أثبت لنا التاريخ أن تقدم أي أمة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور مهنة الهندسة فيها، وأن العلاقة الطردية بين حضارة أي شعب وبراعة وارتفاع مستوى مهندسيها. شهدت بذلك الحضارة المصرية التي احتفينا بها منذ ساعات قلائل بنقل مومياوات ملوكها. وكذلك الحضارة الإغريقية والرومانية وغيرها من الحضارات عبر التاريخ.

تقدم أي حضارة ونجاح أي مشروع نهضة مرتبط بتقدم مهنة الهندسة

بالقدر الذي تحاول مصر فيه بناء تجربة نهضة جديدة وإن اختلف البعض على ترتيب أولوياتها أو توجيه دفتها، فإنه لا ينكر إلا جاحد أو حاقد حجم الجهود المبذولة تجد أن هناك ارتدادًا على مهنة الهندسة يهدد خطوات تقدم حضارتنا بل وينذر بتراجعها.

وتتجلى الهجمة المرتدة على مهنة الهندسة وعلى تجربة التقدم الحضاري لمصر في خطوة قد يراها البعض بسيطة. ولكن لها تأثير كبير على المشروع التنموي المصري الحالي ألا وهي منح الجامعات تراخيص مكاتب استشارية لتقوم هي بوضع الشروط البنائية ووضع التصميمات ثم إصدار التراخيص. وهو أمر يتعامل معه البعض كأمر بسيط وهو على العكس لو تعلمون عظيم. ولماذا هو عظيم؟

لا توجد دولة واحدة في دول العالم المتقدم أو المتأخر تقوم فيه الجامعة بعمل التراخيص والإشراف والتصميم

أولاً: لأنه لا توجد دولة في دول العالم المتقدم أو المتأخر تأخذ بهذه البدعة. وهو أمر لو كان فيه صحة أو دقة لسبقتنا إليه العديد من الدول صاحبة التجارب الهامة في التنمية والتقدم الحضاري. ولا أدري لماذا يحاول البعض أن يخترح العجلة من جديد في مثل هذا الأمر.

ثانيًا: أن أصل مهمة الجامعة وهي البحث العلمي والتعليم والبحث العلمي هنا هو الأبحاث التي يناط بها حل مشاكل المجتمع ومواجهة التحديات العلمية التي يواجهها والأمثلة على ذلك كثيرة وليس من ضمنها بالتأكيد أي عمل تنفيذي مثل إصدار تصميمات دورية لمشروعات عمرانية أو بنى تحتية والإشراف على تنفيذها أو بالتأكيد إصدار التراخيص لها.

الجامعات دورها الرئيسي هو البحث العلمي والتعليم

الشق الثاني في مهمة الجامعة في التعليم يعاني تحديدًا في مهنة الهندسة بالشكل الذي يؤدي إلى أن نسبة عدد الطلاب لعدد أعضاء هيئة التدريس في معظم الجامعات والمعاهد من بين 5 إلى 10 أضعاف النسب العالمية ناهيك عن انشغال أعضاء هيئة التدريس في أكثر من جامعة ومعهد خاص مما يؤدي إلى تراجع مستمر في جودة المهندس المصري. وهذا أمر هام يحتاج نقاشًا طويلاً.

الهندسة الاستشارية نموذج لمهنة المهني المحترف

ثالثًا: أن مهنة الهندسة الاستشارية هي أحد أبرز صور العمل المهني الإحترافي الذي يتم تعلم المهنة فيه على يد مهني محترف ينشئ مدرسة لمهنته أو حرفته فيتعلم على يديه تلامذه في هذه الحالة مهندسين تنمو خبرات هذا الكيان المهني الإحترافي بتراكم المعرفة ومروره بعدد من المشروعات والمواقف والصعوبات والتحديات فتزداد مهارة المحترفين فيه وتثبت ممارساتهم بشكل موثق وتنتقل الخبرات من المحترف/الحرفي الأكبر إلى تلامذته/مهندسين وتنمو لتصبح مدرسة استشارية تمتلك مصر بالفعل العديد منها في حين لا يمكن تحقيق هذا في الجامعة لعدم وجود إمكانية لخلق هذه المدرسة فضلاً عن التغيير التام لفرق العمل أو الموظفين واستحالة حدوث التراكم المعرفي أو نقل الخبرات بين متنافسين أساسًا في المهنة.

رابعًا: وجود نتائج بالفعل للانحراف الذي حدث بالفعل بممارسة بعض الجامعات لنشاط تقديم الخدمات الاستشارية من إشراف على التنفيذ أو تصميم لمشروعات وكانت نتائجها مؤلمة فتجد أن الجامعات توكل عبر مراكزها المسماه بالاستشارية المهام الموكلة لها إلى أفراد من أعضاء هيئة التدريس بها أو من خارجها فينتجون على عجل ودونما اهتمام تصميمات أو تقارير هندسية تحمل ختم النسر لهذه أو تلك الجامعة وتفتقر لأي من الأسس الهندسية وذلك طبيعي فالأستاذ الجامعي يعطي لجهده داخل المركز البحثي 1/10 (عشر) من اهتمامه بمكتبه أو عمله الخاص فتجد تقارير مبتورة أو رسومات مبتسرة ناقصة تنتج مشروعات مشوهة أما في أعمال الإشراف على التنفيذ والتي تقوم الجامعات بالإشراف على تنفيذها فتستخدم مهندسين ليسوا من أعضاء هيئة التدريس وبمرتبات متدنية وبحد أدنى في الإشراف يؤدي إلى تنفيذ معيب وإهدار للقيم لأن المهندسين الموكل لهم العمل بلا خبرة ودونما إشراف وتأتي الطامة الكبرى أنهم بمرتبات متدنية فيكون من السهل إغوائهم في ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة فتهدر المهنة وتهدر كرامتها وتكون النتيجة مشروعات سيئة ومهندسون ضعاف.

خامسًا: أن مهمة مراجعة سلامة الرسومات وكفاءة التصميم لا تحتاج أن يقوم بها مكتب استشاري مرخص فالمحليات كانت تقوم بهذه المهمة وتعاونها فيها المجمعة العشرية دونما شهادة استشاري وإذا كان هناك أسباب أدت إلى إفساد المحليات فالحل في معالجة هذه الأسباب وليس في نقلها إلى الجامعة لنخسرها هي أيضًا ومن ضمن هذه المعالجات التي لجأت لها بعض الدول صاحبة التجارب الهامة مثل الولايات المتحدة هي استحداث مكاتب هندسية مهمتها فقط المراجعة يسمح فيها بتراكم الخبرات ويمنع تعارض المصالح الذي لا يحدث مع الجامعات التي يطلب لها الآن كل الأدوار من تصميم وإشراف وإصدار تراخيص.

سادسًا: أن القانون المصري يتوافق هنا مع المنطق والترتيب الطبيعي لتصنيف المهني المحترف فيمنح شهادة الاستشاري لشخص فرد يسمح له مع نمو مهنته وحرفته وثبات جدارته أن ينشئ مكتب هندسي استشاري يتصاعد في تصنيفه مع إثباته لجدارته وهو أمر لا يتحقق مع وجود جهات غير محددة من صاحب الحرفة فيها فضلاً عن غياب إمكانية محاسبة هذه الجهات قضائيًا لغياب المسؤولية الشخصية واستحالة محاسبتها مهنياً لأنها ليست عضواً في النقابة التي تمنح الترخيص بمزاولة المهنة.

ختم النسر يعني صحة المستندات.. فهل يعني صحة التصميم؟!

سابعًا: أن هناك إخلال بمبدأ دستوري وإنساني بحت وهو تكافؤ الفرص فالمكتب التابع للجامعة الحامل لختم النسر (أقوى ختم) والذي يكون قادرًا على إصدار التراخيص سيحصل بالتأكيد على حق التصميم وكذلك حق الإشراف على التنفيذ حيث أنه أيضاً لا يتحمل الأعباء الضريبية والتأمينية المعفى منها بحكم القانون ولا يتحمل الأعباء المالية للتجهيزات من مباني وأجهزة وبرامج وإضاءة ومياه وسيارات حيث تتوافر لها هذه المقومات كمباني فعلية يتحملها دافعي الضرائب وهذا يؤدي إلى تآكل المكاتب الهندسية وانهيار المدارس التي يتعلم فيها المهندسين لصالح مكاتب الجامعات التي لا تخلق فيها مدارس مهنية حقيقية.

إن الخطر الذي يحيق بمهنة الهندسة والتلازم مع تهديد فكرة المشروع الحضاري الجديد في مصر يستلزم من كل محب لهذا الوطن أن يقف وقفة جادة للمراجعة قبل المضي قدماً في هذه الخطوات.