لم يكن مباغتاً اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن، أمس السبت، رسمياً، بأن الأحداث الدموية التي جرت بحق الأرمن خلال فترة الحكم العثماني في العام 1915 “إبادة جماعية”، وهو الاعتراف الذي اعتبره رئيس الهيئة الوطنية الأرمنية، أرمن مظلوميان، انتصارا رمزياً لعدالة القضية الأرمينية.
وبالتزامن مع الذكرى السادسة بعد المائة لهذه الجريمة التاريخية التي تسببت في مقتل مليون ونصف مليون أرمني، نفذ بايدن أحد وعوده الانتخابية بأن يكون أول رئيس أمريكي يتخذ هذه الخطوة، والتي من المتوقع أن تكون لها تأثيرات جمة على العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وتفاقم الخلافات المأزومة بينهما، لا سيما وأن بايدن الذي يقف على النقيض من سياسات أردوغان في عدد من الملفات الإقليمية، قد أبلغ الأخير بخروجه من برنامج الطائرات المقاتلة “أف-35”.
ودانت تركيا قرار الرئيس الأمريكي، ووصفته بأن “لا أساس قانوني له، وسيفتح جرحاً عميقاً” في العلاقات الثنائية. واعتبرت الخارجية التركية “البيان الأمريكي يشوه الحقائق التاريخية” كما أنه “سوف يفتح جرحا عميقا يقوض الصداقة والثقة المتبادلة بيننا”.
واتهم أردوغان “أطرافاً ثالثة” تعمد إلى “تسييس” الأحداث التاريخية. وقال الرئيس التركي: “تسييس أطراف ثالثة النقاشات (حول أحداث 1915) وتحويلها إلى أداة تدخل ضد تركيا لم يحقق منفعة لأي أحد”. وأضاف: “ما يجمعنا (الأتراك والأرمن) ليست المصالح بل ارتباطنا الوثيق بالدولة والقيم والمثل العليا ذاتها”.
كما بعث أردوغان برسالة لبطريرك الأرمن في إسطنبول، جاء فيها: “لا أحد يستفيد من تسييس أطراف ثالثة للجدل، الذي ينبغي أن يتولاه مؤرخون، وتحويله أداة تدخل ضد تركيا”.
وإلى ذلك، قال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إن اعتراف الرئيس الأمريكي جو بايدن “يستند فقط إلى الشعبوية”. وغرد على “تويتر”: “الكلمات لا يمكن أن تغير التاريخ أو تعيد كتابته”. وأضاف: “ليس لدينا ما نتعلمه من أي شخص فيما يتعلق بماضينا. الانتهازية السياسية هي أكبر خيانة للسلام والعدالة”.
وفي بيان للخارجية التركية، أوضحت أنه قامت باستدعاء السفير الأمريكي لدى أنقرة ديفيد ساترفيلد على خلفية اعتراف بايدن بأن مذابح الأرمن في عام 1915 خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية تمثل إبادة جماعية.
106 عام على جرائم العثمانيين
وتعود وقائع المذابح الأرمنية التي جرت في الصحراء السورية، التي تواجدت بها معسكرات أمنية وسجون خاصة للدولة العثمانية، إلى مطلع القرن التاسع عشر، وتحديداً مع اندلاع الحرب العالمية الأولى. وذلك عندما امتثل الأرمن لقرارات الحكومة المركزية في القسطنطينية بالتهجير القسري من منطقة الأناضول الشرقية، لجهة إحداث تغييرات ديمغرافية. وهي المنطقة التي يعتبرها الأرمن امتداداً لدولتهم (أرمينيا الغربية)، ويتواجد بها أحد رموزهم المقدسة جبل آرارات.
وترى موسوعة الهولوكست، أن الدولة العثمانية عمدت إلى تقوية العناصر التركية المسلمة في منطقة الأناضول الشرقية في مقابل تصفية وعزل المجموعات المسيحية، الأرمنية والآشورية. وقد استغلت حكومة حزب الإتحاد والترقي، في تلك الفترة، أحداث الحرب العالمية الأولى لتنفيذ مخططها الذي نجم عنه “القتل الجماعي” للأرمن، مضيفة: “صدرت تعليمات من القسطنطينية، حيث وجهت الحكومة المركزية بجمع بيانات دقيقة عن الأرمن، تبدأ من إحصاء عدد الذين تم ترحيلهم، ثم كمية ونوع السكن الذي تركوه وراءهم، وأخيراً، معرفة عدد المبعدين ممن وصلوا إلى معسكرات الاحتجاز”.
وبحسب التقرير الصادر عن الموسوعة فقد “جاءت التعليمات من أعلى مستويات الدائرة الحاكمة في الدولة العثمانية، إذ كان في مركز العملية كل من: طلعت باشا، وزير الداخلية، وإسماعيل إنفر باشا، وزير الحرب، وبهاء الدين صقر، المدير الميداني للمنظمة الخاصة، ومحمد نظيم، قائد التخطيط الديمغرافي.
وفي ظل تسريبات صحفية أمريكية وغربية حول وجود إعلان مرتقب بخصوص اعتراف بايدن بالإبادة الجماعية للأرمن، أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، بياناً، الجمعة، تشير إلى أن بايدن قد أبلغ أردوغان اعتزامه الاعتراف الرسمي بالإبادة الجماعية للأرمن. وذلك في أول اتصال بينهما، منذ وصول الأول للرئاسة، مطلع العام الحالي.
وقالت مساعدة المتحدث باسم وزارة الخارجية، غالينا بورتر: “في ما يتعلق بالإبادة الجماعية للأرمن، يمكنكم ترقب في إعلان تاريخي، اعترف الرئيس الأمريكي جو بايدن اليوم السبت (24 أبريل/ نسان 2021) بأن مذبحة الأرمن التي ارتكبت على يد الإمبراطورية العثمانية في عام 1915 كانت “إبادة جماعية”.
وتشير صحيفة واشنطن بوست الأمريكية إلى أن هذا القرار يأتي “بعد حملة ضغط مطولة قام بها أعضاء في الكونغرس وجماعات أمريكية أرمينية، تحرص على استخدام البيت الأبيض لهذا المصطلح”.
وفي النصف الثاني من الشهر الماضي، بعث عدد من أعضاء مجلس الشيوخ، الديمقراطيين والجمهوريين، برسالة للرئيس الامريكي، للمطالبة بالاعتراف رسمياً بالإبادة الجماعية للأرمن، حيث قال المشرعون الأمريكيون في رسالتهم “نقف مع الجالية الأرمنية في الولايات المتحدة وحول العالم لتخليد ذكرى الضحايا، ونقف بحزم ضد أي محاولات للادعاء بأن هذا الجهد المنظم والمقصود لتدمير الشعب الأرمني يمكن وصفه بأي شيء سوى بأنه إبادة جماعية”.
اقرأ أيضا:
هل يستغل بايدن “الأرمن” في محاصرة أردوغان؟
تردد أمريكي من الاعترف بمذابح الأرمن
وألمح نواب الكونجرس في رسالتهم إلى تفادي الإدارة الأمريكية السابقة، سواء الجمهورية أو الديمقراطية، استخدام توصيف “الإبادة الجماعية” بخصوص الأحداث التي تعرض لها الأرمن، خشية من توتر العلاقات مع تركيا، وقالوا: “ندعوك لكسر هذا الصمت من خلال الاعتراف رسمياً بأن ما جرى للأرمن كان إبادة جماعية”.
ولذلك، اعتبر رئيس الهيئة الوطنية الأرمنية، أرمن مظلوميان، أن الرئيس الأمريكي “نفذ أخيراً وعوده الانتخابية وصاغ مصطلح الإبادة الجماعية للأرمن التي تورطت فيها الدولة العثمانية”.
وأوضح في حديثه لـ”مصر 360″ أن هذه “الخطوة التاريخية” تعد “انتصاراً رمزياً لعدالة القضية الأرمينية رغم سياسة الإنكار والنفي المتواصلين من قبل الحكومات التركية المتعاقبة. واعتراف الولايات المتحدة بما تعرض له الأرمن ينبغي أن يكون رسالة للمجتمع الدولي لاتخاذ مواقف مماثلة وتترجم إلى سياسات، حيث إن موقف بايدن برغم أهميته لكن الابادة الارمنية لا تحتاج لأدلة ووثائق، فهذا متوفر ومثبت، إنما تحتاج إلى إرادة سياسية”.
وإلى ذلك، يشير الدكتور سامح مهدي الباحث في العلوم السياسية إلى أن تصنيف بايدن الأحداث التي وقعت بحق الأرمن، قبل نحو قرن، بأنها “إبادة جماعية” يحتاج إلى التمهل، ومتابعة ما سوف يترتب على ذلك، مضيفا لـ”مصر 360″: “لقد سبق أن قام الكونجرس، في عام 2019، باستخدام المصطلح ذاته، وذلك بعد جلسة تصويت، وهو الأمر الذي اتجه إليه الرئيس رونالد ريجان، في عام 1981، لكن الشاهد في تلك المواقف المتفاوتة أنها كانت رمزية ولا يترتب عليها نتائج عملية أو قرارات إلزامية، بسبب التحالف الاستراتيجي بين تركيا والولايات المتحدة، ولذلك فإن القضية الأرمنية ربما فقط تعد مجرد ورقة ضغط ضمن أوراق أخرى للتفاوض وتعديل سلوك أنقرة على خلفية التناقضات السياسية بينهما”.
ويتوقع مهدي أن يكون الاعتراف الرسمي الأمريكي مجرد تصعيد جديد من بايدن باتجاه أردوغان، في ظل تأزم المواقف بينهما، والمتسبب فيه تدخلات تركيا في عدد من القضايا بالمنطقة.
ويتابع: “برغم التقارب أو الاصطفاف بين أنقرة وموسكو، والحصول على منظومة الدفاع الصاروخية إس 400، لا يمكن اعتبار العلاقات بينهما استراتيجية كما هو الحال مع واشنطن. وتاريخياً؛ كانت أنقرة بالنسبة لواشنطن خط الدفاع الأول ضد الاتحاد السوفيتي وهو ما تسبب في نزاع كبير بين البلدين، وحروب متواصلة، ولم تتحسن إلا بعد سقوط الحكم السوفيتي. ومن ثم فلا أحد يمكن تجاهل أهمية أنقرة لدى حلف شمال الأطلسي والأدوار الوظيفية التي تقوم بها لحساب واشنطن”.