الدساتير المصرية المتعاقبة أعلت من شأن الحرية الشخصية، ووضعتها في منزلة سامية. فهي “حق طبيعي” وهي “مصونة لا تمس”. وحظرت المادة 54 من الدستور الحالي القبض على أي مواطن أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائي مسبب سيتلزمه التحقيق.
“يجب أن يُبلغ فورًا كل من تقيد حريته بأسباب ذلك، ويحاط بحقوقه كتابة، ويمكن من الاتصال بذويه وبمحاميه فورًا، وأن يقدم إلى سلطة التحقيق خلال أربع وعشرين ساعة من وقت تقييد حريته. ولا يبدأ التحقيق معه إلا في حضور محاميه. فإن لم يكن له محام، ندب له محام”، أضافت المادة.
أما المادة 55 فأشارت إلى أن كل من يقبض عليه، أو يحبس، أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته، ولا يجوز تعذيبه، ولا ترهيبه، ولا إكراهه، ولا إيذاؤه بدنيًا أو معنويًا. ولا يكون حجزه، أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانيًا وصحيًا. وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة. ومخالفة شيء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقًا للقانون.
كما نصت المادة 96 على أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تكفل فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وينظم القانون استئناف الأحكام الصادرة في الجنايات.
إذن على المستوى النظري، حظرت مواد الدستور القبض على المواطنين أو تقييد حريتهم دون سبب واضح وأمر قضائي مسبب يستلزمه التحقيق، وقرر المشرع الدستوري معاقبة كل من يخالف تلك الإجراءات.
عمليًا وخلال الأعوام الماضية، تعاظمت ظاهرة الحبس الاحتياطي للمعارضين وأصحاب الرأي من نشطاء وصحفيين وحقوقيين وأساتذة جامعات لمجرد أنهم عبروا عن آرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي. حتى بات الحبس الاحتياطي عقوبة بدون حكم قضائي.
ورغم أن الحبس الاحتياطي لا يعدو كونه إجراءً احترازيًا يتم تطبيقه وفقًا لضوابط معينة في قانون الإجراءات الجنائية. إلا أن تطبيقه مؤخرًا بات يخرج عن مضمون وفلسفة هذه الإجراءات. بحيث يتم تطبيقه بشكل مطول بالمخالفة لمواد الدستور والقانون، بحسب ما ورد في دراسة لمركز التنمية والدعم والإعلام أعدها المحامي الحقوقي شريف هلالي وأشرف عليها الزميل حسين بهجت رئيس تحرير “مصر 360”.
الدراسة التي حملت عنوان “ورقة موقف حول ضرورة إعادة النظر في مواد الحبس الاحتياطي“، أشارت إلى أن إجراء الحبس الاحتياطي أصبح يرافقه في الفترة الأخيرة مخالفة أخرى لنصوص الدستور وللمعاهدات والمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر. وتؤكد على حق الإنسان في عدم تقييد حريته وضمان مؤسسات الدولة المختلفة للحرية الشخصية للمواطنين.
“يعاد اتهام المحبوسين احتياطيا بعد انتهاء مدد حبسهم الاحتياطي في قضايا أخرى، وبنفس الاتهامات تقريبا، رغم أنهم كانوا مودعين في السجون في ذات التاريخ الذي وجهت إليهم الاتهامات الجديدة وهو ما يعتبر نوعا من الاحتجاز التعسفي”، تقول الدراسة.
وقارنت الدراسة بين ما يجرى الآن وما كان يحدث في تسعينيات القرن الماضي “بتطبيق قانون الطوارئ والاعتقال الإداري للأشخاص حتى بعد صدور قرار بالإفراج عنهم، حيث يتم إصدار قرار اعتقال جديد، وهكذا، والذي شهدناه طوال حقبة التسعينيات وما بعدها، ويستخدم ذكل بشكل خاص ضد أناس عبروا عن آرائهم واستخدموا حقهم في حرية التعبير”.
وتشير تلك الدراسة إلى أن الحبس الاحتياطي صار عقوبة توقعها الجهات المختصة دون الالتزام بالضوابط التي وضعها قانون الإجراءات الجنائية، خاصة التعديل الذي تم بموجب القانون 145 لسنة 2006.
المشرع القانوني حدد مبررات الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية، وحصرها في أن يكون إلقاء القبض على الشخص الذي ضبط متلبسا بارتكاب الجريمة، وليس له محل إقامة ثابت أو معلوم داخل جمهورية مصر العربية، ويخشى من هروبه خارج البلاد، ويخشى من إضراره بمصلحة التحقيق أو تلاعبه بالأدلة والقرائن المادية، ورغم ذلك تحول هذا الإجراء إلى عقوبة محتملة تسلب حرية كل من ترى السلطة أنه خالف توجهتها أو تسبب في إثارة الرأي العام ضدهم حتى ولو كان ذلك بشكل سلمي ولا يشمل تحريض على العنف.
الإجراء الذي وصفته محكمة النقض بـ “البغيض” كونه يتعارض مع قرينة البراءة التي تعد حقًا أصيلاً للإنسان وتلازمه منذ نشأته ولا يجوز الانتقاص منها، صار إجراء سيئ السمعة يستدعي من مؤسسات الدولة التشريعية والقضائية إعادة النظر فيه والسعي إلى إيجاد بدائل له، حتى لا يصبح عقوبة مشهرة في وجه كل من يتجاوز الخطوط الحمراء التي تضعها السلطة التنفيذية.
وأشارت الدراسة إلى أن السجون لم تعد تلتزم في حالات كثيرة بحقوق المحبوس احتياطيًا، “للأسف في حالات كثيرة لوحظ أنه لا يتم الالتزام بتوفير حقوق المحبوس احتياطيًا بسبب حرية التعبير، خاصة فيما يتعلق بالحق في التريض، أو مدة الزيارة المنصوص عليها في اللائحة، أو إدخال الكتب والمجلات وذلك بالمخالفة للائحة التنفيذية لقانون السجون”.
وأوضحت الدارسة أن الاستمرار في العمل بإجراءات الحبس الاحتياطي بحسب ما هو معمول به حاليًا لفترات طويلة تتجاوز ما أشارت إليه نصوص القانون والدستور، يمكن اعتباره حجزًا تعسفيًا مخالفًا للقانون، فضلاً عن نشوء ظاهرة اتهام المحبوسين احتياطيًا التي انتهت مدد حبسهم بفتح قضايا أخرى بنفس الاتهامات، وهو ما عرف إعلاميًا بـ “التدوير”، بما يؤدي إلى أن هذا الإجراء بات عقوبة بدون حكم قضائي ويمس بالحق في محاكمة عادلة كون المتهم لا تتم إحالته إلى محكمة مختصة ومستقلة ومحايدة، “وهو ما رأيناه مع آلاف المحبوسين في أحداث سبتمبر 209، 2020 والذين وصل عددهم إلى ما يزيد على 8 آلاف محتجز، لا يزال أغلبيهم محتجزًا حتى اليوم بموجب تلك الاتهامات”.
أوصت الدراسة بإعادة النظر في المنظومة القانونية بشكل عام، خاصة في نصوص المواد العقابية ذات العلاقة بممارسة حرية الرأي والتعبير، والفصل بين سلطتي الاتهام والتحقق اللتين تتمتع بهما النيابة العامة، وتكوين لجنة قضائية تقوم بإصدار قرارت الإفراج تباعا وعلى دفعات بما يتناسب وتصنيف المحبوسين احتياطيًا، على أن تشمل من هم على خلفيات سياسية وجنائية، وهو ما يحل جزءا كبيرا من أزمة تكدس السجون.
وطالبت الدراسة بوقف الحبس الاحتياطي المطول الذي تلجأ إليه النيابة العامة والمحاكم والالتزام بالتعديلات الورادة بموجب القانون 143 لسنة 2006، مع ضرورة إعمال وتطبيق بدائله التي نص عليها قانون الإجراءات الجنائية.
في حواره مع جريدة “دي فيلت” الألمانية قبل أيام، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي إن الأمن لا ينبغي أن يأتي على حساب الحرية حتى في بلد يعيش ظروفًا صعبة مثل مصر. نافيًا وجود العدد الكبير للمعتقلين الذي تتحدث عنه تقارير لمنظمات دولية منذ عام 2016 وتقدر عدد المعتقلين السياسيين في مصر بـ 60 ألف معتقل، “ليس لدينا هذا العدد الكبير من السجون التي يمكن أن تستوعب مثل هذا العدد من السجناء.. نحن لا نحبس أي شخص بسبب آرائه السياسية”.
وأضاف السيسي أن “ما يجري في مصر حاليًا يثير استياء جماعة الإخوان المسلمين، التي وصلت إلى السلطة عقب مساع دامت 90 عامًا ثم ثار عليها الشعب بعد عام واحد من توليها السلطة»، لذا فالجماعة تحاول أن تنقل انطباعًا سلبيًا عن حالة حقوق الإنسان والديمقراطية والحرية في مصر بغرض تشكيل ضغط أوربي على مصر”.
وذكر الرئيس أن “النقد مسموح به للجميع، لكن يجب أن يكون نقدًا بناء وليس تحريضًا”. وقال: “الاستقرار مهم للغاية، خاصة في بلد مثل مصر يبلغ عدد سكانه 100 مليون نسمة ويشكل الشباب أكثر من 60% منه.. نريد دولة دستورية، لكن التحريض على الانقلاب أمر خطير وغير مقبول”.
في كل أحاديثه مع الميديا الغربية، يؤكد السيسسي احترامه لحقوق وحريات الشعب المصري، ويشدد على تقدير السلطة لحق النقد والاختلاف في الرأي، شريطة أن يكون هذا النقد «بناء» وفي إطار النصح والإرشاد ومن أهل الخبرة والعلم فقط. لكن الواقع يكشف أن السلطة تضيق ذراعا بأي خروج عن النص وإبداء أي رأي مخالف عن الخطوط التي ترسمها سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام وبالطبع في قضايا الأمن.
ومن خلال تجربة السنوات الأخيرة ثبت أن كل من اعتبرته السلطة تخطى الحدود التي وضعتها، أُلقي القبض عليه وأُحيل إلى جهات التحقيق ليواجه مجموعة من التهم المعلبة من عينة «مشاركة جماعة إرهابية في تحقيق أهدافها، ونشر أخبار كاذبة، وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي»، ليبدأ بعدها رحلة الحبس الاحتياطي التي لا يعلم أحد لها نهاية، وحتى عندما تنتهي المدة القانونية لحبسه احتياطيًا يفاجأ بأنه أعيد تدويره في قضية جديدة ليبدأ رحلة أخرى خلف الاسور، كما أشارت الدراسة التي عرضنها في بداية المقال.
إذا كانت السلطة جادة في احترامها للدستور، وتسعى بالفعل إلى جبر الشروخ التي أصابت الوطن نتيجة ما تعرض له بعض أبنائه من ظلم فعليها «مراجعة تشريعات الحبس الاحتياطي والعودة بها إلي ما كانت عليه قبل عام ٢٠١٥ من حيث حدوده القصوي وضوابطه ومبرراته، ومراجعة التشريعات الإجرائية بالفصل بين سلطتي الاتهام والتحقيق، وتنقية النصوص العقابية من كل الصياغات التي تسمح بالتنكيل بالمعارضة السلمية»، بحسب ما ذكر الفقيه القانوني نور فرحات على صفحته بموقع “فيسبوك”.
تصفية تلك البؤرة السوداء التي تسمى بالحبس الاحتياطي ستفتح باب الأمل أمام مشاركة أبناء الوطن بحرية في البناء وإدارة البلد ومواجهة أزماتها وتقديم حلول سياسية بديلاً عن الحلول الأمنية التي ثبت عدم كفايتها وحدها.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا