ثمة مشاهد ثلاثة في الحالة اليمنية تبدو واضحة لغير المنشغلين بميدان الحرب في اليمن، عبر تناول الواقع في إطاره الاجتماعي والثقافي كنتيجة طبيعية للأحداث السياسية والعسكرية.

رمزتُ إلى المشاهد بثلاث مفردات هي: الكرم باعتباره ممثِلاً عن الإرث اليمني العريق وتفاصيل التحولات المجتمعية والثقافية. ثم القات الذي يزرعه الشمال ويمضغه الجنوب. وأخيرًا الكلاشنكوف الذي بات رفيقًا للجميع حتى يمكنك رؤية مواطنًا يفترش الطريق بأحد الأسواق الشعبية يبيع السلاح وطلقاته على طاولته الخشبية.

في هذا السرد التحليلي للمشاهد الثلاثة نجيب عن السؤال التقليدي: كيف أصبح “اليمن السعيد” تعيسًا؟ مع عدم التغافل عن بقايا رواسب التاريخ.

كيف تشوّه وجه اليمن؟

المتابع للحالة المجتمعية في اليمن يلحظ تشكلاً مجتمعيًا جديدًا، تركته سنوات الحرب في الأجيال الحالية، تبقى النخبة أبرز من طالها هذا التغيير. فيما تحتفظ مجتمعات قروية بإرثها الاجتماعي في محاولة لتجاهل تبعات الحرب.

عاش اليمن في العصر الحديث فصولاً من الحرب الأهلية، بدءًا بالمواجهات بين الحكومة المركزية مع المتمردين في الجنوب فيما عرف بـ”حرب صيف 1994″، مرورًا بـ”نزاع صعدة” أو “الحروب الست” بين القوات الحكومية وحركة أنصار الله التي بدأت عام 2004، ثم جاءت ثورة فبراير 2011 وتقاتل الجميع فيما بينهم.

تجتزئ الحروب والصراعات الأهلية الكثير من الثوابت الاجتماعية والثقافية والتراثية لدى الشعوب. اليمنُ مثالٌ على ذلك لكنه احتفظ بجزء لم تستطع الحرب اغتياله. خصائص وثوابت تاريخية لا يلاحظها المتابع من بعيد للنخب والإعلام. لكن المدقق في تفاصيل الحياة اليومية لليمنيين الذين ظلوا طوال التاريخ مضرب المثل في الكرم يجد أن هناك أشياء لا تُنتزع.

ثمة صورتان لتأثيرات الحرب على المجتمع اليمني، الأولى تتعلق بطبائع الناس وتصرفاتهم والثانية تخص التاريخ وعبقه. أما الأولى فلا شك من أن التوترات والحروب تنعكس سلبًا على العلاقات الاجتماعية بين الأسر والقبائل اليمنية، لا سيما أن المجتمع اليمني على الرغم من بساطته فهو واحد من أكثر المجتمعات تعقيدًا وهو ما يجهله الكثيرون. ذلك أن خصوصية المجتمع اليمن تجعل فكرة التنظير حوله مجرد اجتهاد لا يصح أن ينسحب على الواقع بشكل كامل.

رجل يبيع حجر العقيق الذي يحتل منذ القدم قائمة أشهر منتجات اليمن وصادراته الوطنية
رجل يبيع حجر العقيق الذي يحتل منذ القدم قائمة أشهر منتجات اليمن وصادراته الوطنية

ركز الإعلام خلال سنوات الحرب على التحولات الاجتماعية في اليمن، بفعل المعاناة الإنسانية التي تترك آثارًا وخيمة على حياتهم. لكن الجانب الآخر المنسيّ يظهر قدرة اليمنيين على التأقلم وتطويع الصعوبات من رحم التحديات، يتصدره الكرم الذي يظهر في مجالسهم، ثم الاحتفاظ برونق التراث في بلد متعدد التجليات الثقافية.

عندما يتداعى الجميع على ذبيحة يتركونها “عظامًا”، فرغم النهش الذي تسابق على لحمها يبقى لها معالم، هو الإرث التاريخي لا يمحوه الزمن.. هذه الضحية هي اليمن بتاريخها العريق.

اليمن السعيد

قبل أشهر رصدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر جزءًا من هذا الجانب المتغاضى عنه، تظهر المعايشة جانبًا من السحر اليمني الباقي رغم انتكاسات الحرب. من بينها على سبيل المثال مناطق جبلية في اليمن تشهد فصول السنة الأربعة في يوم واحد. بالإضافة إلى القرى التراثية المعلقة التي لا تزال تحتفظ برونقها ويقصدها اليمنيون، وعلى رأسها قرية الهجرة، التي يمكن للصاعدين إلى قممها من رؤية السحاب تحتهم.

قرية الهجرة
قرية الهجرة

في الحديدية يمكن للزائر أيضًا أن يرى نساء بالزي التقليدي لمنطقة تهامة، وهنّ منخرطات في الحياة الريفية، من خلال قيامهن بأعمال الزراعة والحرث ورعي الماشية، ويمثلن ذاكرة حية للتراث الغنائي والقصصي اليمني، الذي ينتقل عبر الحكي.

نساء بالزي التقليدي لمنطقة تهامة
نساء بالزي التقليدي لمنطقة تهامة

تركت الحرب جزءًا من متنفس للطقوس الاجتماعية، ومنها التنزه العائلي في منطقة شلال بني مطر بمحافظة صنعاء. وفي مكان آخر يمكنك ملاحظة بطولة كرة السلة بالكراسي المتحركة للسيدات ذوات الإعاقة. كما الأطفال يظهرون بلباس جديد في الاحتفال بالأعياد.. كلها مشاهد لا يمكن للحرب أن تنال منها.

استدعاء التاريخ

بخلاف المشهد السابق، فإن الحرب تركت آثارًا اجتماعية سلبية، بعضها كان نتيجة استدعاء التاريخ، فالعداء المتكرر بين الجنوبيين وعبدربه منصور هادي لا يمكن فصله عن ذاكرة الماضي عندما كان الأخير يقود حروب السلطة ضد الجنوبيين حين راودهم فكر الانفصال. هذا الاسترجاع التاريخي يمكن سحبه أيضًا على قبائل الشمال التي كانت طوال تاريخ البلاد الحديث على عداء بقبائل الجنوب.

قبائل الشمال المنحازة حاليًا للحوثيين هم أنفسهم الذين شكلوا قوام جيش الأئمة لغزو القبائل الشافعية التي تمردت في البيضاء وتهامة وتعز، عندما كان التمرد ثقافيًا في المقام الأول.

حالة التشرذم التي أنتجتها الحرب حاليًا ليست بعيدة عن الإرث التاريخي لليمن منذ انقسم أهله إلى فريقين في الحرب بين علي ومعاوية عقب مقتل عثمان بن عفان، هذه اللمحة التاريخية انتقلت ملامحها بشكل أوسع على جغرافيا البلاد.

بين “الحوثنة” و”الأخونة” و”السعودة” و”الأمرته”.. نزاعٌ على إرث اليمن

في مرات كثيرة تتحدث الحكومة التي تقيم في الرياض أكثر من مكوثها في الأراضي اليمنية، عن محاولات المتمردين “حوثنة اليمن“، عبر “مخطط إيراني لإحداث تغييرات ديمغرافية في التركيبة السكانية والسياسية والاجتماعية في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله”.

ربما يكون حديث ممثلي الحكومة حقيقا جدًا، لكنه ينسحب على كافة الأطراف. فالتصرفات المستمرة منذ ثورة فبراير 2011 تنخرط جميعها في إطار محاولة كل طرف بناء سياج حول مشروعه بكل تفاصيله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، سواء الإقليم الجنوبي الطامح في الانفصال منذ سنوات أو الجزء الشمالي الذي يحاول بناء سياج عقائدي واجتماعي حول مناطق نفوذه، أو في الوسط حيث طموح تيار الإسلام السياسي خاصة الإخوان المسلمين.

قبائل الشمال كانت طوال تاريخ البلاد الحديث على عداء بقبائل الجنوب.
قبائل الشمال كانت طوال تاريخ البلاد الحديث على عداء بقبائل الجنوب.

كل فصيل يحاول تطبيق ما أطلقت عليه الحكومة “حوثنة”، فيمكن أن تقول إن ثمة “أخونة” في الوسط و”أمرته” في الجنوب، و”سعودة” في مناطق الوسط وأجزاء من حضرموت.

هذه هي الخسارة الكبرى للحرب في اليمن، حتى وإن استفاق على حلٍ سياسي قريب. كيف يمكن أن جمع السياقات الاجتماعية التي تأصلت في المناطق، حول مشروع وطني واحد، مشروع بمفهومه الواسع (ثقافيًا واجتماعيًا ودينيًا واقتصاديًا). ثمة شتات من الطموحات، الجميع استقل قطارًا في الطريق المعاكس للإرث اليمني.

خلجنة النخبة

الظهور الدائم لقادة المجلس الانتقالي الجنوبي بزيٍّ إماراتي، يحمل من المعاني ما تتخطى أبعادها حلبة السياسة إلى انبهار- يبدو لدى البعض مستحقًا – بالتجربة الخليجية أو الإماراتية تحديدًا على صعيد العيش الرغيد.

جولة في حسابات النخبة الجنوبية وأطراف بالحكومة المدعومة سعوديًا على مواقع التواصل، ستكشف أن أغلبهم يبدل صورة قادة خليجيين- حسبما يعيش هو حاليًا- بصورته الشخصية في خانة التعريف.

لكن هاني بن بريك وهو نائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي واحدًا من الحالات التي تستحق وقفة تأمل. فهو أحد الشخصيات القيادية ومن بينِ أبرز الشخصيات السلفية في اليمن تخلى عن كل ما يشير إلى أوصافه السياسية والدينية السابقة، في تعاملاته اليومية وصورته الافتراضية على مواقع التواصل.

على صدر صفحته الموثقة من إدارة “تويتر” يضع بن بريك صورة ولي عهد أبو ظبي، الحاكم الفعلي للإمارات، على صدر صفحته. وفي التفاصيل يظهر بن بريك دائمًا بلباس خليجي، حتى تلاشت صورته في المخيال الجماهيري اليمني عندما كان رداؤه التقليدي زي اليمن المتعارف.

ربما غيّر بن بريك ورفاقه من متصدري المشهد اليمني كثيرًا في أفكارهم وتصوراتهم وتخلوا عن إرث ثقافي، قبل أن يغيروا أقمشة تستر أجسادهم فقط. لكن عورات السياسيين تبقى عصية على أن يسترها أمتار من الأقمشة.

هنا يبقى واضحًا أن تأثيرًا عميقًا تركته السياسة على الإطار الاجتماعي في مستوى يبقى هو الأكثر ظهورًا إعلاميًا، عندما تصير النخبة مفرّغة من البديهيات الثقافية والاجتماعية لإرث ضارب في أعماق التاريخ، يمكن أن نسمي ذلك “خلجنة النخبة”.

يمكن قراءة هذا المشهد بنظرة أخرى سياسية ذكرها أحد رواد مواقع التواصل وهو يتابع من موقعه في اليمن الجريح، السياسيين المقيمين في الخليج. إذ يقول ساخرًا إن “الظهور المتكرر للنخبة الجنوبية بالزي الإماراتي فيه إشارة إلى أهالي الجنوب أنْ اقتفوا أثرنا فقد تصبح عدن في المستقبل (دبي) أخرى، نحن هنا نخطط لنهضتكم”.

القات يوحد الشمال والجنوب

قبل أشهر انتشرت فيديوهات لسوق في جنوب اليمن يتزاحم عشرات الباعة والمستهلكين حول الطاولات لبيع وشراء القات. التزمت السلطات المحلية الصمت وقتها حيث يستهلك هناك على نطاق واسع من السكان والنخب. لكن تلك المشاهد وجدت سخرية واسعة، مفادها أن الازدحام هذا على منتج مستورد من الشمال (الذي يحاربه الجنوب)، ذلك أن القات يزرع بشكل أساسي في مرتفعات شمال اليمن. فإذا نحينا الحرب جانبًا نستطيع القول إن الشمال يزرع والجنوب يُخزّن، وهذا هو الشيء الوحيد الذي وحّد البلد.

دراسة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2015، قدّرت تكلفة شراء القات بـ10% من ميزانية الأسرة في المتوسط. لكن السنوات الخمسة اللاحقة على الحرب والواقع يشيران إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، للحد الذي يقول البعض إن ميزانية النبتة مقدمًا على ميزانية الغذاء لدى العديد من السكان.

رجل يحرق البخور خلال جلسة مضغ القات في منزل محافظ شبوة
رجل يحرق البخور خلال جلسة مضغ القات في منزل محافظ شبوة

أحدث تقديرات غير رسمية تقول إن حوالي 90% من الذكور البالغين يمضغون القات طيلة ثلاث إلى أربع ساعات يوميًا في اليمن. كما تقوم النساء والأطفال بذلك أيضًا، ويجرى ذلك في جلسات جماعية لساعات تعرف باسم “التخزين”. لك أن تعلم أن 85% من السكان يحتاجون إلى المساعدة، وفقًا لتقرير حكومي لعام 2020.

رغم ذلك تلاشى الحديث الإعلامي عن القات قليلاً خلال السنوات الماضية بفعل تصدر ملفات “الجماعات المسلحة والمجاعة والقصف الجوي” الحديث العام والعالمي. غير أن المتابع بشكل دقيق للوضع الميداني في اليمن يجد أن استهلاك هذه النبتة لم يتأثر من حالة الحرب مقارنة بالأزمة الإنسانية وتدمير البنية التحتية.

لمواجهة الاكتئاب والتوتر

الشائع في الشارع اليمني حاليًا أن الحرب زادت من استهلاك القات، وهو ما يعتبره المستهلكون محاولة لمواجهة حالات الاكتئاب والتوتر الذي يتعرض له اليمنيون بسبب العنف.

يخزّن اليمنيون القات بين الخد واللثة لساعات طويلة، وتكون عادة خدود هؤلاء منتفخة، ويتم تناوله مع العائلة والأصدقاء، وفي المناسبات باعتبار أن له تأثيرًا منشطًا، حيث يقضي الرجال والنساء ليالي رمضان في استهلاك النبتة.

إذا نحينا الحرب جانبًا نستطيع القول إن الشمال يزرع والجنوب يُخزّن
إذا نحينا الحرب جانبًا نستطيع القول إن الشمال يزرع والجنوب يُخزّن

الوجه الآخر للقات في اليمن هو بعده الاقتصادي باعتباره يوفر تدفقات نقدية يومية، تغذي بصورة مباشرة اقتصاد الحرب، فلا يفرق القات بين الشمال ولا الجنوب، الجميع زبونه يوميًا.

إذا وضعنا مقتضيات الحرب بجوار الثقافة الاجتماعية نستنتج أن القات تصدَّر الاهتمام ووجد لنفسه وظائف عديدة في اليمن، باعتباره مُفقِد للشهية ومنبّه بدرجة عالية، لذلك لم يفكر أي طرف في حظره.

البعد الاجتماعي الآخر لتخزين القات، توضحه دراسات حديثة ربطت بين تفكك الأسر وانتشاره، بناء على شكاوى متكررة لزوجات بشأن الآثار المدمرة للقات على صحة أزواجهم الجنسية، يتضح ذلك في أن فترة المضغ والتخزين تعطي صاحبها نشوة سرعان ما تتحول إلى هبوط عندما يزول مفعوله.

حل لمشكلة الغذاء

بُعدٌ آخر يمكن ربطه بين آثار الحرب والتمسك بالقات، يظهر في حديث شابة يمنية مع شبكة “بي بي سي” عندما قالت: “يؤثر القات على الشهية لذلك كلنا نحيفون، بل إن كثيرا منا يرون فيه حلا لمشكلة الغذاء لأنه يساعد على توفير الوجبات”، حديث الفتاة يلخص أمرًا صار معقدًا لدى المتابعين للحالة اليمنية مفادها: كيف لأكثر الشعوب فقرًا أن يستعيضوا عن الغذاء بـ”نبتة الكيف”.

كيف لأكثر الشعوب فقرًا أن يستعيضوا عن الغذاء بـ"نبتة الكيف"
كيف لأكثر الشعوب فقرًا أن يستعيضوا عن الغذاء بـ”نبتة الكيف”.

والمتابع للمجتمع اليمني عن قرب، يجد مبررًا آخر للهوس بالقات، فهذا بلد مغلق لا متنفس آخر أمام الشباب أو الفتيات، يمكن اعتبار “التخزين” بمثابة “لحظات السعادة الوحيدة التي يعيشها اليمني دون ملل أو اكتئاب”.

في سبعينيات القرن الماضي أصدر الاشتراكي عبد الفتاح إسماعيل زعيم اليمن الجنوبي قرارات حظر القات، وقتها واجه غضبًا عارمًا وتظاهرات المنتجين والمستهلكين هتفوا: “يا فتاح يا كهنوت، القات يبقى وأنت تموت”.

فرصة الحظر

هذا الاستدعاء التاريخي يبرر موقف المجلس الانتقالي الجنوبي الذي رفض قرار حكومة عبدربه منصور هادي بمنع القات من دخول عدن، وهو ما يشير إلى أن الحظر لن يحظى بشعبية كبيرة إن لم يكن مستحيلاً من الناحية العملية تطبيقه.

حلّ شهر رمضان بطقوس “التخزين” المعروفة في المخيال الشعبي لأهل اليمن، باعتباره موروثا اجتماعيًا، حيث التجمعات الرمضانية التي لا تخلو من “ونس” القات، نضع بجوارها الإطار الاقتصادي للنبتة واعتبار انهيار أسواقه أمرًا مكلفًا للغاية في الوقت الذي يعاني فيه السكان من الفقر الشديد، يمكن القول إن القات الذي يوفر دخلًا للمزارعين والناقلين والبائعين بات إرثا اجتماعيًا زاد بريقه مع الحرب.

هكذا تغير الكثير في اليمن، إلا نبتة القات بقيت وفيّة للجميع لم تغادر أفواه أحد، حتى وإن تفقروا شيعًا وأحزابًا، يجمعهم “تخزين” المزاج، حتى وإن غادرت صفات واستحدثت أخرى بفعل غِل الحرب.

زمن الكلاشينكوف

كان “باب موسى” وسوق تعز التاريخيان مركزًا لصناعة الحرف اليدوية اليمنية، قبل أن يتحولان إلى سوق لبيع الرصاص ورشاشات الكلاشينكوف، عندما تتجول في السوق تجد لافتات المحال لا تزال مدوّن عليها “لبيع الزخارف” والمنسوجات وغيرها من الحرف اليدوية ذات الطابع التراثي لأهل اليمن، وما إن تلج برجلك إلى الداخل ستجد القنابل والرصاص مكان المنتجات فوق الرفوف.

هذا مشهد واحد من التأثيرات السياسية على حياة أهل اليمن، وهي تماس تماماً مع الحالة الاقتصادية لبلد يحتاج 24.1 مليون شخص (أكثر من ثلثي السكان) إلى مساعدة، في خضم أزمة إنسانية هي الأسوأ في العالم حاليًا، بحسب الأمم المتحدة. لذلك فإن أيّ متنفس لتوفير متطلبات أي حياة ليس بالضرورة كريمة يأتي على حساب أي شيء في اليمن سواء كان تراث أو صناعة أو غيرها.

لكن لماذا اليمن دون غيره من البلدان التي تشهد توترات في الشرق الأوسط، تعيش هذا الانفجار الهائل في اقتناء وتداول السلاح. الأمر يحمل خلفية اجتماعية باعتبار اليمن أكثر البلدان التي ينتشر فيها السلاح بكثرة بين القبائل، وهو رفيق السلم والحرب، لذلك فإن التركيبة الاجتماعية لبلد تشكل فيه القبائل حوالي 85% من تعداد السكان بواقع حوالي 400 قبيلة، مع الطبيعة المعروفة للمجتمع القبلي في اقتناء السلاح، وأنه جزء من الشخصية اليمنية ابتداء بالخنجر، لذلك يصبح الأمر انفجارًا في الحالة الأمنية المتدهورة.

سند قانوني

مرجعٌ آخر قانوني يتمثل في عدم تجريم القانون اليمني حيازة الأسلحة النارية من قبل المواطنين، وتنص المادة (9) من قانون تنظيم حمل الأسلحة على أنه “يحق لمواطني الجمهورية حيازة البنادق والبنادق الآلية والمسدسات وبنادق الصيد اللازمة لاستعمالهم الشخصي مع قدر من الذخيرة لها لغرض الدفاع الشرعي”.

مجتمع يرى أفراده قطع الكلاشينكوف أكثر من أي شيء آخر في حياتهم، فقد ترك ذلك أثرًا لدى الأطفال الذين لا يقوون على حمل السلاح الروسي المنتشر في أسواق مفتوحة، فجرى رصد ظاهرة انتشار “كلاشينكوف الأطفال” السلاح البلاستيك بغرض اللعب.

كلاشينكوف الأطفال

في مجتمعات عديدة يفضل الأطفال اقتناء الأسلحة في ألعابهم، يمكن أن يكون ذلك تأثرًا بالألعاب القتالية التي يشاهدونها، لكن في المجتمع اليمني فإن مفهوم السلاح مختصر في الكلاشينكوف، إذ طبيعي أن ترى أطفالاً يحملون سلاحهم التقليدي. هذا التباهي يراه خبراء “جزءًا من مكملات الشخصية اليمنية ومتطلبات الرجولة، إلى جانب استخدامها كزينة للرجال وحملها بشكل متواصل من قِبل مرافقي الشخصيات الاجتماعية وأفراد الميليشيات المنتشرة. والأطفال يقلدون ما يرونه”.

طفل يلهو بلعبة الكلاشينكوف
طفل يلهو بلعبة الكلاشينكوف

هذه بنت يمنية تطلُّ على الجمهور عبر مواقع التواصل وهي تخوض تحديًا لفك الكلاشنكوف وتركيبه وعيونها معصوبة في دقيقة، وطفلة تظهر في مقطع مصور وهي تجيد الرمي بالكلاشنكوف، تلك مشاهد من ثقافة اجتماعية باتت مسيطرة على وجدان الشخصية اليمنية.

وهؤلاء طلاب على مدخل جامعة سبأ، يتزاحمون وعلى أكتافهم حقائب دراسية وأسلحة الكلاشنكوف، مشهدٌ مغرقٌ في تفاصيله ودلالاته. تكتظ المحال التجارية المجاورة للجامعة بأسلحة الطلاب الذين يتركونها لديهم مقابل رسوم حتى يستردونها وهم خارجون من دراستهم، هل يؤمِّن الطالب مستقبله بالدراسة أم بالكلاشنكوف؟

أسلحة كلاشنكوف ملقاة في محال تجارية
أسلحة كلاشنكوف ملقاة في محال تجارية

عمليات التجميل

عندما نال الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح في جسده بعضًا من التشوهات التي تركها في تركيبة شعبه من جروحٍ وحروق على مدار سنيّ حكمه، هرع إلى المملكة العربية السعودية لتلقي العلاج عائدًا بوجه بدت عليه عمليات التجميل، في محاولة كان يظن إزاءها أن اليمن بحاجة إلى تلك العمليات على الأرض، لكن الأقدار شاءت أن يوغل في تمسكه المتطرف بالسلطة للحد الذي سمع يصرخ قبل مقتله بيومين وهو يخاطب جنوده في مؤتمر صحفي: “دكُّوهم بكافة أنواع الأسلحة”.

هذا هو التصور الذي تمسكت به أطراف الحرب باليمن، في أنّ البلاد بحاجة إلى عمليات تجميل تعيد لتركيبته الاجتماعية بعضًا من إرثها التاريخي، لكن ما حدث لم يبعد كثيرًا عما ناله علي عبدالله صالح لاحقًا. تداعى الجسد وتلطخت أنحاؤه بالدماء، فرحل صالح بالدماء وبقي اليمن ملطخة أيضًا بالدماء والتشوهات الاجتماعية.

لكن اليمنيين يتطلعون إلى الخروج من ساحات التغيير القسري لتركيبته الاجتماعية، ليعود يمنًا معهودًا في التاريخ لا أثر عليه من عمليات التجميل.

رائحة البن اليمني التي تعشقها الأنوف تلاشت مع دخان برائحة البارود بات يزكم الأنوف. وتدريجيًا أصبح يمن الكرم يأكل بعضه بعضًا، فيما المرض ينهش في أجساد من رفض الصعود على حلبة المسرح وفضّل أن يكون في مقاعد المتفرجين.

بُحَّت أصوات المطالبين بـ”حياة” مجرد حياة، تلك التي تشابهت على بعض النخب أبقارُها يقولون ما لونها يرد المهمشون إنه الغذاء والعلاج الذي يضمن البقاء على قيد الحياة.