عبر المحيط الأطلسي، امتدت نحو أوروبا أياد أمريكية طويلة، قوية وثرية، لتصنع انقلابًا في القارة العجوز. الانقلاب رياضي، لا سياسي، ولكن لأنه يخص كرة القدم، وهي أقرب الرياضات إلى عالم السياسة ومنافسات الشعوب، فإن الحكومات الأوروبية، وعلى رأسها الحكومتان الإنجليزية والفرنسية، سبقت الأندية والجماهير إلى محاولة التصدي لذلك التدخل الأميركي، الذي هو، كمعظم تدخلات بلاد العم سام، مغلف بالدولارات التي تدير الرؤوس، والتي تجعل أٌقوى بطولات أوروبا وأعرقها، كالدوري الإنجليزي ودوري الأبطال، مجرد مسابقات فقيرة قياسًا إلى تمويل البنوك الأمريكية الهائل للبطولة الجديدة، بطولة “دوري السوبر الأوروبي”، التي تم إعلان إطلاقها رسميًا يوم الأحد الماضي، والتي تبلغ عائدات الاشتراك بها، مجرد الاشتراك، حوالي 350 مليون يورو سنويًا للنادي الواحد، وهو مبلغ يساوي أكثر من ضعف ما يحصده “الفائز” بدوري أبطال أوروبا، أقوى مسابقات العالم وأعرقها.
تقوم الفكرة باختصار، على إقامة مسابقة سنوية، بين 12 ناديًا من عمالقة العالم في كرة القدم، بينها برشلونة وريال مدريد، مانشيستر يونايتد وليفربول وأرسنال، يوفنتوس وميلان والإنتر، قد تزيد إلى 15 أو 20 ناديًا، خارج إطار دوري أبطال أوروبا، تلعبها تلك الأندية العملاقة الثرية فقط، تتنافس فيما بينها، وتجتذب -بالتالي- عوائد البث التلفزيوني الهائلة لنفسها ولنجومها الكبار، بعيدًا عن سطوة الاتحادات والحكومات، وعن “الرعاع” من الفرق الأصغر والأفقر، التي لن يحق لها فيما بعد مجرد أن تحلم بالتواجد في تلك المنافسات الكبرى المغلقة على أصحابها.
هذه البطولة الجديدة سوف تقتل الدوريات والبطولات المحلية، ستجعلها بطولات “بلا هدف” على حد “الإفيه” الشهير للفنان الراحل طلعت زكريا، فأهم ما يحمّس الفرق وجماهيرها على التنافس في الدوري المحلي، هو أنه يؤهل إلى البطولات الكبرى، حيث يمكن لفريق صغير أن يلتقي ريال مدريد أو برشلونة، فيحصل لا على الشهرة فحسب، بل ويقتسم عوائد النقل التلفزيوني أيضًا، مما يسمح له بتنمية موارده.
إعلان الأندية العملاقة عن مسابقتها “الأنانية”، سبّب صدمة عبر العالم، وأثار الشك حول مستقبل كرة القدم، صدمة دفعت رئيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم إلى إطلاق بعض التصريحات البعيدة كل البعد عن الدبلوماسية، فلم يكتف بوصف المسابقة الجديدة بأنها “بصقة” في وجه عشاق كرة القدم، بل وصف الأندية الـ 12 بأنها “دستة قذرة“!
لم يكتف الاتحاد الأوروبي بأوصاف رئيسه، سرعان ما انهالت التهديدات من الاتحاد، ومن الاتحاد الدولي، بمنع مشاركة تلك الفرق العملاقة في البطولات المحلية والقارية، ومنع لاعبيها من المشاركة مع منتخبات بلادهم، بل ظهرت تهديدات انجليزية – بما أن انجلترا أصبحت خارج الاتجاد الأوروبي بعد البريكست – تتوعد بعدم منح تأشيرات دخول للفرق المشاركة في البطولة الجديدة.
إنها تهديدات قوية بالفعل، ولكن مشكلتها أنها لا تستند إلى قانون، فلا قانون يمنع الأندية من تأسيس مسابقة خاصة، ولا قانون يسمح بمنع لاعب من الانضمام لمنتخب بلاده. والأندية العملاقة الثرية تلك تعرف ذلك، وقد أعلنت أنها ستتوجه إلى المحاكم الأوربية لتعطيل أي قرارات ضدها، إنها أندية تملك المال وطوابير من المحامين وخبرة هائلة في التقاضي، والأهم أنها تلك أهم عناصر كرة القدم: أمهر اللاعبين وأشهرهم.
ثمة من يرى، عن حق، أن تلك المسابقة المخملية المغلقة، سوف تعلن نهاية عصر “الكرة للجماهير”، سوف تجتذب المال والأضواء والتلفزيونات والدعايات، لتترك بقية أندية العالم وجمهورها في الفقر والتجاهل، إنها خطوة رأسمالية كلاسيكية تأخرت طويلاً عن دنيا كرة القدم، في ظل عالم تحكمه بالفعل حفنة شركات من وقت طويل.
وثمة من يرى، أن المسابقة الجديدة ونتائجها تطوّر لما بدأ منذ وقت طويل، إذ يكاد أطفال اليوم لا يصدقون أننا في زمن ليس بالبعيد كنا نشاهد جميع المباريات مجانًا على التلفزيون المحلي، من دون أطباق استقبال واشتراكات ووصلات وتجديد باقات.
قبل حوالي أربعين عامًا، وقت مباراة “فضيحة خيخون” بين ألمانيا الغربية والنمسا والتي تسببت بخروج الجزائر من نهائيات كأس العالم 1982، انتشرت مقولة منسوبة إلى رئيس الاتحاد الدولي وقتها تقول (لو سمحنا بفوز الفرق الصغيرة لن نجد 20 دولارًا لنقتسمها)، كانت تلك المقولة مجرد شائعة، لكن بطولة الأغنياء الجديدة، أو “دوري السوبر الأوروبي”، حقيقة واقعية.