مرت الثانوية العامة بالعديد من المراحل، عبر أكثر من عشرين عاما، مٌخلفة الكثير من المشكلات، والضحايا، لتصبح الشهادة “البلوة” بحسب أحدث تعبير لوزير التربية والتعليم طارق شوقي.

للثانوية العامة قصة طويلة شديدة التعقيد، تمثلت أحدث فصولها في رفض مجلس الشيوخ، خلال جلسته العامة، برئاسة المستشار عبدالوهاب عبدالرازق، مشروع قانون الوزير الذي يهدف  إلى تعديل نظامها ليصبح 3 سنوات.

ويحتسب المجموع الكلى على أساس ما يحصل عليه الطالب من درجات فى نهاية كل سنة دراسية، كما يتيح للطالب أكثر من محاولة فى امتحان نهاية العام لكل سنة دراسية للتحسين برسوم، وهو ما رأت اللجنة فيه شبهة عدم دستورية، لتعارضه مع مبدأ مجانية التعليم، فضلاً عن تكافؤ الفرص بين المواطنين، كما رفض رؤساء الهيئات البرلمانية فكرة الثانوية التراكمية لمدة 3 سنوات، لما تمثله من عبء على كاهل الأسرة المصرية.

أما الوزير الدكتور طارق شوقى، فقال إنه سيطرح خلال الفترة المقبلة على النواب نظاماً جديداً ومختلفاً لتطوير التعليم فى مصر، لن يكون فيه ثانوية عامة ولا تنسيق، وسيتم تطبيقه فى 2030.

وبحسب الإحصائيات، فإن الثانوية العامة تضم نسبة 45% من مجموع الطلبة في مرحلة التعليم الثانوي بكل أشكاله، وبلغ عدد طلاب الثانوية العامة للعام الماضي على سبيل المثال 676 ألف طالب، منهم 291 ألفا لشعبة علمي علوم، و107 آلاف لشعبة علمي رياضيات، إضافة إلى 262 ألفا بالشعبة الأدبية.

ولكن للثانوية العامة فصول سابقة على الوضع الراهن فما هي؟

تبدأ القصة 1994، وهو العام الذي تأسس فيه أول نظام للثانوية العامة بنظام العامين على أن يختار الطالب مواد الدراسة، والتي كانت تنقسم إلى مواد إجبارية ومواد اختيارية يختارها الطالب عن التخصص في الصف الثاني الثانوي.

وهو النظام الذي تبناه الوزير حسين كامل بهاء الدين، وصاحبه نظام تحسين المجموع، عبر تمكين الطالب من دخول الامتحان لأكثر من مرة لتحسين مجموع درجاته.

ساد اللغط حول هذا النظام لإخلاله بمبدأ تكافؤ الفرص، والأعباء الاقتصادية التي يضيفها على كاهل الأسرة، حتى جاء عام 1996 حين تم إلغاء نظام المواد الاختيارية، وظلت الثانوية العامة عبارة عن عامين فقط  حتى عام 2012.

وبعد الثورة بسنوات قليلة وتحديدا في عام 2013 بدأ العمل بنظام جديد للثانوية العامة، وتم إلغاء نظام العامين، لتكون الثانوية العامة عام واحد فقط مع وجود 3 شعب أدبي، علمي علوم، وعلمي رياضة.

 

طارق شوقي

 

لاحقا، أقر الدكتور طارق شوقي وزير التربية والتعليم نظاما جديدا للثانوية العامة، يسمى بالنظام التراكمي، ويعتمد على نظام العامين لكن مع إلغاء الثلاث شعب ليصبح شعبيتن فقط أدبي وعلمي.

وأوضح شوقي حينها أن السنة الأولى الثانوية سنة انتقالية تدريبية دفعة 2018 – 2019، والدفعات المتتابعة في السنوات القادمة، ويعتمد النظام التراكمي على حساب الدرجات لامتحانات الصفين “الثاني والثالث الثانوي”، عن طريق حساب متوسط الدرجات، ولكن التشعب في الصف الثاني الثانوي سوف يكون إلى علمي وأدبي “فقط” لنفس الدفعة، وما بعدها ولا عودة إلى نظام علمي علوم وعلمي رياضيات.

 

 

وعاد شوقي لتغيير النظام في العام 2020-2021 ليصبح امتحان إلكتروني يتم تصحيحه بصورة إلكترونية باستخدام نظام التقييم الجديد، إلى جانب تصميم 4 نماذج امتحان مختلفة عن طريق إنشاء بنوك أسئلة لتقديم نماذج امتحانات مختلفة بنفس درجة الصعوبة، وأيضا إتاحة فرصة امتحان إضافية للطلاب في أغسطس على أن يتم احتساب المجموع الأعلى، وعودة التشعيب مرة أخرى الذي سبق وأن لغاه ليصبح “علمي علوم، وعلمي رياضة”.

وحاليا يقترح الوزير العمل بنظام الثلاث سنوات، والاستعانة بالأونلاين لإجراء الامتحانات، ولكن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن، فالسيستم دايما “واقع”، حتى خلال الامتحانات التجريبية الحالية.

فهل هو تطوير أم رفع لتكلفة شهادة الثانوية العامة؟

في كلمته أمام مجلس الشيوخ قال شوقي إن “مربط الفرس هو الثانوية العامة التى يتعامل معها البعض كصناعة، من خلال الدروس الخصوصية، ودى المصيبة اللى عندنا، الثانوية العامة جرّفت التعليم، ونسعى خلال السنوات الأخيرة لتطويره والقضاء على الدروس وعودة مجانية التعليم».

وأشار شوقي إلى أن «هناك 3 بدائل إلكترونية لإجراء الامتحانات من خلال التابلت، وبدائل أخرى للنظام الورقى، والامتحانات ستطبق إلكترونياً وورقياً، ويوجد طلاب المنازل والسجون، حيث ستجرى الامتحانات بنسبة 80% من خلال التابلت، والباقى ورقى، والنظام الورقى أيضاً سيتم تصحيحه إلكترونياً».

اقرأ أيضا:

“نظام التحسين”.. يلغى تكافؤ الفرص فى الثانوية العامة

 

أفكار طارق شوقي عن الثانوية العامة

يرد على الوزير الخبير التربوي محمد عبدالعزيز الذي اعتبر قراراته أبعد ما تكون عن التطوير، مشيرا إلى أن ارادة التحديث تستلزم رؤية شاملة، لم تمتلكها الإدارات المتتابعة للوزارة، على مدار عقود، خاصة الإدارة الحالية.

ويضيف عبدالعزيز أن الغرض الأساسي من القرارات المتضاربة للوزير ليس التطوير كما يدعي، بل تقليل أعداد الطلبة المتخرجة من الجامعات، بدلا من البحث في تأهيل هؤلاء الشباب لسوق العمل بالشكل المناسب، كما تسعى دول العالم التي تمتلك نظاما تعليميا جادا.

وتساءل عبدالعزيز حول جدية قرارات الوزير بتطوير التعليم من خلال منظومة التابلت، التي أهدر فيها المليارات، فيما أن حال البنية التحتية في تدهور ولا يتناسب مع فكرة التابلت المزعومة، في بلد لا يملك شبكة قوية وعلى طول “السيستم واقع”.

وتابع عبدالعزيز أفقد الوزير باقتراحاته المتضاربة الطلاب الدافعية في التعلم، مضيفا “ماهو شعور الطالب الذي يذهب لامتحانه ليجد السيستم واقع” في حين ينكر الوزير الأمر، ويتجاهله، ويتهم أعضاء المجلس بالتآمر، فتفقد المؤسسة مصداقيتها أمام الطلبة، والشعب كله.

وأردف: “حتى في الثانوية الأمريكية التي يريد الوزير حذو حذوها، ليس هناك هذا الكم من الطلاب، كما أن معامل الأمان في غاية القوة، يجب أن نكون أكثر واقعية”.

أما اقتراح الثلاث سنوات وتراكمية الدرجات فيلفت عبدالعزيز إلى أن ملف الثانوية العامة بمثابة أمن قومي فمصير أكثر من 600 الف أسرة يرتبط بهذه الشهادة، لذا يجب على الوزير الانتباه لخطواته والرجوع عن مثل هذه الاقتراحات.

فالنظام المقترح قد يعصف بحياة هؤلاء الأسر التي ستعيش كابوس الثانوية العامة بشكل مضاعف وعبر ثلاث سنوات، وبدلا من الحد من الدروس الخصوصية كما يدعي الوزير سوف تتضاعف ومعها يسوء الوضع السئ بالأساس.

ويضيف عبدالعزيز : عاني الطلاب في التسعينيات من نظام التحسين، والثانوية كعامين، وتم إلغاءها لاحقا نظرا لاخلالها بمبدأ تكافؤ الفرص، وكذلك زيادة الأعباء على الأسرة المصرية، فما الفائدة من إعادة تجربة حكم عليها بالفشل من قبل؟

وكانت نتائج بحث الدخل والإنفاق، التي أعلنها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء سابقا، كشفت أن متوسط إجمالي ما ينفقه المصريون، نحو 26 مليون أسرة في جميع محافظات الجمهورية، على الدروس الخصوصية ومجموعات التقوية يبلغ نحو 47 مليار جنيه، بنسبة تمثل 37.7% من إجمالي الإنفاق على قطاع التعليم.

يلتقط الخبير التربوي دكتور كمال مغيث طرف الخيط، ويقول: تنبع أهمية الثانوية العامة كأحد مراحل التعليم من كونها حصيلة مجهود الأسر على مدار 12 عاما، فلا يمكن المخاطرة بهذا المجهود، عبر اقتراحات غير مدروسة.

يسترجع الدكتور مغيث الحديث عن أهمية شهادة الثانوية العامة، وكونها الحدث الأهم في التعليم المصري، فيقول: “يعد الحديث عن الثانوية العامة حديث لا ينقطع، بين أبناء الطبقة المتوسطة، والمنخفضة التوسط، الذين يجدون فيها فرصة لتحسين مستقبل أولادهم، وترقيتهم اجتماعيا”.

الثانوية العامة من الأزمة إلى الكارثة

“تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي، تتصاعد تدريجيا حتى تتفق مع المعدلات العالمية“.

المادة 19 من الدستور

يصف الخبير التربوي كمال مغيث السياسات المصرية عبر سنوات في هذا الملف الحساس بالفشل الذريع، منذ أن توجهت إلى خصخصة التعليم في عهد الرئيس الراحل السادات تحديدا، ثم ازداد الأمر سوءا عبر العهود المتتالية، حتى احتللنا المراكز الأخيرة في جودة التعليم.

وتقدمت مصر في معيار جودة التعليم لتقفز من المركز الـ51 إلى المركز الـ42، وفقا لتصنيف “Us news” العالمي في العام 2020.

كما أصبحت الثانوية شهادة باهظة التكلفة، عبر الإخلال بمبدأ مجانية التعليم، الذي كافحت من أجله الشعوب على مدار سنوات، لافتا إلى اختزال هذه المرحلة المفصلية في الامتحانات بشكل مخل.

كمال غيث

“الدولة هي المسؤولة بالأساس” هكذا أقر الدكتور مغيث، تجاوزت الإدارة الحالية بقيادة طارق شوقي مرحلة الأزمة إلى الكارثة، فبفضله تحولت حياة الأسر إلى عذابات نفسية، ومالية، مطالبا بمحاكمة المسؤولين عن تخفيض ميزانية التعليم المنصوص عليها بالدستور من 4%، إلى 2.8%، لمخالفتهم مواده.

