“تجاوزا الحد”.. هو عنوان التقرير الذي أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش تعليقًا على سياسات “الابارتهيد” من قبل الاحتلال الإسرائيلي فيما يخص جريمتي الفصل العنصري والاضطهاد، ضد أصحاب الأرض من الفلسطينيين.
واستندت “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها الصادر الثلاثاء إلى نتائج سياسة سلطات الاحتلال التي تتضمن تمكين هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين والانتهاكات الجسيمة التي تُرتكب ضد الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، بما فيها القدس الشرقية.
يأتي التقرير على وقع انتهاكات ممنهجة يرتكبها المتطرفون اليهود في حق الفلسطينين خلال الأيام الأخيرة، وبمساندة قوات الاحتلال. وأسفر مواجهات عنيفة في القدس المحتلة عن أكثر من 100 جريح فلسطيني.
واضطرت قوات الاحتلال لإزالة الحواجز الحديدية من منطقة باب العامود في مدينة القدس. وهي الخطوة التي اعتبرتها الفصائل الفلسطينية انتصارًا، فيما عدها البعض بداية الانتفاضة الثالثة.
ويعرض تقرير “هيومن رايتس” الواقع الحالي. ذلك أن ثمة سلطة واحدة تتمثل في قوات الاحتلال، باعتبارها الجهة الرئيسية التي تحكم المنطقة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. حيث تسكن مجموعتان متساويتان في الحجم تقريبًا، لكن هذه السلطة تمنح بشكل ممنهج امتيازات للصاهينة، بينما تقمع الفلسطينيين. ويمارس هذا القمع بشكله الأشدّ في الأراضي المحتلة.
المدير التنفيذي لهيومن رايتس ووتش كينيث روث قال: “حذّرتْ أصوات بارزة طوال سنوات من أن الفصل العنصري سيكون وشيكًا إذا لم يتغير مسار الحكم الإسرائيلي للفلسطينيين. كما تظهر هذه الدراسة التفصيلية أن السلطات الإسرائيلية أحدثت هذا الواقع وترتكب اليوم الجريمتين ضد الإنسانية المتمثلين في الفصل العنصري والاضطهاد”.
“أبارتهيد” قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين
وقال التقرير إن مصطلح “أبارتهايد” أو الفصل العنصري الذي صِيغ في سياق متصل بجنوب أفريقيا، أصبح اليوم مصطلحًا قانونيًا عالميًا. إذ يشكل الحظر على التمييز المؤسسي والقمع الشديدين والفصل العنصري مبدأ أساسيًا في القانون الدولي. وذلك طبقًا لـ”الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها” لسنة 1973. و”نظام روما الأساسي المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية” لسنة 1998. وهما يعرِّفان الفصل العنصري باعتباره جريمة ضد الإنسانية تتكون من ثلاثة عناصر أساسية، الأول: نية إبقاء هيمنة جماعة عرقية على أخرى. والثاني: سياق من القمع الممنهج من الجماعة المهيمنة ضد الجماعة المهمشة. والثالث: الأفعال اللاإنسانية.
وأوضح التقرير أن الإشارة إلى الجماعة العرقية لا تتناول المعاملة على أساس السمات الوراثية فحسب. بل أيضًا على أساس النسب والأصل القومي أو الإثني، على النحو المحدد في اتفاقية التمييز العنصري. وكذلك الجريمة ضد الإنسانية المتمثلة في الاضطهاد، كما يعرّفها نظام روما الأساسي والقانون الدولي العرفي، تتكون من الحرمان الشديد من الحقوق الأساسية لمجموعة عرقية، أو إثنية، أو غيرها بقصد تمييزي.
وجدت “هيومن رايتس ووتش” أن عناصر الجريمتين تجتمع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كجزء من سياسة قوات الاحتلال. وتتمثل هذه السياسة في الإبقاء على هيمنة الإسرائيليين اليهود على الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي المحتلة. كما تقترن بقمع ممنهج وأعمال لاإنسانية ضد الفلسطينيين القاطنين في بلدهم.
سياسات الفصل العنصري الإسرائيلية
وبناءً على سنوات من التوثيق الحقوقي، ودراسة الحالات، ومراجعة وثائق التخطيط الحكومية، وتصريحات ومصادر أخرى. قارنت “هيومن رايتس” السياسات والممارسات تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وقوات الاحتلال، بتلك المتعلقة بالإسرائيليين الذين يعيشون في نفس المناطق. كما راسلت المنظمة قوات الاحتلال في يوليو2020 طالبة منها عرض وجهة نظرها بشأن هذه القضايا، لكنها لم تتلق أي رد.
وكشف التقرير عن سعي سلطات الاحتلال إلى زيادة الأراضي المتاحة للبلدات اليهودية وتركيز معظم الفلسطينيين في مراكز سكانية مكتظة. كما تبنّت سياسات للتخفيف مما وصفته علنًا بأنه “تهديد” ديموغرافي من الفلسطينيين.
في القدس على سبيل المثال، تهدف خطة الاحتلال للبلدية بما يشمل الأجزاء الغربية وتلك المحتلة الشرقية من المدينة إلى “الحفاظ على أغلبية يهودية متينة في المدينة”. بل وتحدد النسب الديمغرافية التي تأمل في الحفاظ عليها.
بهدف الإبقاء على الهيمنة، يضيف التقرير، أن سلطات الاحتلال تمارس تمييزًا منهجيًا ضد الفلسطينيين. هذا التمييز المؤسسي الذي يواجهه الفلسطينيون في “إسرائيل” يشمل قوانين تسمح لمئات البلدات اليهودية الصغيرة فعليًا باستبعاد الفلسطينيين، ووضع ميزانيات تخصص جزءًا ضئيلاً من الموارد للمدارس الفلسطينية، مقارنة بتلك التي تخدم الأطفال اليهود الإسرائيليين.
في الأراضي المحتلة، يشير التقرير إلى أن شدة القمع ترقى إلى القمع الممنهج، وهو شرط لتحقيق الفصل العنصري. ويشمل هذا القمع فرض حكم عسكري شديد القسوة على الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه يمنح المحتلين الذين يعيشون بشكل منفصل في المنطقة نفسها حقوقهم الكاملة بموجب قانون الاحتلال.
قيود على التنقل والبناء بهدف الهيمنة
في التقرير أيضًا ارتكبت سلطات الاحتلال مجموعة من الانتهاكات ضد الفلسطينيين، العديد منها تشكل خرقًا جسيمًا للحقوق الأساسية وأعمالاً لاإنسانية. والتي تشمل القيود المشددة على التنقل المتمثلة في إغلاق غزة ونظام التصاريح، ومصادرة أكثر من ثلث أراضي الضفة الغربية. هذا فضلا عن الظروف القاسية في أجزاء من الضفة الغربية التي أدت إلى الترحيل القسري لآلاف الفلسطينيين من ديارهم. كما تشمل أيضًا حرمان مئات آلاف الفلسطينيين وأقاربهم من حق الإقامة، وتعليق الحقوق المدنية الأساسية لملايين الفلسطينيين.
ويقول التقرير إن العديد من الانتهاكات التي تشكل جوهر ارتكاب هذه الجرائم لا تستند إلى أي مبرر أمني. وضرب مثالاً بالرفض شبه القاطع لمنح الفلسطينيين تصاريح بناء وهدم آلاف المنازل بحجة غياب التصاريح.
وأشار التقرير إلى بعض الانتهاكات الأخرى، مثل قيام الاحتلال بتجميد سجل السكان الذي تديره في الأراضي المحتلة. كما تستخدم الأمن كذريعة لتحقيق مآرب ديموغرافية أخرى. وتمنع “لم شمل” العائلات الفلسطينية التي تعيش هناك بشكل شبه تام، وكذلك تمنع سكان غزة من العيش في الضفة الغربية.
وأكدت هيومن رايتس ووتش أنه حتى عندما يشكل الأمن جزءًا من الدافع، فإنه لا يبرر الفصل العنصري والاضطهاد، تمامًا كما لا يبرر القوة المفرطة أو التعذيب.
وقال ممثلها روث: “حرمان ملايين الفلسطينيين من حقوقهم الأساسية، دون مبرر أمني مشروع. فقط لكونهم فلسطينيين وليسوا يهودًا، ليس مجرد مسألة احتلال تعسفي. هذه السياسات التي تمنح اليهود الإسرائيليين نفس الحقوق والامتيازات أينما كانوا يعيشون، وتُميّز ضد الفلسطينيين بدرجات متفاوتة أينما كانوا يعيشون، تعكس سياسة تمنح امتيازًا لشعب على حساب الآخر”.
سياسات يهودية طويلة الأمد
كذلك فإن تصريحات سلطات الاحتلال وإجراءاتها في السنوات الأخيرة أوضحت نيتها الإبقاء على هيمنة اليهود الإسرائيليين. وشمل ذلك سن قانون له مكانة دستورية عام 2018 ينص على أن “إسرائيل” “دولة قومية للشعب اليهودي”. بالإضافة إلى مجموعة القوانين المتنامية التي تمنح المزيد من الامتيازات للمستوطنين في الضفة الغربية ولا تسري على الفلسطينيين الذين يعيشون في نفس المنطقة. أضف إلى ذلك التوسع الهائل في المستوطنات خلال السنوات الأخيرة والبنية التحتية المصاحبة لها التي تربطهم بإسرائيل.
وطالبت “هيومن رايتس” السلطات الاحتلال بإنهاء جميع أشكال القمع والتمييز التي تمنح امتيازًا لليهود الإسرائيليين على حساب الفلسطينيين. بما في ذلك حرية التنقل، وتخصيص الأراضي والموارد، والحصول على المياه والكهرباء وغيرها من الخدمات، ومنح تصاريح البناء.
إعادة تقييم وضع الاحتلال دوليًا
ودعت المنظمة مكتب الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق مع الضالعين بشكل موثوق في الجريمتَين ضد الإنسانية المتمثلين في الفصل العنصري والاضطهاد ومقاضاتهم. وكذلك طالبت الدول الأخرى أن تفعل ذلك أيضًا وفقا لقوانينها المحلية بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية. وبمقتضى ذلك تستطيع الدول فرض عقوبات فردية على المسؤولين عن هاتين الجريمتين، تشمل حظر السفر وتجميد الأصول.
وتابعت المنظمة: “النتائج التي تخلص إلى وجود جرائم ضد الإنسانية يجب أن تدفع المجتمع الدولي إلى إعادة تقييم طبيعة عمله في إسرائيل وفلسطين واعتماد نهج يركز على حقوق الإنسان والمساءلة بدل أن يقتصر على (عملية السلام) المتوقفة”. وأضافت: “على الدول تشكيل لجنة تحقيق تابعة لـ(الأمم المتحدة) للتحقيق في التمييز والقمع الممنهجين في الأراضي المحتلة. واستحداث منصب مبعوث عالمي تابع للأمم المتحدة لجريمتَي الاضطهاد والفصل العنصري. بالإضافة إلى تفويض لحشد الإجراءات الدولية لإنهاء هاتين الجريمتين في جميع أنحاء العالم”.
وشددت المنظمة على ضرورة فرض شروط تربط بيع الأسلحة والمساعدات العسكرية والأمنية لإسرائيل باتخاذ الأخيرة خطوات ملموسة. ويمكن التحقق منها باتجاه إنهاء ارتكابها هاتين الجريمتين.
وكذلك فحص الاتفاقات، وخطط التعاون، وجميع أشكال التجارة والتعامل مع الاحتلال للتدقيق في المساهمين المباشرين في ارتكاب الجرائم. هذا بالإضافة إلى التخفيف من تأثير هذه الأنشطة على حقوق الإنسان. وتابعت المنظمة: “وحيثما لا يكون ذلك ممكنا، عليها إنهاء أشكال الأنشطة والتمويل التي يتبيّن أنها تسهّل هذه الجرائم الخطيرة”.
قال روث: “بينما يتعامل معظم العالم مع الاحتلال الإسرائيلي المستمر منذ نصف قرن على أنه حالة مؤقتة ستحلها قريبا (عملية سلام) التي استغرقت عقودًا، وصل اضطهاد الفلسطينيين هناك إلى حد واستمرارية يتوافقان مع تعريفات جريمتَي الفصل العنصري والاضطهاد.
وأضاف: “على أولئك الذين يسعون جاهدين إلى تحقيق السلام الإسرائيلي-الفلسطيني. سواء كان الحل في دولة واحدة أو دولتين أو كونفدرالية، أن يعترفوا في هذه الأثناء بهذا الواقع على حقيقته ويستخدموا أدوات حقوق الإنسان اللازمة لإنهائه”.