ينتظر بكر رفاعي، الذي قضى 15 عامًا في بنغازي، عودته إليها، بفارغ الصبر، بعدما ظل 7 سنوات يعاني شبه التعطل منذ خروجه منها بعد وقف تدفق العمالة المصرية إلى ليبيا.
يتذكر الشاب الأربعيني المبالغ الكبيرة التي سجلها من العمل كفني توصيل كهرباء بليبيا منذ أن كان عمره 17 عامًا.
فكر رفاعي في العودة أكثر من مرة طوال السنوات الأخيرة لكنه كان يعدل في قراراته باستمرار، تماشيًا مع تحذيرات الحكومة المصرية من تدهور الأوضاع الأمنية، وإمكانية تعرض المصريين للانتقام في الصراع الذي كان دائرا بيت الشرق والغرب.
داعبت الزيارة الأخيرة لرئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي و11 وزيرا من حكومته إلى ليبيا أحلام كثر يمنوا أنفسهم العودة إلى ما كانوا عليه قبل سنوات الانفلات الأمني في الجارة الغربية، في ظل رغبة مشتركة بين الحكومتين في إعادة الإعمار بسواعد مصرية.
وعكست زيارة الوفد الرسمي غير المسبوق من مصر لطرابلس حجم الرهانات الكبيرة للحكومة المصرية على البلد المجاورة في تحقيق منافع للاقتصاد المحلي تتراوح بين إعادة استقبال نحو مليوني عامل، وجذب استثمارات جديدة، وفتح منافذ أكبر لتسويق المنتجات المصرية.
حملت زيارة الوفد، الذي ضم رئيس الوزراء مع 11 وزيرًا، دلالات سياسية عدة على انفتاح مصر على جميع الأطراف في ليبيا وليس الشرق فقط، ما يغلق أكثر من منفذ للتدخل الأجنبي خاصة التركي الذي حاول كثيرًا عزل غرب ليبيا عن الشرق والدفع به نحو الانشقاق، وصولا إلى خيار الدولتين.
العلاقات المصرية- الليبية
تسعى مصر إلى تحقيق دفعة للعلاقات الثنائية المتوقفة منذ ما يزيد على العقد، من بينها اجتماعات اللجنة العليا المشتركة بينهما التى لم تنعقد منذ 2009، ومراجعة جميع الاتفاقيات من أجل تحديثها، ومن بينها اتفاقيات قديمة مثل اتفاقية 1990 حول التجارة المشتركة بين البلدين والأخرى المتعلقة النقل والركاب، وتحتاج إلى تحديث اتساقا مع التحديات التي تواجهها المنطقة.
يتصدر ملف العمالة العلاقات بين “القاهرة ــ وطرابلس” الاتفاقيات بين الجانبين، خاصة بعد توقيع اتفاق قبل أسابيع بين وزارة العمل الليبية والقوى العاملة المصرية على تسهيل إجراءات دخول العمالة المصرية، وتذليل أي عقبات تقف في طريقها.
تسعى ليبيا إلى تنظيم تدفقات العمالة المصرية وفقًا لاحتياجات سوق العمل الداخلية، وألا يتم منح أي عامل مصري تصريح عمل إلا إذا كان وجوده بغرض العمل وليس للزيارة أو للمرور وفقًا للإجراءات المتفق عليها بين البلدين على أن يتم استيفاء إجراءات العمالة التي يتم اختيارها بالتنسيق مع مكتب ملحقي العمل الليبي في مصر.
لا توجد إحصائية رسمية حول عدد العمالة المصرية في ليبيا حاليًا لكن اللواء أبوبكر الجندي، رئيس الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، قدر أعداد المصريين المتواجدين بها في 2015 بما يتراوح بين 200 و250 ألفًا مقابل مليون شخص في الفترة التي سبقت إعدام مصريين من الأقباط يعملون بليبيا.
من المقرر أن يسهم قرار عودة العمالة في دخول فئات جديدة من المهنيين المصريين بعدما ظلت ليبيا قاصرة على الحرفيين والمعلمين في المقام الأول، خاصة بعدما وافقت مصر خلال زيارة الوفد الرسمي على إيفاد بعثات وقوافل طبية مصرية للمساهمة فى تخفيف أزمة نقص الكوادر الطبية، وكذا مساعدة القطاع الطبى فى ليبيا وتزويده بما يحتاج من أدوية وبروتوكولات علاج كورونا، ودعم قطاع الصحة فى ليبيا خاصة فى مجال إعادة هيكلة وزارة الصحة بها، والذي ربما يتضمن تعزيزها بكفاءات مصرية.
