يضمن استقلال السكك الحديدية يوميًا معرفة المشكلات المزمنة لثاني أقدم خط في العالم، واستكشاف الكثير من مسببات الحوادث التي تكررت بوتيرة شديدة التسارع في الشهر الأخير، والتي تؤكد أنها تتراوح بين العنصر البشري ومشكلات مزمنة في إدارة المرفق.

تتنوع الإجابات عن التسؤلات بشأن سبب تكرار الحوادث بين إحالة القضية إلى السلوك البشري، أو وضع الجهات الحكومية أمام مسؤوليتها، أو أنّ الأمر مشترك بين الطرفين، بيد أنّ المؤكد في القضية هو كيفية إدارة المرفق.

العامل البشري.. سلوك مشترك

التصريحات الحكومية وبعض الروايات تقول إن العامل البشري يتحمل القدر الأكبر من الاتهامات في حوادث السكك الحديدية. يجمع ذلك الجمهور والسائقين الذين يتعاملون بـ”منطق الفهلوة” أو اعتبار القطار وسيلة مواصلات خاصة يمكن استغلالها للمحاباة والمجاملة. وذلك في مرفق ينقل أرواح 420 مليون راكب سنويًا.

التدخل البشري يتمثل في السلوك غير المنضبط، عندما يلجأ بعض الركاب أو الباعة الجائلين لشد سكينة الفرامل (المكابح) الموجودة في آخر كل عربة لتقف القاطرة فجأة عندما يرغب أحدهم في النزول بالمنطقة التي يريدها ولا تمثل محطة انتظار للقطارات.

نادرًا ما يمر قطاع سريع على خط “القاهرة ــ الإسكندرية” دون إجباره على الوقوف بمحطتيّ بركة السبع وقويسنا بالمنوفية التي لا تتوقف فيهما غالبية القطارات، بشد سكينة الفرامل (المكابح) الموجودة في آخر كل عربة لتقف القاطرة فجأة ويفر الجاني هاربًا إلى وجهته. يلجأ العديد من الباعة الجائلين لتلك الطريقة لضمان النزول في محطة يقف فيها قطار مقابل للعودة أملاً في توزيع بضائعهم دون الانتظار في المحطات التي تخضع نفوذها لباعة آخرين وأصحاب الأكشاك.

المكابح.. إشارة الموت

وفرامل عربات القطار شبيهة في طريقة تشغليها بسيارات النقل الثقيل، لكنها أكثر تعقيدًا لاعتمادها على “التشبيك” أو التحكم في العديد من العربات المرتبطة، والجرار الرئيسي، بجانب أمور تتعلق بالفيزياء مثل كتلة القطار وسرعته فالجرار وحده يتجاوز وزنه 150 طنًا، دون الـ13 عربة ملحقة التي يبلغ وزن الواحدة منها فارغة دون ركاب 40 طنًا.

تحتاج عودة القطار للعمل بعد سحب سكينة الفرامل، الانتظار ربع ساعة كاملة حتى يتم إعادة شحن الهواء بها مجددًا، وقد تؤدي في حالة القطارات المسرعة التي تقترب من 120 كيلو متر في الساعة إلى إمكانية انقلابه بالكامل، أو ربما اصطدامه بالقطار التالي له إذا تجاوز  برج المراقبة أو لم ينتبه سائق الأخير للتعليمات الصادرة من مراقب الحركة.

ويقُدر عدد حوادث القطارات في مصر بـ 12 ألفًا و236 حادثًا، في الفترة بين عامي 2006 و2016. بينما وقع أكثر عدد من الحوادث في عام 2009. في حين شهد عام 2012 أقل عدد من الحوادث نتيجة تكرار توقف الخدمة بعد أحداث الثورة. ذلك وفق إحصائية رسمية أعدتها هيئة السكة الحديد، بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

مجاملات السائقين.. توصيلة خاصة

لا يأتي الخطأ من الركاب الراغبين في النزول بأماكن غير مخصصة لتوقف القطارات فقط، فالسائقون يتورطون فيها أيضًا، فقد يتوقف قطار في قرية معزولة ممنوع الانتظار بها لمجرد توصيل زميل أو صديق، دون اعتبار لجمهور الركاب الذين تتعطل مصالحهم أو تساورهم الشكوك في أسباب التوقف في أماكن معزولة.

كما يتعامل سائقو المركبات أيضًا برعونة مع المزلقانات، بعضهم يمل من الانتظار فيقتحم المزلقان بالتزامن مع مرور القطار. ويتوقف مدى الخسائر حينها على حمولة السيارة النقل وسرعة القطار. وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة تكررت تلك المشكلة وتسببت في 4 حوادث بواقع اثنين في الصعيد ومثلهما بالوجه البحري.

جهاز المكابح والتحكم

كافة الحوادث السابقة تشترك في تقصير موظفي الهيئة من خلال عدم تشغيل جهاز المكابح والتحكم الآلي ATC بالقطارات والذي يعتبر بمثابة صندوق أسود للجرار ويتلقى الرسائل من أجهزة الإشارات والسيمافورات والملفات الأرضية الموجودة بطول خطوط السكة الحديد وحال تعطل أي منها يقوم الجهاز بتخفيض سرعة القطارات آليًا لتصل إلى 8 كم/ ساعة حسب نوع العطل.

ويقوم جهاز التحكم الآلي بتنبيه قائد القطار عند وجود أي قطارات أو قطع في قضبان السكة الحديد أو أي شيء آخر، من خلال إرسال إشارة إلى الكابينة. ويرسل الجهاز 4 إشارات، الأولى الإشارة الخضراء، وتعني أن الطريق مفتوح. والإشارة الخضراء متقطعة وتعني أن هناك شيئًا ما على مسافة بعيدة ويجب تهدئة سرعة القطار، والنزول بالسرعة من 120 إلى 60 كم في الساعة. أما الإشارة الصفراء تعني أنه يجب تهدئة القطار، والإشارة الحمراء وتعني أن هناك خطرًا ولا بد من توقيف القطار.

وأقر وزير النقل في تصريحات سابقة بإصداره تعليمات بشأن التخلي عن تقنية ATC في بعض الأماكن؛ نظرًا لتسببها في بطء الحركة وتأخر القطارات.

تظهر المشكلة بوضوح في حادث قطار منيا القمح بالشرقية، الذي كشفت تحقيقات النيابة عدم تسليم ناظر محطة بنها سائق القطار نموذج “٦٧ حركة” الموضح به المناطق الواجب تهدئة السرعة فيها.

يتضمن البيان المذكور السرعات المقررة في المناطق المختلفة، ومنها السرعات المقررة في منطقة الإصلاحات محل الحادث، فضلاً عن اكتشاف النيابة تزوير موظفي المحطة للنموذج، وذلك في محاولة لإخلال المحطة مسئوليتها عن إخطار السائق وتحذيره على عكس الحقيقة.

إهمال الموظفين

الإهمال هو الرقم المشترك في كافة الحوادث، إذ أقرّ سائق قطار  منيا القمح في التحقيقات بعدم تشغيله جهاز المكابح والتحكم طوال الرحلة متذرعًا بصدور تعليمات من الهيئة القومية لسكك حديد مصر بضرورة غلق الجهاز في مناطق التهدئة التي تشمل مناطق الإصلاحات والتطوير وغيرها؛ لتلافي تأخير مواعيد وصول القطارات.

تكرر الأمر في حادث قطار سوهاج الذي اكتشفت النيابة العامة أن سائق ومساعد القطار “الإسباني” السريع “لم يكونا متواجدين” في عربة القيادة وقت الحادث،  وأضافت أنه ثبت “تعاطي كل من مراقب برج محطة المراغة جوهر الحشيش المخدر، وتعاطي مساعد سائق القطار المميز ذات الجوهر وعقار  الترامادول المخدر.

وقال أحد سائقي القطارات لـ”مصر 360″ إن جهاز المكابح لا يصلح للعمل على السكك المحلية إلا بعد تطويرها بالكامل، ففي ظل وجود بعض الإعوجاج ومنافذ العبور العشوائية من قبل المواطنين، قد يقطع القطار الرحلة كلها بسرعة لا تزيد في المتوسط على 20 كيلو مترا في الساعة، وهو ما يعني أن الرحلة للإسكندرية تستغرق قرابة 6 ساعات.

معضلة السرعة والتأخير.. الموت مقابل الوصول بالموعد

معضلة السرعة وتأخير الرحلات، ومن ثم تأخر الركاب في الوصول تبقى واحدة من البنود التي تحتاج تدخلاً سريعًا لوضع حد للاشتباك الحاصل جراء تخيير الناس بين تحمل زيادة ساعات الرحلات أو تحمل نتيجة اختيار المغامرة بالأرواح.

لذلك يقول السائق إن تشغيل الجهاز يعرضه لمخاطر الضرب من الركاب والاعتداء عليه بالسب والرشق بالحجارة، خاصة من قبل الموظفين المتأخرين عن مصالحهم والذين قد يواجهون خصومات بسبب التأخير، وعلى وزارة النقل تدشين حملة إعلانية توعوية تبريء قائد القطار من المسئولية.

وكانت السكك الحديدية قد أعلنت أكثر من مرة إصابة سائقين لها جراء رشق الجرارات بالحجارة لأسباب غير معروفة، لكن السائقين يقولون إنها تتزايد مع تأخيرات مواعيد القطارات، غير أن مسئولي الهيئة يلقون باتهامات مقابلة لعدد من العالمين بها في الوظائف المتدنية بأنها عمالة صعب السيطرة عليها تتعود على الإهمال منذ سنوات ولديها تكتلات تحمي بعضها البعض بما يمنع معاقبتها.

وتزداد المطالب بتكثيف وزارة النقل حملاتها للتحذير من السلوكيات كاقتحام المزلقانات وهي مغلقة، وإقامة معابر غير قانونية على شريط السكة الحديد، وشد فرامل الهواء  أثناء سير القطار، وإلقاء القمامة على القضبان وتعريض مسير القطارات وحياة الركاب للخطر في ظل العشوائية على خطوط حديدية تصل إلى 9570 كم وتخدم 23 محافظة بإجمالي  705 محطات.

التبرير الحكومي والمسؤولية

السلوك البشري كان مبررًا كافيًا أمام الجهات الرسمية لتحميله مسؤولية الكوارث، وهو ما يتضح من تصريحات وزير النقل كامل الوزير، الذي اشتكى في مداخلة تليفزيونية قبل يوم واحد من حادث قطار طوخ وبعد يومين من حادث قطار سوهاج، من السلوك البشري.

ودلل الوزير بمقاطع فيديو لقائد شاحنة للخرسانة الإسمنتية الجاهزة يركنها على المزلقان، ومن سوق شعبية على قضبان مزلقان بالقليوبية، ومحاولة سائق توك توك سباق قطار على شريط جاني للسكة، وأخيرًا مغامرات شاب حديث السنة بالاستلقاء تحت قطار قبل عبوره.

وفي الحادث الأخير استبق وزير النقل الانتقادات، قائلاً من موقع الحادث: “لن أهرب من المسؤولية، ونعمل ليلا نهارا لتطوير منظومة السكة الحديد لتقديم خدمات مميزة لجمهور الركاب المسافرين”.

إصلاح السلوك مهمة حكومية

ورغم أن السلوك البشري أمرًا أقرّه الجميع، لكن تبقى مسؤولية الجهات التنفيذية على رأس القضية، فهي المسؤولة عن التشغيل والإدارة ووضع السياسات وحماية المرفق من العبث، ما يجعل الحديث عن سلوك بشري خاطئ مجرد خلفية للحوادث وليست سببًا مباشرًا. ذلك أن السبب المباشر هو من قصّر في معاقبة المخالفين وتحجيم السلوك البشري الخاطئ.

غياب التطوير.. حادث طوخ نموذجًا

الخبير الاقتصادي نادي عزام يرجع أسباب حوادث القطارات إلى عدم خضوع السكك الحديدة لتطوير منذ عشرات العقود والاكتفاء بالصيانة فقط سواء للجرارات أو تغيير بعض القضبان، مع الاعتماد على العنصر البشري في الإدارة، بجانب الاعتماد على الترتيب الهرمي في الإداري بمعنى تولي الوظائف بالأقدمية دون العناية بالدراسة والكفاءة والقدرة على متابعة التطوير حول العالم.

ويكشف زيارة موقع حادث قطار طوخ وقوعه في منطقة لم تخضع للتطوير بعد بعدما تهالكت في الحادث غالبية الفلنكات الخشبية التي تحمل القضبان، والتي يتم استبدالها حاليًا بأخرى من الخرسانة، لديها قدرة أكبر على المقاومة وتحمل عوامل التعرية.

وتعِدْ وزارة النقل باكتمال منظومة التشغيل الآلي للسكك الحديدية في عام 2024. لتستهدف حينها زيادة عدد الركاب المترددين على القطارات إلى 2 مليون راكب مع تجديد الورش وتحويل الإشارات إلى التشغيل الكهربي، وإنشاء خطوط وازدواجات ووصلات جديدة.

وبعد حادث قطاري سوهاج أعلنت الحكومة أنها رصدت 225 مليار جنيه لتطوير شبكة السكك الحديدية. وقتها قال كامل الوزير إنه يجري وضع خطة لمنع حدوث تلك الحوادث مستقبلا.

هكذا لا تزال قضبان السكك الحديد تتلون بالدم منذ عقود. فما تفتأ جراح تندمل إلا تنكأها فاجعة أخرى، وسط حديثٍ عن مسؤوليات لا ترتقي إلى مستوى من المصارحة الذاتية التي تُسعِف الجسد المتهالك. في انتظار تلمس موضع الجرح.