كقطع الأحجية يقدم تامر محسن شخصياته، يطرح قطعة في جملة في مشهد ثم في حلقة أخري يُلقى أمامك رد فعل معين لتضعه في سياق الجملة السابقة، ثم يُلوح لك بنقطة ضعفه ويعود ليؤكد عليها في حلقة أخرى، لن تستطيع أن ترسم الشخصية منذ الحلقة الأولى، ليس هناك أشرار خالصين ولا طيبون مثاليين، شخصياته مثلنا: بها الشر الذي لم يجد مجالًا ليظهر بعد والخير الذي نقدمه للناس في سذاجة تتكرر يعقبها ندم أو انتقام.

في النهاية شخصياته سواء في مسلسل “هذا المساء” إنتاج 2017 ومسلسل “لعبة نيوتن” الذي يُعرض الآن في رمضان جميعهم واقعيين وربما بعضهم معقد أو مُركب نفسيا، مثل “حازم” زوج “هنا” الذي يبدو لنا زوجًا حنونًا وغيورًا في الحلقة الأولى والثانية، لكن فيما بعد ومع اكتمال عدد كبير من قطع شخصيته سنترجم تصرفاته بأنه يقوم بميكانيزم دفاع نفسي شهير تجاه “هنا”.

اقرأ أيضًا.. في رمضان| النساء تؤخر “الطمث” بحبوب منع الحمل خوفًا من نظرة المجتمع

(1)

يخبرنا علم النفس أنه عندما يشعر الناس بمشاعر سلبية، فإنهم يبحثون غالبًا عن طرق مختلفة للتعامل مع هذه المشاعر غير المرغوب فيها، وفي بعض الأحيان يكون الناس على دراية بأنفسهم وهم يقومون بذلك، ولكن في كثير من الحالات، يتم ذلك بشكل غير واعي.

مسلسل هذا المساء

تعريف الميكانيزمات الدفاعية، أنها طريقة واحدة للحد من القلق واستعادة التوازن، وتعمل هذه الدفاعات دون وعي للمساعدة في تقليل القلق من الأشياء التي يجدها الناس مهددة أو غير مقبولة. وفي حين أن المشاعر اللاشعورية قد تكون خارج الوعي، إلا أنها ما زالت قادرة على التأثير في السلوك وخلق القلق للفرد.

(2)

منذ الحلقة الأولى في “لعبة نيوتن” نرى حازم زوجًا حنونًا يُحيط زوجته بالاهتمام والخوف، نترجم انفعاله عليها وعصبيته إذا أبدت رأيًا مخالفًا لرأيه أنه حب أبوي، قليلون التقطوا خيط الشخصية الحقيقي من هذه المشاهد القليلة، عرفوا أنه لم يكن خوفًا أو رعاية زائدة بسبب سفرها وهي حامل، سنلتقط أول خيط لشخصية حازم في جملة يقولها في قلق واضح: ” هنا.. أوعي وانتي هناك تشوفي لك شوفة.. تبقي ماشية في الشارع تقابلي براد بيت ولا ليوناردو ديكابريو بتاع تيتانك ده، افتكري حازم على طول” لم تكن مجرد جملة يتدلل بها زوج على زوجته ليحظي بلحظة دلع أو كلمات رقيقة، لكنها في الحقيقة كانت الدليل الأول على ضعف شخصيته وعدم ثقته بنفسه، وهو ما تأكد في مشهد آخر، عندما شك في سلوكها بعد السفر، حين علم بأنها تسكن مع شخص وكذبت عليه.. لم يستمع لها، بل قال لها “حصل إيه بينكم؟” وكأن وجودها مع أحدهم في بيت واحد معناه حدوث علاقة جنسية، مع أنها ظلت تردد له أنه صديق الفتاة التي تعيش معها، ولكنه لا يستمع ويمطرها باتهامات، لا يعطيعا فرصة لكي تبرر أو تدافع.. هو حسم الأمر من البداية  فهو لا يثق بها ولا بنفسه وربما الأخيرة هي الأصح. فيما بعد في مشاهد أخرى سنجد أن حازم يفرض شخصيته عليها لأنه ليس متحقق ذاتيًا في أسرته، أبوه وأمه يرونه فاشلاً وفي الحقيقة فهو بلا طموح ولا تخطيط، كان يعمل في بنك وتركه ليعمل مع هنا في مشروع المنحل وهي الحاصلة على ماجيستير في مجالها، يقوم بغش عسل النحل الذي يستخرجه ويتعجب بأنه لا يستطيع أن يبيعه، سنعرف أنه يحاول أن يسيطر عليها ويقودها دائمًا ويبرز ضعفها وخوفها وقلقها أمامها لتظل تشعر بأنها تحتاجه، دائمًا ما يخطيء في حقها فيخبرها: “انتي تسمعي الكلام وتحطي الجزمة في بوقك وترجعي مصر” ويهددها في مرة أخرى: “لو ما رجعتيش على الطيارة اللي حجزت لك عليها فأنتي طالق”، ويعود مرة أخرى فيقدم فيها بلاغ بجريمة الزنا بدون أن يعرف ماذا دفعها لتكتب ابنه بأسم رجل أخر، هو دائمًا قلق وعنيف وعصبي معها ويشعرها دائمًا بأنها الأضعف التي لا تعرف، ما يفعله حازم مع هنا هو ميكانيزم دفاعي شهير اسمه: الإزاحة.

(3)

الإزاحة Displacement هي ميكانيزم دفاعي يتم خلاله نقل المشاعر السلبية من المصدر الأصلي للانفعال إلى شخص أو كائن أقل تهديداً. ويتم إعادة توجيه المشاعر السلبية الناتجة عن مصدر الانفعال نحو بديل أكثر ضعفًا.

( 4)

مستر أكرم أيضًا “في هذا المساء” كان يبحث عن شخص أقل منه وأضعف ليستطيع أن يفرض آراؤه عليه وليتحقق ذاتيًا أمامه، فاختار عبلة لتكن زوجته الثانية، كان يستخدم آلية الإزاحة حتى يتخلص من قلقه والشعور بالدونية تجاه نائلة زوجته الأولى الأكثر ثراء ووالدها ذو النفوذ صاحب الشركة التي يعمل بها ويترقى فيها بأمر منه. يعاني أكرم من مشكلة جنسية مع نائلة وقلة التواصل بينهما فتخبره أنها تريد “بريك” لإعادة تقييم مشاعرهم تجاه بعضهما فيغضب ويرفض ولكنها تستمر وتُصر على رأيها فهي الأقوى وهذا ما يستفزه ولا يشعره بالراحة ويجعله يبحث عن متنفس آخر لمشاعره، يجد عبلة أمامه: سيدة مطلقة لا تُنجب تعرضت لعنف من زوجها السابق، جميلة، وكأي سيدة شعبية تقدس الزواج وترى الزوج سيدها، عبلة نموذج جيد فليتخذها زوجة تعوضه ويمارس عليها أوامره وأنانيته ورجولته وسيطرة لم يستطع ممارستها على نائلة.  بالنظر إلى أسرة أكرم سنعرف في حلقات متتالية أن والده كان دائمًا يقلل من شأنه ويختار له أصدقائه ولا يثق في اختياراته في التعليم أو حياته الاجتماعية، وعندما تزوج نائلة لم يشعر مطلقًا بالتقدير ولا بدلع الزوجة لزوجها، اختياره لعبلة ليس صدفة بل هو اختيار محسوب لشخص مقهور طوال حياته بدعوى حب الأب وبدعوى أن زوجته سيدة راقية ولا تجيد أكل الفطير بيديها ولا تدلل زوجها وتهتم به.. فجعل من عبلة متكأ له في متوالية القهر التي لا تنتهي فأصبحت مثله مقهورة.

لعبة نيوتن

(5)

تقول الدراسات النفسية: يمكن أن يختلف الكائن أو الشخص الذي يصبح موضوع مشاعر الإزاحة هذه، ولكن عادة ما يتم اختياره لأنه أقل تهديدًا أو حتى عاجزًا تمامًا. فإذا كنت قد شعرت يومًا ما بالضيق تجاه شيء ما وتخلصت بعد ذلك من مشاعرك السلبية على صديق أو أحد أفراد أسرتك أو حتى شخص غريب تمامًا، فأنت تتمتع بتجربة مباشرة مع هذه الآلية الدفاعية المشتركة.

والشيء الذي يجب تذكره هو أنك لا تختار عن وعي التنفيس عن مشاعرك بهذه الطريقة، فقد تشعر بالضيق حيال شيء ما، عندما ينخرط شخص من حولك في أصغر حركة تؤدي إلى تحرير مفاجئ لعدوانك، ومع ذلك، فإن الحدث المثير عادة ما يكون ضعيفًا نسبيًا، بينما يكون رد فعلك على هذا المثير غير متناسب تمامًا ومبالغا فيه، وعلى عكس استراتيجيات المواجهة الواعية التي نستخدمها لإدارة الإجهاد اليومي، تعمل الميكانيزمات الدفاعية على مستوى اللاشعور.

“حازم” كان يثور فجأة، وبدون مقدمات يهدد بالطلاق أو يشتمها، في حين أن الطبيعي أن نتحاور ونسأل الطرف الأخر عن وجهة نظره ودوافعه وليس الحكم المفاجيء عليه وصب الغضب والانفعال والذي لا يعني أن نيته الطلاق فعلًا، فهو دائمًا ما يتراجع ودائمًا يريدها أن ترجع لتكون بجواره لمجرد أن يطمئن لوجود الشخص الذي يزيح عليه مشاعره بجواره متاح في أي وقت.

تامر محسن ومنى ذكي في كواليس لعبة نيوتن

(6)

سمير أيضًا في “هذا المساء” كان يعاني من مشكلات نفسية تجعله يحب التجسس على الآخرين وعلى حياتهم، كان قد قطع عهدًا على نفسه بأنه لن يفعل ذلك مجددًا ولكنه مثل المدمن لم يستطع، فكان يقول أمام أخوه وصديقه أنه توقف عن ذلك بينما هو في الحقيقة يراقب نائلة ويخبر نور الطفلة التي يربيها أنها هي أمها المتوفاة ويعطيها صورتها، هو يتمنى أن يحظى بنائلة أما لنور، أو ربما أكثر: أن يحظى بها كنموذج للمرأة الجميلة الراقية الثرية كشريكة لحياته بدلا من أكرم.

سمير كان يقوم بآليتين، أولهما الإنكار والأخرى التماهي، فالإنكار  ينتج عن عدم تقبل الفرد للواقع، مما يجعله يسلك سلوكًا طبيعيًا كأن شيئًا لم يحدث. ويعد الإنكار أحد أكثر الدفاعات بدائية حيث يستخدم كثيرًا في الطفولة المبكرة وفي الحياة اليومية العادية. من أمثلة ذلك إنكار الفرد لخطئه المهني والتأكيد على عدم حدوثه، وإنكار مدمن المخدرات وجود مشكلة مع الإدمان في حياته، وهو ما فعله سمير حين أنكر أمام أصدقائه أنه مستمر في التلصص على حياة الأخرين وكان دائما ينصحهم ويثور عليهم إذا ما عرف أنهم يتجسسون على الفتيات ويبتزونهم. كان ينكر حتى بينه وبين نفسه ذلك الفعل.

يسمى التماهي أيضا بالاستدماج (Introjection) هنا، يلجأ الفرد إلى التوحد مع المهدّد ويميل إلى التقمص اللاشعورى لأفكار ومشاعر فرد آخر. وغالبا ما يكون التوحد لأن الفرد يرى الآخر يحقق ما لا يستطيع هو تحقيقه (الالتصاق بمشاهير العلم تعويضًا عن شعوره المستمر بالجهل والغباء) وهو ما كان يفعله سمير بالالتصاق بحياة أكرم ونائلة وتجسسه عليها.

(7)

حازم/ لعبة نيوتن، وأكرم وسمير ونائلة وضاحي/ هذا المساء، جميعهم يعانون من مشكلات نفسية مثلنا، نشعر بمشاعر سلبية فنتعامل معها بالإنكار أو التعالي أو الإزاحة، نمارس القهر على الأضعف، ننكر وجعنا، نبحث عن بديل، نتهم الأخرين بما فينا من عيوب، نبالغ في ردود فعلنا ونبالغ في حبنا لشخوص نكرههم، لأننا لا نستطيع أن نواجه أنفسنا، فالمواجهه مؤلمة والنتيجة أننا نظل نحمل المشكلة  فلا تنحل ونزيد على ذلك وجع وحيرة الأخرين حولنا.

وهذه هي متوالية تدوير القهر، تبدأ واضحة في أبسط التصرفات ولا نعرف متى تنتهي.