوز القبول به من العاصمتين بدعاوي الضغوط الدولية خصوصًا الأمريكية منها التي لا تقبل من القاهرة والخرطوم تفعيل إجراءات الردع ضد التعنت الإثيوبي.
وانطلاقًا من واقع الغموض الذي نعيشه والإشارات المتناثرة التي تصلنا بالقبول بملء ثان من المستويات الرسمية في وادي النيل نقول إن بناء أدوات الردع المصرية على الصعيد العسكري هي ورقة ضغط أصبحنا نملكها، التموضع الإقليمي المصري الجديد في القرن الأفريقي رغم بطئه هو ورقة ضغط. والتفاعل مع روسيا إيجابيًا في كافة ملفات المنطقة هو ورقة ضغط ثالثة.
وهكذا يبدو لنا أن مواجهة واشنطن في إطار بيان الخارجية الأمريكية الرافض للتصرفات الأحادية، يجب أن يكون هذا الرفض منسحبًا أيضًا على الملء الثاني لبحيرة سد النهضة. الاستقواء بالشعب المصري ومصارحته بما يجري والضغوط التي تمارسها واشنطن لصالح أديس أبابا ورقة ضغط أساسية في هذه المرحلة، ولن تستطيع أي قوة سياسية معارضة التلاعب بها فلحمة المصريين وقت استحقاقات المصير لا تنفصم واسألوا التاريخ القريب.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا