الإسلام والسلام
يُفترض أن يكون الإنسان المتدين أكثر الناس تمتعا بهدوء النفس، صفاء المزاج، وراحة البال، يُفترض أن يكون الإنسان الموقن بالثواب الأخروي مترفعا عن الحسابات الصغيرة، زاهداً في المغانم الزائلة، متسامحا مع هفوات سائر الفانين والخطائين. يُفترض أن ينعم الإنسان الذي يضع ثقته في الله بالأمن الروحي والسلام الداخلي طالما أنه في رعاية يد قادرة، وعين ساهرة، يُفترض أن يكون وجدان المؤمن مفعما بمشاعر الرحمة والحسنى والسلام، ميالا في كل أحواله إلى الصفح الجميل، والعفو الكريم، وكظم الغيظ، وتحمل الأذى، والصبر الجميل، أو هكذا يُفترض.
يُفترض أن الصلاة تلين القلوب القاسية، وتؤلف بين النفوس المتنافرة، وتُنمي لدى المواظبين عليها ملَكة التأمل الروحي والجمالي، وقبل ذلك يُفترض أن تقام الصلاة بصوت خفيض طالما تتمّ في حضرة روح مهيبة عظيمة، أو هكذا يُفترض.
يُفترض أن يُحرر الصوم الصائمين من دوافع النهم والشره والجشع، ويساعدهم على التحكم في رغابتهم، ومن ثمة يسهل عليهم تدبير شؤون معيشتهم اليومية في جوانبها الاستهلاكية، كما يسهل عليهم الكفاف والعفاف عند الاقتضاء، وهذا هو الرهان المطلوب كما يُفترض.
يُفترض أن يكون الإنسان الذي يملؤ قلبه بذِكر الله مكتفيا بما فيه، فلا يطمع في ما لدى الآخرين، ولا يتدخل في الحياة الخاصة للآخرين، أو هذا هو الهدف المأمول في النهاية.
أي نعم، يُفترض أن تكون الأمور على ذلك النحو، فيغدو الدين وقتها عاملا في تحقيق السعادة والسلام، وهُما أعز ما يطلبه كل إنسان.
يفترض أن يكون الإنسان المتدين نموذجا للسمو الإنساني، والرقي الأخلاقي، والرفعة الوجدانية..
غير أن واقع الحال مخيب للآمال، ولنا في الحياة اليومية للمؤمنين البسطاء خير شاهد، بل لنا في أحوال رجال الدين أنفسهم، والحركات الدينية أيضا، ما يكفي من الشواهد.
إن عبارات من قبيل “هؤلاء لا يمثلون الإسلام“، والتي معناها أن المسلمين كافة لا يمثلون الإسلام ! ومن قبيل أن “لا أحد يطبق الإسلام”، وأن “الإسلام بريئ من المسلمين”، وغيرها من الردود الجاهزة التي تُستعمل بابتذال لرد التهمة ودفع الشبهة، إنما غايتها اجتناب السؤال الحقيقي: أين المشكلة؟
تحديداً، لأجل الكلام عن الإسلام، يُفترض أن يكون المسلم إنسانا مسالما طالما يلقي على كل من يلقاهم في الطريق عبارة “السلام عليكم”، يُفترض أن يكون الإنسان المسلم من سلم الناس من لسانه ويده، يُفترض أن يكون الإنسان المسلم على منهاج “لا إكراه في الدين” وفق منطوق الخطاب القرآني، وعلى طريق “خيري ابني آدم” وفق منطوق الخطاب الحديثي، والمقصود هابيل الذي رد على قابيل بقوله: (لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك)، فيما يحيل إلى أن المسلم لا يردّ على العنف بأي شكل من أشكال العنف المضاد، أو هكذا يُفترض.
اقرأ أيضًا: ماكرون والإسلام السياسي: لا تلعنوا حامل الرسالة!
يُفترض أن يكون الإنسان المسلم أحبّ الناس إلى الناس.. أكرم الناس لكل الناس.. أنفع الناس للناس كافة.. وأن يكون بالأحرى رحمة للعالمين.
لكن هيهات، ثم هيهات، ثم لا ثم !
فأين المشكلة إذاً؟
ذاك هو السؤال، وتلك هي المسألة.
لكن، قبل التماس سبيل الإجابة هناك اعتراف مبدأي:
ليست المشكلة في الدين، لكنها ليست خارج الدين أيضا.
كيف ذلك؟
يُفترض أن تمنح الخبرة الدينية العميقة للإنسان المتدين مشاعر السلام الداخلي، والسلام مع الآخرين، كل الآخرين بلا استثناء، طالما هو واثق في حكمة الله، مؤمن بأن الحكم لله، والأمر لله، وكل شيء مردّه إلى الله، وفوق ذلك فهو متشوق لكي يلقى الله بأياد نقية من الدماء، وقلب مخفف من كل مشاعر الشقاء: لا ندم، لا حقد، لا سخط، لا تذمر، بل شوق ومحبة وفرح، أو ذلك ما تفترضه النوايا المعلنة للخبرة الدينية، بيد أن نتائج التجربة الدينية في مستوى الواقع العيني هي على نقيض النوايا المعلنة، بنحو صارخ، وبحيث يصعب تقليصه.
في النهاية، صار الحقل الديني للمسلمين مشحونا بكل عوامل الشقاء، والعنف، والكراهية، والتوحش، والاكتئاب.
فأين المشكلة؟
إن لم تكن المشكلة كامنة في جوهر الخبرة الدينية، طالما هناك إمكانيات مغايرة للتدين، فإنها تكمن في الخطاب الديني الموروث، بمعنى في ما قيل باسم الدين خلال أربعة عشر قرنا، تكمن المشكلة إجمالا في الخطاب الديني السائد والشائع في المجتمعات والتجمعات المسلمة كافة، من الدار البيضاء إلى جكارطا، ومن إفريقية جنوب الصحراء إلى ضواحي المدن الأوروبية، وهو الخطاب الذي يشحن الإنسان المسلم منذ نعومة أظافره بشتى أنواع الانفعالات السلبية التي تبدد السعادة وتهدد السلام، من قبيل مشاعر الخوف، والغضب، والحقد، والكراهية، والشجع، والتعصب، ويتم ذلك كله إما بدعوى عقيدة الترغيب والترهيب، أو بدعوى فقه الولاء والبراء، أو بدعوى جواز التشفي وشفاء الغليل، أو بدعوي وجوب الثأر والقصاص، أو بلا دعوى.