قد تكون التظاهرات الكبيرة والحشود الهائلة التي شهدتها إثيوبيا خلال الأيام القليلة الماضية هي الأضخم من نوعها، ولكنها لا تعد مفاجأة في ضوء الاضطرابات الممتدة على مدى العامين الماضيين. فضلاً عما أنتجته الحرب على التيجراي من معطيات جديدة في المشهد الإثيوبي تجعل الموقف السياسي لآبي أحمد ضعيفًا في الانتخابات المقبلة المقرر عقدها في الشهر المقبل. فضلاً عن إمكانية الانفتاح على حرب أهلية واسعة النطاق بسبب حسابات رئيس الوزراء الإِثيوبي الخاطئة، وممارساته الجهولة بفسيفساء المكون الإثيوبي منطلقًا من تقدير خاطيء لقدراته على السيطرة، وتوظيفه لأدوات فاسدة. من هنا اشتعلت عدة جبهات ضده في توقيت واحد سواء على الصعيد الداخلي أو الإقليمي. ولعل هذه الأوضاع تجعل مهام من يريد الإنقاذ إقليميًا ودوليًا صعبة وغير مضمونة النتائج.
في التفاصيل، انقلبت جبهة قومية الأورمو التي ينتمي آبي أحمد إلى أحد فروعها الأربعة والعشرين عليه، لعدد من الأسباب أهمها الهواجس بشأن إنهاء صيغة نظام الحكم القائمة على فيدرالية إثنية، اعتبارًا من ديسمبر 2019، صحيح أن فروعًا من الأورموا قد انخرطوا في حزبه الجديد الازدهار ولكن حربه على التيجراي راكمت المخاوف بشأن مناهجه في تعامل المركز السياسي للدولة مع القوميات الإثيوبية، وقد تحولت الهواجس إلى معارضة في ربيع 2020.
وقد بدأت ملامح المعارضة ونشوء الاضطرابات في التبلور خلال أكتوبر 2018 بعد فترة قصيرة من انتخاب آبي أحمد الذي بدأ في مضايقة حليفه السياسي والإعلامي الأشهر جوهر محمد. وبمجرد إعلان الأخير عن هذه المضايقات اشتعلت أعمال عنف راح ضحيتها ثمانين شخصًا، فضلاً عن 3 تفجيرات محدودة في العاصمة.
اتساع عمليات العنف جاء مع سجن جوهر محمد نفسه منافسه الأقوى في الانتخابات في يونيو 2020 بعد فترة تحالف قصيرة بين الرجلين انتهت بإعلان محمد ترشحه للانتخابات بعد تيقنه من عدم جدارة أحمد لقيادة إثيوبيا، حيث قال في خطاب مسرب من سجنه أن أحمد يبدو مستخفًا بتعقيدات الواقع الإثيوبي من حيث تعدده، وأن تقديره لقدراته الشخصية مبالغًا فيه.
على أية حال بعد شهر واحد من سجن جوهر محمد تم اغتيال المطرب الأورومي الأشهر هاشالو هونديسا، علي خلفية غناءه ضد آبي أحمد، حيث اشتعلت شوارع أورميا وشرق هرر وسقط مايزيد عن ثلاث مائة قتيل وبات الطلاق بين آبي أحمد وقومية أورميا واقعًا مشهودًا.
فيما يتعلق بقومية الأمهرة، فإن التحالف بينهم وبين آبي أحمد يبدو أنه قد انفض بدوره نهائيًا مع الاضطرابات الحالية. وذلك في ضوء اتهام الأمهرة للحكومة بالتقصير في حمايتهم من القوميات الأخرى في إقليم بني شنقول. إذ أن معلومات النشطاء تشير إلى أن الضحايا هم من الأمهرة وحدهم.
ويمكن القول أن استهداف الأمهرة قائم علي استقوائهم التاريخي على باقي الأعراق في منطقة بني شنقول. وهي عرقيات البرتا، جموز، شيناشا، الماو، وكومو ، وبعضها له امتدادات في السودان.
أما على الصعيد السياسي، فإن “جبهة تحرير بني شنقول” تكونت في تسعينيات القرن العشرين، وحظيت بدعم سوداني نتج عن الدعم الإثيوبي لجون جارانج. ولكن هذا الدعم المتبادل من جانب أديس أبابا والخرطوم لمعارضي كل منهما قد توقف بعد عقد اتفاقية نيفاشا بين شمال وجنوب السودان عام 2005، ورغم ذلك لم يتوقف تمرد بني شنقول على المركز في أديس أبابا، ولكن قوته كانت متفاوتة القوة والتأثير، حيث تعتبر جبهة تحرير بني شنقول أن الإقليم محتلاً من جانب إثيوبيا، وهو سوداني الأصل باعتباره جزءًا من أراضي سلطنة سنار الزرقاء التابعة للحدود الإدارية السودانية.
