يواكب 18 أبريل يوم التراث العالمي، كما سيكون قد مرّ علي اتفاقية التراث العالمي لليونسكو لعام 1972 ما يقرب من خمسين عاماً. ولذلك فإن هناك ضرورة لإعادة النظر في هذه الاتفاقية من منظور ما جرى خلال العقود الخمسة الماضية من أحداث عالمية، خاصة في مفاهيم التراث ودوره في المجتمع، وغياب التمثيل المتكافئ من الدول الفقيرة علي قوائم التراث العالمي، واستغلال التسجيل على قائمة التراث العالمي لأغراض تجارية تتعارض مع الوظائف المجتمعية للتراث.

دور عناصر التراث العالمي في التنمية المستدامة

ومن هذا المنطلق تشكلت في 2021 “مبادرة تراثنا العالمي” https://ourworldheritage.org/ لتمثل المجتمع المدني وكان من أهم أهدافها، في نظري، هو التأكيد على دور عناصر التراث العالمي في التنمية المستدامة، اتساقًا مع أهداف التنمية المستدامة التي بدأت بالمؤتمر الذي عقدته الأمم المتحدة في 1992 عن التنمية والبيئة.

وكان من أهم نتائجه أن جدول أعمال القرن الحادي والعشرين لابد أن ينصب على تفعيل مفاهيم التنمية المستدامة، بما يعني ذلك من المواءمة بين تنمية الموارد والإنتاج لمواجهة متطلبات الحاضر ومتطلبات أجيال المستقبل مع الحفاظ على سلامة المنظومة البيئية التي تمثل الركيزة الأساسية للبقاء والرخاء البشري.

وفي 2015، اعتمدت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أهداف التنمية المستدامة العالمية SDGs، باعتبارها دعوة عالمية للعمل على إنهاء الفقر والجوع وتحسين الصحة وتوفير العمل اللائق في إطار من التعليم النافع والنمو الاقتصادي الرشيد وتحجيم الاستهلاك الجامح، وحماية الحياة البرية والجوية بتنوعها، وضمان تمتع جميع الناس بالعدالة والمساوة والإنصاف والسلام بحلول عام 2030 (https://sdgs.un.org/goals ).

التضاد المزعوم بين الأصالة والحداثة

ولتحقيق هذه الأهداف، لا يمكن أن نتجاهل دور التراث في تشكيل المجتمع وتحديد مساراته، بعيدًا عن التضاد المزعوم بين الأصالة والحداثة، والشرق والغرب، والسلف والخلف. فما من شك في وحدة الحضارة الإنسانية، وأن الحضارة الحديثة التي نتشارك جميعًا فيها بدرجات متفاوتة نتاج تراكمي منتخب للمعارف البشرية منذ بدء الخليقة.

وعلينا أن نتخلص من المنظور المستحدث الذي قسّم العالم إلى دول غنية متقدمة أخرى فقيرة متخلفة في إطار التوسع الاستعماري للدول التي سبقت إلى التحول الصناعي وما واكبه من قومية متعصبة وغلبة عسكرية وسيطرة مالية على موارد وأسواق العالم. فليس التقدم محض تقدم تقني، بما يمكن أن نستنبطه مما يمر به العالم الحديث من محن اقتصادية وسيطرة فئات محدودة تتمتع بالثراء والسطوة على حساب أغلبية محدودة الدخل والحول، وما كان من تدمير وتهديد وتلويث للموارد الطبيعية من محيطات وأنهار وبحيرات وغابات وغطاء حيوي.

إعادة النظر في مفاهيم التراث

يحتاج كل هذا إلى إعادة نظر جذرية في مفاهيم التراث الذي يخرج عن المفهوم الضيق للدين كما في الأدبيات السلفية لجماعة الإخوان المسلمين ومن على هواهم من مؤسسات وجماعات وأفراد. ولذلك يقدم مفهوم التراث العالمي بمعنى كل مكونات ما نستخلصه من الماضي من آثار ومواريث مجتمعية نعتز بها ونُجِلها لما تساهم به في توجيه حاضرنا إلى ما هو فيه نفعنا وصلاحنا وهدايتنا.

ومن هذا المنظور نحتاج إلى مراجعة خطاب الهوية الأحادي الذي يختزل حضارتنا المصرية التليدة في فترة أو أخرى من تاريخنا الحضاري المديد، وأن نعتني بأسس الحضارة التي أرساها ورسخها المصريون عبر التاريخ وتتلخص في تحقيق “الماعت” بما تعنية من منظور متكامل للحوكمة والعيش من خلال تعميم الخير، والاحتفاء بالجمال، وتحقيق العدالة، والسعي للمعرفة الصادقة.

وأن نقوم بنشر هذه الأسس في كل مراحل التعليم لمواجهة التطرف والتعصب والتغريب وتعميق الانتماء إلى الوطن الذي احتضن مراحل التحولات التاريخية التي لم تزعزع إيمان المصريين برسالتهم ومبادئهم الحضارية التي أنارت للعالم طريقه واستلهمها الأوربيون والآباء المؤسسون لأمريكا  نقلاً عن الحضارات اليونانية والرومانية في فترة  تحولهم من عصور الظلام إلى عصر التنوير.

تعميق الوعي بمقومات الحضارة المصرية

ولعلنا لا نعلي التربح من الآثار والمواريث الثقافية على دورها في توضيح ما تعنيه كذخيرة فكرية وما تمثله من حكمة مجتمعية وثقافة إنسانية ووسيلة لكي يتعرف الفرد منها على آليات تكوينه وديناميكيات المجتمع التي ساهمت في تشكيل هويته وتوجيه سيرورته وصيرورته.

ويمكن تحقيق ذلك بتوظيف التراث الأثري والثقافي من خلال أنشطة تنموية تقدم فرص تدريب وتعليم وعمل للأهالي والعاملين بالسياحة والقائمين على المتاحف تساهم في دعم الدخل القومي والمحلي، وتساهم في نفس الوقت في تعميق الوعي بمقومات الحضارة المصرية، وتحفيز المشاركة المجتمعية في إدارة التراث، وتطلق العنان للتعامل مع التراث كمورد متجدد من خلال الإبداع الفكري والفني والتقني.

على أن يتم ذلك من خلال الحفاظ على المواقع والموارد التراثية المرتبطة بها، وسلامة النظم البيئية المرتبطة بها. كما تقدم الحضارة المصرية مجالاً مفتوحًا لتناول مشاكل العالم الحالي كتغيير المناخ، وأزمة المياه، والصراعات المسلحة، والتعايش المجتمعي. ومن خلال ذلك يمكن لمصر أن تستعيد تفعيل رسالتها الحضارية وأن تساهم بالفعل في تشكيل وتوجيه المجتمع الدولي نحو الصالح العام والنفع المشترك للبشرية.

…………………………………………………………….

دكتور فكري حسن

أستاذ جامعي واستشاري سابق باليونسكو 2003-2009