ليبيا وحلم العمالة المصرية
وفي فبراير الماضي، وصلت أول دفعة من الطاقم الطبي المصري إلى مستشفى الشهيد محمد المقريف المركزي التعليمي بأجدابيا، بعد التعاقد معه من قبل إدارة المستشفى، وتم الاتفاق على دفعة أخرى من الكوادر الطبية وفق رابطة المصريين في ليبيا التي تشير إلى بدء تدفق العمالة المصرية مجددًا في تخصصات جديدة.
لم يصدر من الجانبين المصري والليبي حتى الآن تعليقا على مشكلة فرض رسوم على المسافرين الراغبين في دخول الأراضي المصرية بواقع 25 دولارًا أمريكيًا تدفع عند منفذ الوصول، والتي طالبت السفارة الليبية بمصر خلال الشهر الماضي بإلغائها، وقبلها رفع السلطات الليبية رسوم الدخول والخروج للأشخاص والمركبات من الجانب المصري إلى أراضيها وكذلك مغادرتهم الأراضي الليبية التي تسببت في تأجيل الكثير من العمالة المصرية خروجها توفيرًا للنفقات.
لا تزال ليبيا حلمًا للعمالة المصرية لتقارب لهجتها مع اللهجات السائدة في يني سويف والفيوم وعلاقات المصاهرة بين القبائل المشتركة بينهما،بجانب ارتفاع العائد من العمل فيها وارتفاع قيمة الدينار الكبير ليعادل 3.10 جنيه مصري، بجانب سهولة السفر منها وإليها بمبالغ بسيطة.
يذكر جدول أعمال الوفد المصري، الأخير، كثيرًا بفترة الانتعاش في العلاقات بين البلدين في الرئيس الأسبق جمال عبدالناصر، والتي شهدت توافد عدد كبير من العمالة المصريين في التخصصات المختلفة للعمل في ليبيا، بجانب لقاءات مستمرة بين مؤسسة الكهرباء الليبية والمصرية لانتداب عد ضخم من المهندسين والفنيين حتى أن مؤسسة بنغازي للكهرباء ضمت لوحدها نهاية الستينيات نحو 39 مهندسا و81 فنيًا مصريًا.
وفي الستينيات أيضًا، تم ندب عدد كبير من المساحين ومهندسي الطرق والنقل وخبراء الطيران، ووصلت العلاقات إلى انتداب رؤساء مجالس إدارات الهيئات المصرية كالتصنيع واستصلاح الأراضي والمضارب والكهرباء والتخطيط والإسكان والتعمير للعمل في طرابلس بجانب عملهم في مصر ليقدموا خبرات استشارية مستمرة للجانب اللييبي.
تمثل عقود إعادة الإعمار والبنية التحتية أحد الملفات الهامة التي تسعى مصر للاستفادة منها حاليًا بداية من البنية التحتية كمساهمة الشركات المصرية فى إنشاء محطات توليد كهرباء فى ليبيا، حتى تستفيد ليبيا من التجربة المصرية فى حل مشكلة نقص الطاقة والتحول من العجز إلى الفائض.
مبالغ ضخمة
يقدر خبراء اقتصاد حجم المبالغ التي يحتاجها إعادة إعمار ليبيا بنحو 100 مليار دولار وهي كعكة مغرية لشركات المقاولات بالعالم، لكن المقاولون المصريون يملكون الأفضلية في ظل عوامل القرب وتوافر مواد البناء محليًا في مصر وتوافر شبكة طرق يمكن نقلها بسهولة.
رغم ثراء ليبيا بالنفط وقلة عدد سكانها لكنها تعاني من نقص حاد في الكهرباء يصل في الشتاء إلى 1000 ميجاواط وإلى 2500 ميجاواط خلال الصيف، إذ تنتج الشركة 5500 ميجاواط، بينما حاجة البلاد لتغطية الاستهلاك تقدر بـ6500 في الشتاء و8000 ميجاواط خلال الصيف.
تعمل في ليبيا 10 محطات لإنتاج الطاقة الكهربائية،لكنها غير كافية للإنتاج، وكانت الدولة تملك خط الإنشاء محطة غرب طرابلس بقدرة 1400 ميجاواط بجانب محطة للتوليد في سرت بقدرة إنتاجية 1400 ميجاواط، وكلا المشروعين متوقفا منذ عام 2011 بسبب المشكلات الأمنية.
تقطع مصر عبر ذلك التعاون المحاولات التركية التواجد بذلك الملف ومنها شركة “جاليك” القابضة للطاقة الكهربائية والتي كان يديرها “بيرات البيرق” صهر أردوغان، قبل أن يتركها لشقيقه يافوز ، وشركة الكهرباء التركية “كارادينيز باور” التي عن أبدت رغبتها في المساهمة في حل نقص الكهرباء في ليبيا.
وعرضت مصر خلال الزيارة تنفيذ مشروعات إسكان بمستوى عال من الكفاءة وفى فترة زمنية قصيرة، والمساهمة فى تحديث وتطوير قطاع المياه ومحطات الصرف الصحى فى ليبيا، والملف الأخير شديد الأهمية بالنسبة للحكومة الليبية في ظل التحذيرات المستمرة للأمم المتحدة من مخاطره الصحية على الليبيين.
وحذرت قبل شهور منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” من “كارثة إنسانية وشيكة” تهدد ملايين الليبيين، مؤكدة أن 4 ملايين مواطن (من بينهم 1.5 مليون طفل) يواجهون نقصا وشيكا في المياه بعد خروج الكثير من الآبار عن العمل؛ بسبب الاعتداءات المتكررة على منظومات النهر الصناعي وارتباط 45% فقط من المنازل والمؤسسات في ليبيا بالشبكة العامة للصرف الصحي.
تبادل تجاري
اتفق الوفد المصري على إقامة معرض للمنتجات المصرية فى بنغازي، وعقد منتدى لرجال الأعمال من الجانبين بعد تراجع حركة التجارة بين البلدين في السنوات الأخيرة من 2.5 مليار دولار عام 2010، إلى نحو 500 مليون دولار في 2018.
ووفقا للتقييم الشامل للصادرات المصرية إلى إفريقيا شمل الفترة من 2011 حتى 2019،تتصدر ليبيا قائمة الدول التي تستحوذ على الصادرات المصرية إلى القارة السمراء،بنسبة 17.43% من إجمالي الصادرات، وبقيمة بلغت 830 مليون دولار،تليها تونس بـ15.51% من صادرات مصر لإفريقيا خلال 2019 بـ 739 مليون دولار،ثم المغرب بـ585 مليون،والجزائر بـ557 مليون،والسودان بـ467 مليون.
ويؤكد سمير نعمان، عضو المجلس التصديري لمواد البناء، أن الشركات المصرية تعتبر ليبيا امتداد للسوق المحلية بسبب عامل القرب بينهما، خاصة أن ليبيا من الممكن أن تكون منفذا واسعاً لنفاذية المنتجات المصرية خاصة قطاع مواد البناء.
الرخام المصري
تأتي ليبيا في مقدمة الدول التي تستورد الرخام المصري بنحو 73.14 ألف طن بقيمة 10.69 مليون دولار في يناير وفبراير الماضيين، كما استوردت حديد وصلب بنسبة 161 % خلال الفترة ذاتها بقيمة 3.508 مليون دولار مقابل 1.346 مليون دولار خلال الفترة ذاتها.
يقول نعمان إن السوق الليبية ضخم ويمكنها استيعاب 3 ملايين طن من حديد التسليح وكميات كبيرة من الأسمنت ومنتجات متعلقة بإعادة الإعمار، والشركات حاليًا تنتظر نتائج الزيارة الأخيرة للوفد المصري من أجل الدخول للسوق الليبية والفوز بالفرص الهائلة التي تضمها.
وتستقبل ليبيا حاليا مختلف أنواع الصادرات المصرية من السيراميك والدهانات ومواد البناء والأثاث والسلع الغذائية والزراعية، خاصة المنطقة الشرقية بليبيا التي تستحوذ على نحو 70% من الصادرات المصرية الداخلة إلى الدول المجاورة.
وأبدت وزارة النقل لتسيير خطوط ملاحية مع الموانئ الليبية، كما تم الاتفاق على إعادة الطيران المباشر، ما يجعل قطاع النقل تحديدا من أهم المشروعات التي يعول عليها البدلين في ظل وجود مشروعات القطار السريع إلى بنغازي ، وإعادة تفعيل مشروعات السكك الحديدية بين مصر وليبيا كانت ضمن الاتفاقيات العشر التي وقعتها البلدان في العام 1991، والتي من بينها حرية تنقل الأفراد والبضائع.
استثمارات مشتركة
تستهدف مصر إلى جذب المزيد من الاستثمارات اللليبية إليها والتي تنامت كثيرا خلال العقد الأخير خاصة في مجال الزراعة بالصحراء الغربية الذي يعول عليها البلدين في تحقيق الأمن الغذائي بجانب السياحة والعقارات، خاصة مشروع الصالحية بالإسماعلية الذي يبلغ حجمه 33 ألفًا و475 فدانًا.
ويشير تقرير لوزارة الاستثمار المصرية، إلى أن الاستثمارات الليبية تعد من أهم الاستثمارات القائمة والنشطة فى مصر من حيث الكم والكيف، فهناك 630 شركة تحمل مساهمات ليبية فى مصر، وجميعها يمثل شراكات كبيرة وناجحة، وكانت ليبيا ضمن قائمة الدول الخمس الأعلى من حيث حجم الاستثمارات فى مصر، غير أن استثماراتها أصبحت تأتى حالياً فى المركز الثامن، نظراً للظروف الداخلية التى شهدتها البلاد عقب ثورة 17فبراير 2011.
لدى ليبيا استثمارات مباشرة وغير مباشرة في القطاع المصرفي بنحو 3 مليارات دولار تتوزع بين بنكي المصرف العربي الدولي الذي تمتلك فيه الحكومة الليبية 11628 سهما بقيمة 232.5 مليون دولار بنسبة مساهمة 38.76%، وبنك «قناة السويس» ويمتلك فيه المصرف الليبي الخارجي 23.94% بقيمة 478.8 مليون جنيه، بجانب استثمارات غير مباشرى في بنكي الشركة المصرفية العربية الدولية وقناة السويس .
ووفقًا للسفارة الليبية بالقاهرة، فإن أهم الشركات العاملة فى مصر هي: ليبيا للاستثمار، ليك سايد للاستثمارات السياحية والعقارية، ليبيا أويل، العربية للمشروعات السياحية، مركز التجارة العالمي، العربية البحرية لنقل البترول، (س. ل. م) للاستثمارات الزراعية والصناعية، الدولية للخدمات الاستثمارية، العربية للمشروعات الزراعية، السادس من أكتوبر للمشروعات الزراعية.
مصر تسعى لعقود إعادة الإعمار
وتملك مصر وليبيا كم كبير من اتفاقيات التعاون التي تسهل التكامل الاقتصادي والتجاري بينهما بجانب عضوية كل منهما في تكتلات واتفاقيات تجارية متعددة الأطراف،منها: اتفاقية الكوميسا، والنظام الشامل للأفضليات التجارية،والنظام المعمم للمزايا. لكن خبراء يطالبون بتدشين لجان مشتركة،ومعارض مستمرة من أجل تعزيز التعاون بينهما.
ويقول الخبير الاقتصادي محمد كمال، إن مصر تسعيى للانخراط بقوة في عقود إعادة الإعمار بالدول العربية خاصة في ظل النجاح الكبير الذي حققه القطاع العقاري بمصر في السنوات الأخيرة وارتفاع مساعمته في النمو الاقتصادي ليبلغ 17%، بجانب ملف العمالة الذي يساعد كثيرا جهود الحكومة المصرية في الحد من البطالة، فليبيا كان يصل عدد العمال الشرعيين فيها لقرابة المليونين ومثلها بصورة غير شرعية.
وقال كمال، ـ”مصر 360″، إن البلدين لديهما حاليا الجدية السياسية لنقل المشروعات السابقة إلى أرض الواقع ومن بينها مشروع لإنشاء شركة مشتركة للمصايد، وإنشاء مدينة الفاتح في التجمع الخامس وإقامة مشروعات مشتركة في الدول الأفريقية جنوب الصحراء،والتعاون بين البورصة المصرية وسوق الأوراق المالية الليبية.
تسعى الحكومة المصرية حاليًا لتوظيف انفتاحها على جميع الأطراف في ليبيا إلى تعزيز التكامل الاقتصادي بين البلدين والحيلولة دون دخول أطراف إقليمية تسعى لتحقيق أجندتها الخاصة تحت ستار من الدعم الاقتصادي، خاصة في ظل توافر جميع عناصر الشراكة من القرب الجغرافي والروابط المشتركة وسهولة التحرك بين الجانبين لكنه يواجه تحديات الاستقرار الأمني الذي لم تصل إليه ليبيا حتى الآن.