كان غاندي محاميًا، يعرف الفرق بين (العدل والقانون)، وعندما كان يحاكم متهمًا بالتحريض على مقاومة الاستعمار الإنجليزي، وقف في قفص الاتهام ليقول كلمة خلدها التاريخ “أنا أقف هنا لأتقبل أي عقوبة تفرضونها، وإني لا أطلب الرحمة، ولا تخفيف العقاب عني، إنني هنا أرضى بذلك لأنه أسمى مايجب علي كمواطن أدائه”. ثم جاء دور القاضي الإنكليزي فنطق بالحكم عليه بعقوبة السجن. ثم وقف احترامًا لغاندي، مبديًا أسفه لأنه اضطر للحكم بسجن رجل وطني وقائد عظيم لشعبه، رجل قديس بمثُله وشرفه، فتوجه إلى (غاندي) قائلاً: “إغفر لي سيد غاندي، أنا أحكم بالقانون، وليس بالعدل”. وقد أضاف القاضي: “إذا هدأت الخواطر، وقررت الحكومة تخفيض العقوبة عنك أو إلغاءها، فلن يكون هناك من هو أسعد مني”.
هذا الموقف يرسل إلينا رسالة واضحة المعالم من جهة، ويجسد من جهة أخرى، قضية إشكالية تشير إلى أن العدل فكرة مستقرة في عقل الإنسان وضميره. بينما القانون ما هو إلا نصوص ووقائع. فالفرق بين العدل والقانون هو الفرق بين المثال والواقع. فالقاضي يحكم بموجب القانون، الذي قد لا يتطابق دائمًا مع فكرة العدل، التي تتناقض مع القوة التي يملكها من بيدهم الأمر. والقانون معصوب العينين، لا يميز بين المصلحة والقوة.
العدل إذن كلمة تفيد معنى المساواة، وهي مساواة مرتبطة بالدور الاجتماعي للقانون، فالمفروض أن يطبق القانون بمساواة بين جميع الأشخاص والحالات التي يتناولها في مركز قانوني معين ولغرض معين بالذات وللهدف الذي يرمي إليه، فالمثل يعامل كمثله، وغير المتساويين لا يلقون معاملة متساوية، ويتحقق ذلك من خلال قواعد قانونية عامة مجردة تطبق على الجميع بنزاهة ودون محاباة، ويقتصر دور العدل الشكلي هنا على بيان أن الإجراءات كانت عادلة لأن أحدًا لم يستثن أو يستبعد بشكل غير عادل من تطبيق القانون، مثلاً لا فرق بين أم تسرق لإطعام أطفالها الجياع وبين من يسرق لإرضاء ملذاته وشهواته، لأن العدل القانوني يعتد بالوضع الغالب الظاهر لا بالوضع الداخلي الخاص للمخاطبين بحكمه. أما العدالة فهي كلمة يفيد معناها الإنصاف، فقد صور أرسطو أساس العدل العام في المساواة الذي توفره القاعدة القانونية، إلا أنه وضع يده على فكرة المعيار القانوني، وذلك عندما يكون هناك حالات يؤدي تطبيق القاعدة القانونية عليها إلى نتائج ظالمة، وهذا ما يؤدي إلى البحث عن قواعد الإنصاف أو الملائمة أو العدالة.
والعدالة وفقًا للمعنى العام لها، تعني الشعور بالإنصاف وهو شعور كامن في النفس يوحي به الضمير النقي ويكشف عنه العقل السليم وتستلهم منها مجموعة من القواعد تعرف باسم قواعد العدالة مرجعها مثل عليا تهدف إلى خير الإنسانية بما توحي به من حلول منصفة ومساواة واقعية تقوم على مراعاة دقائق ظروف الناس وحاجاتهم، وتعد العدالة هي المبدأ الأساسي الذي يجب أن تستند إليه جميع القوانين. ومع ذلك، لا يوجد تطبيق للعدالة في حد ذاتها، ولكن يمكن تطبيق وإنفاذ القوانين والمعايير بطريقة عادلة ومنصفة من قبل القضاة والحكومات.
ويمثل القانون الذي يعني فيه معناه الحرفي أنه مجموعة قواعد من لوائح أو نصوص قانونية وضعتها السلطة المختصة، بهدف تنظيم حياة المواطنين واحتياجاتهم في التعامل، وكذلك تنظيم حدود السلطة أو الحكومة ومدى حدود علاقتها بالمواطنين، وهو بهذا المعنى يشكل بداية طريق العدل ولابد أن يكون هناك قانون ينظم الحياة ويحمي حقوق الأفراد ويكون مرجعًا يُستند إليه، إذ أنه يشكل الوسيلة اللازمة لتحقيق العدل، ويقتصر هدف القانون على تحقيق العدل وليس تحقيق العدالة، فالعدل والعدالة كلاهما يقوم على المساواة بين الناس، إلا أن المساواة التي تقوم عليها فكرة العدل هي مساواة مجردة تعتد بالوضع الغالب دون اكتراث بتفاوت الظروف الخاصة بالناس، أما العدالة (الإنصاف) فتقوم على مساواة واقعية على أساس التماثل في الأحكام المنصرفة للحالات المتماثلة شروطها أو الأشخاص المتشابهة ظروفهم مع مراعاة البواعث الخاصة وتفاصيل الظروف.
ولكن متى تحقق القوانين العدالة أو العدل بين الأطراف جميعها بمساواة لا تفرق بين طرفين متخاصمين، أو متى تسعى النصوص القانونية بوصفها هي الحاكمة الفعلية لتصرفات البشر داخل مجتمع معين إلى تحقيق مفهوم العدل والعدالة والإنصاف للجميع دون تفرقة بين أحد وآخر، أو تمييز بين شخص وغيره؟
تتوقف الإجابة على هذا السؤال، بما يعني أن تكون القوانين هي بالفعل وسيلة أساسية لتحقيق مفهوم العدل في الحياة، على طريقة صناعة هذه القوانين، وكذلك على طريقة تطبيقها. أما عن طريقة صنع القانون حتى تكون ذات تأثير في تحقيق العدل و العدالة، فإنها يجب أن تكون خارجة من منطق احتياجات مجتمعية في الأساس، وأن يتوخى صُناعها تطبيقها على الجميع دون تمييز أو استثناء، وأن تكون مكتوبة بصياغة تضمن تحقق ما ذهبت إليه نصوصه، أما عن طريقة تطبيق القانون ومدى ارتباطها بتحقيق العدل، فكلما كانت السلطة القضائية اكثر استقلالاً كانت هناك ضمانة بتطبيق نصوص القانون بشكل يوحي بالمساواة بين الأطراف، أو حتى بين الحكام والمحكومين، ولكن كلما أزداد تدخل السلطة أو الحكومة في طريقة تشكيل القضاة، أو كيفية عملهم، كان ذلك سببًا رئيسيًا لعدم تحقق العدالة عن هذا الطريق، وذلك لاستواء طرف ما عليه، وعدم قدرته على تحقيق استقلاليته المطلوبة لتطبيق القانون بشكل متساوي.
ومن هنا، فإنه يجب على الحكومات أن تحث سلطاتها التشريعية على صناعة القانون بشكل يجعله صالحًا لتحقيق العدالة، وأن تبتعد “الحكومة” عن التأثير على تشكيلات الهيئة التشريعية، كما يجب عليها أن تبتعد قدر المستطاع عن التدخل في طريقة صناعة القوانين، أو أن تحتل هي دور السلطة التشريعية، سواء كان ذلك عن طريق السيطرة على غالبية تشكيل المجلس النيابي، أو عن طريق التقدم بمشروعات القوانين، أو عن طريق استغلال فترات غياب المجلس التشريعي وإصدار قرارات لها قوة القانون.
كما يجب عليها أن تبتعد عن التأثير على السلطات القضائية مستخدمة سياسة المنع والمنح، أو التدخل في شؤونها سواء بالتعيين أو الندب أو النقل، وأن يعهد بذلك على الجهة القضائية باستقلالية تامة.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا