في الحلقة الأولى من مسلسل ملوك الجدعنة، فضّل المخرج أحمد خالد موسى أن يكون المشهد الافتتاحي حوارًا بين بطلي العمل مصطفى شعبان وعمرو سعد “سفينة وسرية”، تضمن لغة غير مألوفة عن الحكي الذي يتناول الحارة المصرية.
المسلسل الذي استحوذ على اهتمام المشاهدين، تدور أحداثه عن شابين من إحدى المناطق الشعبية “عمرو سعد، سرية – مصطفى شعبان، سفينة”، واللذين يخوضان الحياة بجرأة، إلا أن حادث مقتل صديقهما “علي”، دفعهما لسلك طريق مختلف تمامًا من خلال صراع طويل مع أحد رجال الأعمال يدعى زاهي العتال وتتوالى الأحداث.
القصة لا تبدو مختلفة تمامًا عما اعتادت الأعمال الرمضانية تقديمه كل موسم، لكن لغة الحوار جاءت مخيبة للآمال هذه المرة، فالبعض اعتبرها تكلُفًا كبيرًا، إذ حافظ السيناريست على لغة مصطنعة وتحمل الكثير من كلمات السجع للفت الانتباه، من دون تقديم عرض يتناول طبيعة الحياة في الحارة المصرية عن واقع ملموس.
أهل الحارة في “ملوك الجدعنة”
عمد “ملوك الجدعنة” إلى إظهار أهل الحارة منعزلين عن الحياة، ما زالا يعيشان في كهف؛ بعيدًا عن تطورات الحياة حولهم، مستخدمين لغة ركيكة، كما انعدمت لديهم الصفات الحميدة لأهل الحارة الأصليين، وفق متابعين.
التدليل هنا عن غياب الوعي لدى قاطني الحارة المصرية تمثل في استخدام المصطلحات، فيظهر “سرينة” جاهلا بالتكنولجيا ويشير إلى الفيسبوك باسم “فيستوك”، والموبيل يصفه بـ”المحمول” ووصف الاستوري إلى حالات الواتس، ظهرت شخصية ابن الحارة جاهلاً مستغرقًا في انعزاله وخالقًا مصطلحات خاصة به تفصله عن باقي الطبقات الاجتماعية.
أهل الحارة في الأدب المعاصر
خلال السبعينيات والثمانينيات كانت الحارة المصرية حاضرة بقوة ووضوح في الأعمال الفنية ما بين أعمال سينمائية أو تلفزيونية. جسد المجتمع ككل في هيئة حارة تحضر أفراده لتعبر عن توجهات والحالة المجتمعية والثقافية التي وصل إليها المجتمع الأصلي، الذي يقطن المناطق الشعبية ويتحدث بلغة أبناء الوطن.
وعلى سبيل المثال، فإن الحارة الشعبية عند الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة انعكاس للشعب المصري الأصيل بشهامته وجدعنته وبساطته وكافة تفاصيله التي كان يلقي فيها حواراته المدهشة والتي ما زالت حيّة حتى الآن، فنجد “عكاشة” يخرج من عباءة السيناريست لعباءة المؤرخ، فهو لا يذهب إلى الحوار ليكون لافتًا للنظر بل ليحمل رسالة العمل التلفزيوني بكافة تفاصيله وأهدافه وروحه.
عند “عكاشة” الحارة هي أصل المجتمع وروحه وقلبه النابض، واستطاع الكاتب أن يحقق نجاحات ظلت محفوظة في ذاكرة الأعمال الفنية. وكان “المشربية” أول عمل حقق له شهرة مدوية، لاحقًا أضاف العديد من الأعمال الهامة التي رسمت ملامح الحارة المصرية باقتدار على شاكلة “ليالي الحلمية” و”زيزينيا” و”عفاريت السيالة” و”أرابيسك”.
خلال تلك الأعمال عرض “عكاشة” باقتدار ما تمر به الحارة المصرية، وقيمها الراسخة في نفوس أجيالها واحدًا تلو الآخر، وهو ما يأخذه البعض على الأعمال الفنية الحديثة التي تعرضت إلى الحارة بصفة الوصم والمثال الأكبر للقبح.
الحارة في الدراما القديمة
وما دام الحارة تغيرت في الواقع بكل أشكالها، فكان لا بد أن تتغير معها الدراما، فلم يعد حسن أرابيسك، فنان الأرابيسك المصري الذي جسد دوره الفنان صلاح السعدني. وخلال أحداث مسلسل “أرابيسك” يظهر “حسن” في دور ابن البلد الذي بفعل الظروف أدمن رفقة السوء والمخدرات، إلا أنه في الوقت نفسه أبرز شخصيته الأمينة والعاقلة فيما يخص الإرث الثقافي المصري ومحاولات طمس الهوية التي كانت تحدث بفعل الغزو العثماني.
بحكم الزمن والتغيرات التي طرأت لم يعد “حسن أرابيسك” موجودًا بيننا الآن في المنطقة الشعبية، كما لم يعد هناك الشخص الكبير الذي إذا مر في الشارع وقف له الجميع احترامًا ومهابة. وهذا النموذج قد تغير ويدركه جيدًا كل من يعيش الآن في حارة شعبية. كما لم تعد الظروف الحالية تتحمل فكرة “بشر عبد الظاهر” في “زيزينيا” الذي يبحث عن أصالته وهويته داخل الحارة. فالحارة الآن أصبحت طاردة، لا أحلام فيها.
والحارة المصرية التي كانت تضج بالشهامة والمروءة والجدعنة في الأعمال التلفزيونية بدأ بريقها يخفت في الألفية الجديدة، وتفقد يومًا تلو الآخر الحالة التي خلقتها ونقلتها بواقعية تقترب من المثالية، إلا أن الحارة مثلها كمثل كافة تفاصيل حياتنا التي تغيرت من النقيض للنقيض.
وإذا تناول أي مؤلف هذا العمل بنفس الأسلوب والحالة التي اعتاد كتاب السيناريو على طرحها على الجمهور في الستينيات، فهذا يعني أنه يحلّق بعيدًا عن الواقع ومفرداته الجديدة.
الحارة المصرية على الطريقة اللبنانية
أما الحارة الآن وعلى سبيل المثال في موسم 2021، نجدها في “ملوك الجدعنة” ليست بعيدة عن الواقع في مضمونها، ولكنها بعيدة في شكلها الخارجي، وهذا يرجع إلى أن مكان تصوير العمل في لبنان لأسباب تتعلق بالإنتاج، لكن بالنظر إلى روح العمل فشخصية “سرية” و”سفينة” نموذجان حقيقية موجودة على كل ناصية، تجمعهما الأخوة والشهامة، ولغتهما ليست منفصلة عن الواقع، بل هي الواقع نفسه.
الفتيات أنفسهن، هن نفس الفتيات اللاتي يراها الجميع في الحارات الشعبية بـ”العباية” وطريقة المشي والكلام، وإذا كان هناك ما يراه البعض تجاوزًا، فهو يرغب بشدة في تزييف الحقيقة.
وفي هذا السياق، يقول مخرج ملوك الجدعنة: “تدور أحداث المسلسل ضمن أجواء من الواقعية يمتزج فيها الأكشن بالكوميديا مع نكهة رومانسية، لذا سيجد الجمهور نفسه أمام مشهد مضحك يعقبه حدث تراجيدي قد يحول الضحك إلى حزن، وهو ما نعيشه في حياتنا اليومية.. يضاف إلى ذلك تعدد الخطوط الدرامية للعمل، الأمر الذي يحمل للمشاهدين الكثير من المفاجآت على امتداد الحلقات”.
حارة محمد رمضان
أما الفنان محمد رمضان فقد تناول الحارة بمفهوم ثالث بعيدًا عن النموذجين السابقين، حين أخرج “أقبح ما في الأحياء الشعبية”، بحسب متابعين.
ظهر رمضان في عدد من الأعمال الفنية في دور الشاب الفقير الساكن بأحد الأحياء الشعبية، وخلال الأحداث الدرامية يبدأ يظهر الوجه الأسوء للفقر من جهل وعلاقات نسائية متعددة والتجارة بالمخدرات وغيره.
خلال مسلسل الأسطورة يظهر محمد رمضان ابن الحي الشعبي وهو يتحول إلى مجرم يتاجر بالسلاح ويعتدي بالضرب على أبناء المنطقة ويهين الجميع، وتكررت تلك الشخصية في كافة أعمال محمد رمضان، حيث يظهر شاب من العدم ويتحول إلى مجرم كبير ليرسم بأعمال مستقبل أبناء الأحياء الشعبية في ظل الإمكانيات المعدومة والأهداف المشوشة.
الجمهور ينتقدهم: “ملوك الصياعة”
لم يتقبل الجمهور الطريقة التي عرضت بها الحارة المصرية وقاطنيها في الدراما الحالية. وتسببت المشاهد التي ظهر بها “سفينة وسرية” في توصيفهم بأوصاف مخالفة تمامًا لما جاء في اسم المسلسل “ملوك الجدعنة”.
https://twitter.com/_Elsheshtawy_/status/1383741391910563848?s=20
وكانت الممثلة المصرية سماح أنور، أول من انتقدت الأعمال المصرية التي اختارت أن تنقل روح الحارة الشعبية إلى التلفزيون قائلة: “ابن الحلال ما بيشيلش مطوة على فكرة ولا بيحشش، ولا بيستضعف، ولا قليل الأدب، ولا بيشتم البنات والستات علشان هو راجل بقى ولازم نخاف منه وكده ولا حاجة”.
وأضافت سماح عبر حسابها الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك: “وعن ملوك الصياعة بس السنة دي بييسموها جدعنة، وفكنا بقى من حوار دي نماذج من المجتمع والجو البلدي القديم، عايزني أحبه واتعاطف معاه ليه، حتستفيد إيه فهمني”.
https://twitter.com/MahaMoh90073260/status/1383803107457474569?s=20
فيما وجه آخر انتقادات لاذعة إلى العمل ككل، خاصة مخرج العمل فقال أحدهم: “أنا مش شايف ملوك جدعنه فى الصورة، أنا شايف ناس زى البلطجية المخرج عايز يقنعنا بيهم أن دول مثال للجدعنة والمرجلة وبعدين يخلص المسلسل نشوف بقى نسخ مكررة على الكورنيش وفي كل منطقة وكل مكان أمثال البهوات”.
التلفزيون جدد كل شيء إلا النص
في هذا الصدد يقول الناقد الفني خالد شاهين، إن الدراما التلفزيونية تعيش خلال المرحلة الحالية أزمة كبيرة. وأوضح هذه الأزمة في الاعتماد على تحديث جودة التصوير والإخراج دون التعرض للسيناريو بشيء من التجديد. لذلك يقول إن السيناريو في الكثير من الأعمال التلفزيونية التي تخوض الماراثون الرمضاني “مهلل” و”غير ممسوك” بلغة أهل الفن.
وأضاف شاهين في تصريح خاص لـ”360″: “أعتقد أن السبب في ظهور الحالة التي خرج بها مسلسل ملوك الجدعنة يعود إلى أن هناك ورشة سيناريو تم تكوينها من أجل إخراج الحوار بتلك الطريقة. وبناءً عليه ظهر السيناريو والحوار مليئ بالكلمات والجمل التي تصلح لأن تكون تريند، ولكن ليس لإيصال رسالة واضحة ومحددة ومبنية على قواعد”.
وتابع: “في حال أقمنا مقارنة بين ملوك الجدعنة وأي عمل درامي من تأليف أسامة أنور عكاشة أو غيره من أبناء جيله، سنجد اختلافا كبير، تغيب فيها الرسالة، إذ ما ميز جيل السبعينات والثمانينات أن الكتابة كانت تمثل رسالة ونقل للواقع على عكس ملوك الجدعنة. إذ الهدف أن يتم رسم صورة جديدة لمفهوم الجدعنة والمروءة والشهامة”.
واستطرد: “الدراما التلفزيونية لا تنقل الواقع فهي تخلق واقعًا من وجهة نظر مؤلفيه وهو ما يجعلها بعيدة كل البعد عن ملامسة الواقع ونقل ما يعيشه أهل الحارة المصرية إلى الشاشة، لغة ملوك الجدعنة ليست رصد بأي حال من الأحوال لطريقة حديث أبناء الأحياء الشعبية، فهو يقدم واقعا منفصلا ويخلق (تريند) من خلال الحوار الذي ينطق به أبطال المسلسل”.