يقول القدماء إن العدالة عمياء، لأنها لا تلتفت إلى العواطف، ولا تنظر إلى التوسلات. بل هي تطبق القانون فحسب. بينما يرى البعض الآخر على مرافقها غشاوة، لا ترى من خلالها الحقيقة. تلك التي تختفي وراء المظاهر.
تتوج العدالة مجموعة من القوانين التي تحكم علاقات البشر، و هي البديل عن السلطة المطلقة التي يملكها فرد أو مجموعة مستبدة. ويعد حق التقاضي بمختلف مراحله هو الطريق الأهم لجلب الحق ونشر المساواة.
تنص المادة السابعة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “كل الناس سواسية أمام القانون. لهم الحق في التمتع بحماية متكافئة عنه دون أية تفرقة. كما أن لهم جميعًا الحق في حماية متساوية ضد أي تميز يخل بهذا الإعلان. وضد أي تحريض على تمييز كهذا”.
اقرأ أيضًا.. 7 توصيات لإجراء “التقاضي عن بعد” دون الإخلال بحقوق الإنسان.. ورقة جديدة لـ”دفاع” و”دام”
هل لا يزال الحكم عنوان الحقيقة؟
ونص الدستور المصري على “المواطنون لدى القانون سواء. وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة. لا تمييز بينهم بسبب الدين، أو العقيدة، أو الجنس، أو الانتماء السياسي والجغرافى. أو لأي سبب آخر”.
لكن وبالرغم من هذه النصوص يظل النفاذ إلى مرفق العدالة، عبر مفهوم القانون. طريق تحفه الكثير من المصاعب، وعندها يكون السؤال هل لايزال الحكم عنوان الحقيقة؟. وهل للعدالة كلفة لا يتحملها الجميع؟
الرسوم القضائية تقطع جسور التواصل مع العدالة
منذ سنوات ألغت المحكمة العليا في بريطانيا المرسوم المنظم للرسوم القضائية، التي فرضتها الحكومة في المحاكم المختصة بقضايا العمل، حيث رأت أنها غير قانونية بموجب القانون الداخلي وقانون الاتحاد الأوروبي لأنها حالت دون إمكانية اللجوء إلى العدالة.
وخلال السنوات الأخيرة أيضًا أصبحت الرسوم القضائية عبئًا على كاهل المواطنين، وعائقًا أمام استغلالهم لمرفق العدالة. وفي حين ظلت الخدمة على حالها، زادت أعداد القضايا. كذلك أسعار تلك المبالغ المقررة عليها، حتى وإن تنوعت مسمياتها.
وتخضع الرسوم القضائية للقانون رقم 90 لسنة 1944 وتعديلاته، حيث يلتزم المدعي بسداد رسم عند رفع الدعوى. وأثناء تداول الدعوى مثل رسوم انتقال المحكمة أو الشهود و أتعاب الخبراء. وأخيرًا رسوم يلتزم بها خاسر الدعوى والذي يلزمه الحكم بسدادها من الخصوم.
ولايتوقف الأمر على ذلك فهناك ضريبة تخص المحامي وتخضع لدرجته القانونية الوظيفية. حيث يدفع محامي النقض أعلى من نظيره في الاستئناف. إلى جانب التمغة، وورسم الميكروفيلم إن وجد.
مع الأخذ في الاعتبار أن خط الفقر في البلاد يصل إلى 30% تقريبًا، حسب التعبئة والإحصاء. بينما ترتفع تلك النسبة بين النساء، والأطفال.
في شهادته حول رسوم العدالة يقول المحامي أحمد راغب: “للعدالة تكلفة متشعبة التفاصيل. في حين تبدو بعض العوامل الداخلة فيها غير مهمة. إلا أن الممارسة على الأرض تثبت غير ذلك”. فمثلا بعد بعض المصالح القضائية كمكتب النائب العام الكائن في مدينة الرحاب بالقاهرة الجديدة بمعزل عن خطوط المواصلات العامة التي يرتدها أغلبية المواطنين.
فمن جانب توجد الرسوم المتصاعدة كلفة مادية، متغيرة غير متاحة للجميع. وقد تختلف الرسوم في مسمياتها أو حتى على من تقع سواء القضايا أو المحامي. وفي كل الحالات يتحملها المواطن العادي.
ويعتبر راغب أن العدالة مرفق يوازي في أهميته مرفق الصحة، ورغم تكلفته المتصاعدة، يتخلل الأمر نزعات تمييزية. مثل إنشاء محاكم الاستثمار التي تقدم خدمات ذات رسوم مرتفعة لا تتوفر للجميع.
مصاريف ورسوم التقاضي
وخلال السنوات الأخيرة أصبح التساؤل حول حجم مصاريف القضية، أحد الأسئلة المهمة من المدعين. أو تلك التي تساهم في تقييمه لمسألة جدوى اللجوء إلى العدالة.
يستكمل المحامي محسن البهنسي رواية تكلفة العدالة، وفصل الرسوم تحديدًا. ذلك الذي اعتبره بهنسي أن الغاية التشريعية منه تقليل عدد القضايا. لا زيادة وتنقيح منظومة الخدمات. بشكل يمس الحق في التقاضي الذي تعهدت به دساتير العالم .
ويلفت بهنسي إلى أنه حتى القضايا العمالية التي يفترض بها أن تكون مجانية، لا تعفى من كل الرسوم في حال استعجال الدعوى على سبيل المثال.
وخلال السنوات الأخيرة تضاعفت الرسوم بما يمس أهداف العدالة. ووصلت إلى حد إرغام المدعي والمدعى عليه، إلى تسديد رسم خسارة الدعوى مقدمًا، بغض النظر عن القدرة المالية للمدعين. وفي حال استرداد الرسوم تضع الإجراءات عقبات عدة في الطريق، تتكلف بدورها وقتًا ومالًا ما يجبر المواطن على خسارة أمواله المستحقة.
الأخطر من ذلك بحسب بهنسي هو أن المبالغة في الرسوم أدخلت الشك إلى نفوس المتقاضيين في منظومة العدالة، فلجأوا لاستخدام القوة الجسدية والمادية. يظهر ذلك في قضايا الفرز والتجنيب على سبيل المثال. التي يستلزم حلها عن طريق المحكمة دفع 25% من قيمة الميراث. فيضطر الأفراد إلى سلوك طريق العنف، وأخذ الحق باليد.
وفي باب الرسوم أيضًا تروي الباحثة في شؤون المرأة لمياء لطفي: “حتى وقت قريب كانت الرسوم القضائية مقبولة. لكن المبالغة فيها خلال السنوات الأخيرة أصبح عائقًا أمام المتقاضيين. خاصة في قضايا الأحوال الشخصية التي تتعدد جوانبها فيرتفع مبلغ الرسوم بالتبعية”.
وفي ظل ظاهرة تأنيث الفقر، ومعدل البطالة المرتفع بين النساء، فربما يجدن صعوبة في دفع هذه الرسوم. لتقف عائقًا أمام الحصول على حقوقهن.
العدالة تحت رحمة السلطة التقديرية
وفي الأحوال الشخصية أيضًا يلفت المحامي محسن بهنسي إلى أنها من الدعوات ذات الطبيعة الخاصة، والتي يجب فيها مراعاة الظروف الاقتصادية للزوجة. ومع هذا استحدث المشرع تعويضات للأزواج الذكور في حال رفضت حكم الرؤية على سبيل المثال وبشكل مبالغ فيه يتجاوز كثيرًا الجرم نفسه. كذلك النفقة التي سبق وأن حددها القاضي، بشكل يشوبه التمييز.
التمييز نفسه لفتت إليه لمياء لطفي في أحكام الأحوال الشخصية التي تفتح الباب بشكل موسع للسلطة التقديرية للقاضي. وخلفيته الثقافية، في الحكم للزوجات، ويظهر ذلك في دعوات الخلع على سبيل المثال.
ويبرز أيضًا في إطالة القاضي نفسه أحيانًا مدة التقاضي على أمل التصالح، دون الأخذ برأي الزوجة ومعاناتها النفسية في الاعتبار.
عيوب النصوص القانونية
يرجع المحامي بهنسي مسألة السلطة الموسعة للقضاة على مستوى التقدير، إلى عيوب تشوب النصوص القانونية، وفتح الباب أمام التأويل، بألفاظها الفضفاضة، يضرب بهنسي مثالًا على ذلك بقضايا التعذيب التي غالبًا ما يتم الحكم فيها بأحكام مخففة أو مع إيقاف التنفيذ وحداثة سن الشرطي، أو وضعه الاجتماعي، هما الحجة المميزة لمثل هذه القضايا.
وفي قضايا مبارك ورجاله وفرت المنظومة محاكمات علنية عادلة، وفي الجهة المقابلة تدخلت الانحيازات الشخصية للقضاة في ابداء آراءهم علنًا أو تانيب المتهمين بحسب بهنسي.
للأمر بعد اقتصادي أيضًا يظهر في قضايا إيصالات الأمانة على سبيل المثال، والتي تتسبب في سجن مئات الغارمين والغارمات من محدودي الدخل. إذ يحكم القاضي بسجن “الغلابة” من أجل ثلاجة بالقسط مثلًا. بالرغم من تأكده من أن المستند مجرد انعكاس لمعاملة تجارية بسيطة، لاتستلزم عقوبة الحبس. ذلك بغرض الحفاظ على المعاملات التجارية في الأسواق.
يتراجع حظ الفقراء أيضًا في ظل فرض نظام الرقمنة الذي يفترض بأن الفضاء الإلكتروني متاح للجميع رغم تكلفته الباهظة بالنسبة لهم. ذلك بحسب المحامي أحمد راغب. في حين يرى بهنسي أن للرقمنة حسنة تتمثل في الحد من المحسوبية، والطبقية في التعامل مع القضايا. إلا أن الأمر لم يتم تنظيمه بالشكل الكافي بعد، فلايزال الفساد مستشري.
الفساد وطول مدة الاجراءات أحد العقبات
الفساد وطول مدة الاجراءات أحد العقبات التي تقف حائلا دون نفاذ المواطنين إلى منظومة العدالة، وبحسب وزير العدل فإن عدد القضاه 22000 قاضي بالمحاكم المدنية والجنائية بواقع قاضى لكل 35000 مواطن. لأن تعيين القضاه يتوقف على التحري من الشبهات وحسن السيرة الذاتية والسمعة.
وعلى طريقة وزير العدل السابق محفوظ صابر، وأحمد الزند “ابن الزبال ميدخلش القضاء” تتناقص أعداد القضاة أمام 60 مليون مصري “متجرجرين” في المحاكم، على حد قول مسئولون في وزارة العدل.
وفي المقابل، يشير المحامي بهنسي إلى أن عدد الموظفين المعاونين لا يمكن حصره، ما بين خبراء، ومحضرين، وموظفين معاونين، ورواتب متواضعة لا تقترب بأي حال من الأحوال لدخل القضاة.
وذلك على الرغم من تكدس قوائم أعمالهم بالكثير من المهام، مما يفتح الباب للفساد، ولشكل من أشكال العدالة الانتقائية، كل حسب دخله وطبقته، لا حقوقه وحاجته.
التكدس في القضايا أيضا يطول من قوائم الانتظار سواء بين المعاونين، او القضاة، على سبيل المثال تتجاوز القضية الواحدة 3 سنوات، في أدراج الخبراء، بينما يتعدى الرول القضائي الألف قضية خلال اليوم الواحد.
هذا العدد المبالغ فيه من القضايا تسبب ارهاقا ذهنيا، وتخلق تساؤلات حول كفاءة المنظومة القضائية، وهو مالخصه المحامي بهنسي في قوله “ممكن تمرض او حتى تموت وقضيتك لسه في المحكمة”.
قوات إنفاذ القانون حجر عثرة في طريق العدالة
يعد تنفيذ الأحكام القضائية أحد العثرات أمام النفاذ إلى العدالة، ويعزى المحامي أحمد راغب الأمر إلى الأجهزة المرتبطة بالهيئة القضائية، مثل القوات الشرطية. التي يستلزم تفعيل عملها تغيير وتطوير شامل، بما لايسمح بالتلاعب الجاري.
تسمح التشريعات المصرية في بعض نواحيها بتنفيذ القوانين دون اللجوء إلى القضاء، بحسب المحامي محسن بهنسي. مثل التمكين من العقار المؤجر مثلًا. لكن نظرًا لتراخي قوات إنفاذ القانون في أداء عملها، تظهر اشكاليات الإكراه. واستعراض القوة.
امتناع قوة إنفاذ القانون عن تنفيذه يدعمها المشرع حين أقر بسقوط الحكم في حال مر على عدم تنفيذه ثلاث سنوات. ما يطمئن نفسية الظالم، ويشكك المظلوم في الحصول على حقوقه. حتى في حال حكم له القانون.
وينوه بهنسي عن مأساة لاينتبه لها سوى العاملين في حقل القانون، وهي مسألة سوء الحفظ، والأرشفة، وأسطح المحاكم المكدسة بملفات المتقاضيين، وتناوب الفئران على قرضها شاهد على ذلك.