ويبدو أن هذا الخطاب قد تأسس لسببين؛ الأول أن إقليم بني شنقول الذي حارب مع التيجراي من أجل إسقاط حكم منجستو هيلا مريام الأمهري في الثمانينيات لم يحصل علي الحكم الذاتي طبقًا لوعود قطعت له. وثانيًا فإن أعراق بني شنقول من غير الأمهرا يتهمون الحكومة بالإنحياز للأمهرة، وتمكينها من أراضيهم خصوصًا مع امتلاك الأخيرين لعصابات الشفتة التي كانت نشطة في منطقتي الفقشات السودانية ومهددة للسودان قبل إعادة تموضع الجيش السوداني من جديد في هذه المناطق وطبقًا لهذه التفاعلات، فإن الهجمات ضد الأمهرة، تحديدًا قد اتسعت خلال الشهور المنصرمة، علي خلفية ممارستهم استقواء على التيجراي مثلاً فأعادوا إلى حوزتهم أراض سبق للتجيراي الاستيلاء عليها.
وقد تطور الموقف في بني شنقول كيفيا قبل يومين، مع قدرة جبهة تحرير بني شنقول علي الاستيلاء علي مدينة سدالي بمنطقة كماشي بإقليم بني شنقول جموز، وهي مدينة يسكنها 25 ألف نسمة، وذلك بعد فترة طويلة من العمليات الخاطفة كان آخرها في ديسمبر الماضي، بمنطقة متكل التي شهدت مقتل مائتي شخص بعد يوم واحد من زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، للمنطقة.
وفي سياق مواز، شجّعت بيئة الصراع المسلح المنتشرة في إثيوبيا بطون الـ “قامبنت” في إقليم”أمهرا” على المطالبة باستقلالية أكبر لمناطقهم وقراهم، وهو ما أقدمت عليه حكومة الإقليم بالفعل مؤخرًا في محاولة لإحتواء الموقف.
أما علي صعيد الجنوب الإثيوبي فقد انفصلت قومية السيداما بحكم ذاتي قبل شهور، بينما هناك مطالبات بانفصال 6 قوميات بإقليم منطقة شعوب جنوب إثيوبيا بإجراء استفتاء من قبل المجلس الوطني للانتخابات للحصول على الحكم الذاتي في إقليم خاص بها تحت مسمى “شعوب غرب إثيوبيا” مسببين ذلك بأنه تجمعهم منطقة جغرافية واحدة وثقافة وتاريخ مشترك، حيث تم ضم خمس أقاليم جنوب البلاد عام 1992 إلى إقليم واحد دون العودة لحوار شامل. وهو الإقليم الذي سعت الحكومات الإثيوبية المتعاقبة على مكافحة الدعوات الانفصالية فيه و يضم أكثر من 50 قومية.
هذا المشهد الفسيفسائي الإثيوبي، ساهمت فيه عدة عوامل موضوعية منها أسس تكوين الدولة التي تكونت بالضم القهري من جانب إمبرطور الهضبة الإثيوبية قبل قرن ونيف ملينيك الثاني للأقاليم المجاورة له، ومنها طبيعة الذهنية الإثيوبية القائمة على المعادلات الصفرية، ويغذيها مكونات ثأرية معروفة عن التكوينات الاجتماعية لمراحل ما قبل الدولة خصوصًا، وأن حجم التنمية البشرية في إثيوبيا يبدو معدومًا، من هنا فإن الفقر والأمية لابد وأن يقودًا التفاعلات بين القوميات المختلفة.
في هذا السياق، يكون دور العامل الخارجي في تقديرنا في تفعيل الاحتجاجات من الأطراف ضد المركز أو بدعم قومية علي قومية أخرى يبدو ضعيفًا في ضوء أن البيئة الداخلية تملك فعليًا أسباب تاريخية وإجتماعية وسياسية لاشتعالها. ذلك أن دراسة فترات الهدوء أو الاضطراب في إثيوبيا تشير بشكل واضح أن العامل الحاسم فيها هو دور المركز، وصيغ التعايش السياسي بين القوميات الإثيوبية، فقد حظيت إثيوبيا بهدوء على مدار ربع قرن بسبب صيغة الإثنية الفيدرالية التي تم تدشينها في تسعينيات القرن العشرين ولم تكن لتقوم لولا المادة 39 من الدستور الإثيوبي التي أعطت للقوميات حق الحكم الذاتي بعد إجراء استفتاء.
ويبدو أن تداعيات توالي انهيار تحالفات آبي أحمد يجعل المشهد الانتخابي، غير مرشح لتأسيس هدوء أو استقرار بل قد يقود إلى انهيار كل المعادلات الضامة للمكون الإثيوبي. وهو ما يفتح مسرح القرن الإفريقي بالكامل لتحولات في التحالفات وتأثيرات مباشرة علي كل من إرتيريا والصومال.
وطبقًا لهذه البيئة الإثيوبية المحتدمة، فإنه رغم الانحياز الدولي لإثيوبيا ومقاومة عدم استقرارها دومًا بالإسناد المباشر وغير المباشر، فإن الدور المركزي في هذا الاستقرار يكون داخليًا، وهو ما يفتقده آبي أحمد في هذه المرحلة ولن يستطيع أن يتداركه خلال الفترة القصيرة الباقية على الانتخابات رغم الدعم الخليجي الذي يحصل عليه حاليًا، إلي حد مطالبة السودان للتخلي عن جزء من ترابه الوطني في مناطق الفقشات.