كما يلفت إلى أن السياسة العامة ترفع شعار “مفيش حاجة ببلاش” ووضع أنظمة الرسوم والمصاريف المبالغ فيها، بدأت منذ ظهور التعليم الخاص، الذي لم تعرفه مصر، إلا في السبعينات.

هذه السياسة تحدث عنها طارق شوقي بوضوح في كملته الأخير باجتماع مجلس الشيوخ بقوله إن “مجانية التعليم ضاعت من زمان، ولا يوجد طفل ينجح في سنة نقل من غير فلوس، ولا يوجد نجاح في ثانوية عامة من غير فلوس”.

ومعها ارتبط التعليم وخاصة الثانوية العامة بالقدرة المالية للأسر، وفقدنا مكتسبات وطنية، كان على رأسها مبدأ العدالة التربوية، ومع الاقتراحات الراهنة أتوقع مزيدا من تدهور الأحوال على حد قول مغيث.

ولفت مغيث إلى أن منظومة التابلت بدورها تعتمد بالأساس على التكنولوجيا غير المجانية بدورها، او متوفرة للجميع، في مجتمع أغلبه من الفقراء، ومحدودي الدخل.

اقرأ أيضا:

من خذل الدكتور طارق شوقي؟

 

التطوير الذي لايناسب أسواق العمل

بحسب الدكتور مغيث، فإن أي تطوير مزعوم لايمس إلا منظومة الامتحانات، وبالتزامن مع غياب القدرة على تقييم مهارات الطالب الحقيقية، أو صلته بالعصر، والعمل على اثقال شخصيته.

تقييم مهارات الطالب في طريق تأهيله لسوق العمل هو الرأي الذي اتفق عليه الخبراء التربويين، وعند هذه المرحلة من الحديث يعود الدكتور محمد عبدالعزيز ليذكر بأن القرارات الأخيرة للوزير دعت الطلاب إلى التهرب من الشعب العلمية، والاكتفاء بالحصول على أي شهادة علمية، حتى وإن لم تتناسب مع متطلبات سوق العمل، ما يساهم في ارتفاع مطرد بنسب البطالة، والمقنعة منها أيضا، بعد أن اضطر الخريجين إلى الالتحاق بأعمال لا تتناسب مع تخصصاتهم العلمية.

غير أن تلك القرارات تأتي بالمخالفة لأغلب السياسات التعليمية العالمية التي تحفز الطلاب على دراسة المواد العلمية، واللغات، واصفا الوضع باعتباره قوانين بلا منظومة حقيقية، لا ترتكن إلى المعايير الدولية، والقومية أيضا.

ويضيف عبد العزيز: “نملك مناهج تعود لعام 1983، وتكدس طلابي، لا يتناسب مع محدودية عدد المدارس وكفاءتها، وكذلك مهارات المدرسين شخصيا التي لا تتناسب مع تلك الاقتراحات، في حين يصر الوزير على جعل نظام الامتحانات إلكترونيا”.

وحول تأهيل الطلاب لسوق العمل يرى الدكتور كمال مغيث يرى أن العمل بالنظام التراكمي ربما كان فرصة في تمهيد الطريق إلى ذلك، ولكنه في الوقت نفسه نفى أن يكون النظام المقترح من قبل الوزير هو الحل، بل اعتبره يقتل الفكرة من الأساس، الذي يضاعف من حجم الدروس الخصوصية إلى ثلاث سنوات، ويزيد من الأعباء الاقتصادية.

وأوضح مغيث أن فكرة التراكم بشكلها العلمي والحديث لا تعني فكرة الامتحان الواحد بدرجاته، ولكنها تعني تجميع الدرجات عبر العمل طوال العام، ثم تقييم درجات الطالب، ومناقشته للوقوف على مهاراته العلمية كانت أم النظرية والفلسفية، أو حتى عبر امتحان في المهارات في حال خالف رأي الطالب درجاته.