أثار مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي في مواجهات مع متمردين شمالي البلاد، ملف المرتزقة العائدين من ليبيا التي شهدت مؤخرًا استقرارًا أمنيًا إلى حد كبير. حيث هناك قد وضعت الحرب أوزارها وبات على حاملي السلاح التوجه صوب وجهة جديدة لعلها تكون موطنهم الأصلي، وهو ما يشكل خطرًا على المنطقة برمتها في المستقبلة.
أول أمس الثلاثاء، أعلن الجيش التشادي مقتل ديبي متأثرًا بجروح أصيب بها خلال مشاركته في معارك ضد المتمردين شمالي البلاد، تمركزوا في الحدود الشمالية مع ليبيا وبدأوا في التقدم جنوباً عبر الصحراء في محاولة للوصول على العاصمة التشادية نجامينا.
وتشير تقارير دولية إلى بدء ترحيل المرتزقة من ليبيا، في أعقاب انفراج الأزمة الليبية عقب انتخاب سلطة تنفيذية جديدة تسلمت مهامها في 16 مارس الماضي، وتهدف إلى قيادة البلاد إلى انتخابات برلمانية ورئاسية في نهاية هذا العام.
عودة الطيور المهاجرة
عاد سوريون إلى بلادهم عبر الوسيط التركي الذي نقلهم، واستعانت المعارضة التشادية بأبناء بلدهم الذين انشغلوا خلال الأشهر الماضية بالقتال في غرب ليبيا حين كان مستعرًا بين قوات حكومة الوفاق المدعومة تركيًا وبين قوات شرق ليبيا المدعومة خليجيًا.
كما بدأت عودة مقاتلين سودانيين وآخرين من النيجر إلى بلادهم بعدما رافقوا قوات شرق ليبيا في قتالهم بغرب البلاد.
هذا بخلاف مجموعات لا تزال منتشرة بأطراف ليبيا، تمثل رفقة المقاتلين المرحلين تهديدًا خطيرًا لدول الجوار الليبي الثلاث على وجه التحديد السودان والنيجر وتشاد.
الجنوب الليبي “مفرخة” المقاتلين
الجنوب الليبي لا يزال “مفرخة” لكافة أشكال ما هو “غير شرعي” سواء عمليات التهريب أو معسكرات المتطرفين أو “أسواق المرتزقة” الذين يُستعان بهم وقت الطلب في أي تطورات أمنية بالمنطقة.
لذلك يمثل الجنوب الليبي نقطة تهديد واسعة النطاق للمنطقة المحيطة بأكملها، والتي تتشارك بشكل أساسي مع النيجر وتشاد والسودان، ويمكن للتهديد أن يطال الجزائر ومصر لكن بقدر ضئيل.
فيما يتعلق بتشاد تحديدًا، فإن المتمردين المتمركزين شمال البلاد ينتمون لـ”المقاومة الوطنية لجبهة الوفاق من أجل التغير” بزعامة محمد مهدي، والذي يعتبر أحد القادة الرئيسيين للمعارضة المسلحة للسلطة في إنجمينا.
رحلة محمد مهدي من ليبيا إلى قتل إدريس ديبي
رغم تقارب محمد مهدي من نظام ديبي بعد عودته من اللجوء في فرنسا والذي استمر 25 عامًا إثر اتفاق سلام بين الحركة من أجل الديمقراطية والعدالة ونظام الرئيس ديبي، إلا أنه عاد إلى صفوف المتمردين في 2008، وسافر إلى ليبيا في 2015 لإعادة تنظيم قوات التمرد بعد انفصاله عن حركة محمد نوري المعروف بزعيم التمرد التشادي.
في ليبيا استطاع مهدي تشكيل قوة من المقاتلين تقرب من 1500 مقاتل، انتقلت إلى مدينة تانوا شمال تشاد، تحت اسم جبهة الوفاق والتغيير التشادية، والتي أصبحت بمثابة منظمة سياسية عسكرية أعلنت استعدادها لعمليات عسكرية ضد الرئيس ومقاومة استمراره في السلطة.
لم تكن جبهة الوفاق والتغيير التشادية تعمل وحدها ضد نظام الرئيس ديبي من الأراضي الليبية، لكن جماعات متمردة أخرى تمركزت في ليبيا وعلى رأسها اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية التي تمركزت قواته في جنوب ليبيا بعد خروجه من دارفور- غرب السودان عام 2010، بينما اتفقت هذه الجماعات المتمردة على إنهاء حكم ديبي رغم الخلافات العميقة بينهم والتنافس العرقي.
قوات المتمردين التشاديين انخرطت في أعمال عسكرية داخل ليبيا، حيث التحقت أعداد منهم كجنود مرتزقة في قوات خليفة حفتر، وعمل آخرون مع ميليشيات ليبية تتبع جماعات جهادية خاصة قبائل التبو التي تسكن شمال صحراء تشاد على الحدود مع ليبيا والنيجر والتي كانت أساس حركات التمرد في تشاد ضد نظام ديبي خلال الفترة الأخيرة.
سوق إقليمي للمقاتلين عبر الحدود
وذكر تقرير للأمم المتحدة أن توتر الأوضاع الأمنية في ليبيا تسبب في توفير أرض خصبة لتصاعد المقاتلين المأجورين المستعدين للقتال مع أي طرف يدفع أجورهم حيث أصبح مثلث تشاد السودان ليبيا مركزاً لتأجيج الصراعات في المنطقة حيث خلق سوق إقليمي للمقاتلين عبر الحدود.
ومع تشكيل حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا مارس الماضي برئاسة عبد الحميد الدبيبة بدأت مشاورات بين الجيش الليبي والحكومة على حصر المرتزقة الأجانب وجنسياتهم وأماكن تواجدهم لإخراجهم من البلاد في محاولة لإنهاء سنوات من الصراعات المسلحة وعودة السلام للأراضي الليبية، خاصة القوات الأجنبية المتمركزة في الأماكن الاستراتيجية قرب حقول النفط.
ورصدت السفارة الأمريكية في ليبيا تحركات لمجموعات مسلحة غير حكومية إلى تشاد من ليبيا منذ بداية أبريل، متوقعة أن تثير هذه التحركات مواجهات مع الجيش التشادي وتصاعد التوتر الأمني، حيث حذرت واشنطن من السفر إلى هذه المناطق شمال تشاد.
خبرة المعارك الليبية للمرتزقة التشادية
يبدو أيضًا أن الصراع الأمني في ليبيا أعطى هذه الجماعات التي اتخذت من التراب الليبي ملجأ لها طوال السنوات الخمس الأخيرة فرصة كبيرة لإعادة ترتيب صفوفها وتوفير الإمدادات المالية والفنية من خلال الانخراط في عمليات عسكرية داخل ليبيا، وهو ما أصبح تهديداً مباشراً لكل دول الجوار الليبي وليس تشاد وحدها.
بعد عدد من الزيارات لرئيس المجلس الرئاسي الليبي، محمد المنفي إلى مصر وتركيا ودول الجوار الليبي، نهاية مارس الماضي، بدأت عمليات سحب المئات من المرتزقة من مناطق التماس وترحيلهم إلى بلدانهم، حيث كانت سوريا أولى وجهات المرتزقة العائدين بحوالي 200 مقاتل سوري من أصل ما يقرب من 6630 مرتزق في ليبيا، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان.
بالنسبة لتشاد، فإن الإصرار الذي أبداه المتمردون بمواصلة التقدم نحو عاصمة البلاد، عقب مقتل الرئيس ديبي، معلنين رفض تشكيل المجلس العسكري الانتقالي، الذي ترأسه نجل الرئيس، يزكي انكفاء القوات التشادية نحو الداخل، بينما تبقى منطقة الساحل والصحراء مباحة لطموحات الجماعات المتطرفة وهو ما يمكن أن يشكل تهديدًا لاحقًا للشرق الأوسط بأكلمه إذا تمكنت جماعة بوكو حرام على سبيل المثال الانتقال عبر تشاد إلى ليبيا.
هذا التصور دفع الدول العربية خاصة في شمال أفريقيا إلى رفع من مستوى مواجهتها للمخاطر الإرهابية المحتملة في المنطقة.
دارفور الجريح
أما إقليم دارفور السوداني المتاخم لتشاد، لم يكن ينقصه مثل هذا التوتر الأمني، فقد شهد مرخرًا أحداثًا دموية عنيفة راح ضحيتها المئات بين قتيل وجريح وآلاف النازحين.
وأما المواجهة القبلية الأكثر دموية كانت قبل أسابيع في منطقة الجنينة، وهي عاصمة غرب دارفور، حيث قتل فيها أكثر من 300 شخص، وسط اتهامات بمشاركة مجموعات مسلحة من داخل الأراضي التشادية في تلك الأحداث.
وتحدثت تقارير عن انخراط مقاتلين عادئين من ليبيا أيضًا في تزكية الصراعات بالداخل السوداني، خاصة التشابك القبلي بين أهل البلدين في المناطق المتجاورة.
بيان ثلاثي
استشعارًا بمدى الخطورة التي تصيبهم أصدرت دول ليبيا والسودان والنيجر بيانا مشتركا اليوم الخميس طالبوا فيه بضرورة إقامة حوار وطني بين الأطراف المختلفة في تشاد، بعيدًا عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها.
اتصالاً مع ذلك عقد مجلس السلم والأمن الإفريقي جلسة طارئة لاتخاذ خطوات وتدابير من شأنها تخفيف التوتر، والمساهمة في صون وتعزيز السلم والأمن واستقرار المنطقة.
وجددت الدول الثلاث في البيان المشترك حرصهم على تكثيف الجهود لدعم التعاون الأمني ومراقبة الحدود المشتركة وتوطيد السلام والاستقرار وحسن الجوار، مطالبين بتفعيل اتفاق تعزيز التعاون في مجال أمن ومراقبة الحدود المشتركة بين ليبيا والسودان وتشاد والنيجر، الموقع في إنجمينا في 31 مايو العام 2018.
وأكد قادة الدول الثلاث ضرورة مواصلة التعاون الوثيق بين الدول الثلاث لتعزيز مكافحة الإرهاب والتهريب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية.