“الإسلام ليس عرقًا أو إثنية أو جنسية: إنه مجموعة من الأفكار، ولذا يجب عدم الخلط بين انتقاد الأفكار وبين العداء تجاه المسلمين والمسلمات بسبب الانتماء الديني. ومع ذلك، فإن هذا الخلط يتم بشكل منهجي ومتعمد، كوسيلة لمنع النقاش قبل أن يبدأ حول مواضيع هامة”.
هذا ما قاله الكاتب والفيلسوف وعالم الأعصاب الأمريكي سام هاريس في مقال نشر في الأتلانتيك في عام 2014.
بهذه العبارة أكمل معكما عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ هذه السلسلة عن صمت الإسلاموفوبيا.
اقرأ أيضا:
صمت الإسلاموفوبيا! (1)
صمت الإسلاموفوبيا! (2)
بصراحة.
أتفق مع سام هاريس في عبارته.
الإسلام هو دين، وأي دين يقوم على مجموعة من الأفكار والمبادئ. مثله مثل الأديان الأخرى.
وكما يمكن انتقاد أي دين في الديمقراطيات الغربية، يمكن أيضا انتقاد الدين الإسلامي.
وكما يمكن انتقاد الأصولية والتطرف في أية أديان أخرى، يمكن فعل ذلك أيضا في الصيغة الإسلامية للأصولية والتطرف الديني.
تماما كما يمكن مناقشة ومعالجة مشاكل المساواة بين الجنسين وقضايا الاندماج، دون التشهير بمن يفعل أو تفعل ذلك برفع سلاح الإسلاموفوبيا في وجههما.
وكما اتفق مع سام هاريس في عبارته، أدافع أيضا عن حق التعبير عن الرأي، بما فيه الحق في نقد الدين الإسلامي ورموزه، أو السخرية منهما.
وأعرف أن وقع هذا الحديث يبدو غريباً على من يستمع إليه في منطقتنا الناطقة بالعربية.
كأني الغط بلغة غير مفهومة. عجيبة. تتحدث عن حقٍ نعتبره جريمة.
من يمارس هذا الحق رجلاً كان أو امرأة، ينتهي بهما المطاف في السجن أو القتل.
اسمحا لي رغم ذلك إيضاح موقفي.
الدفاع عن هذا الحق في بلداننا الناطقة بالعربية، وفي الديمقراطيات الغربية، وجهان لعملة واحدة.
قوانين إزراء الأديان لدينا هي جزء من منظومة قانونية تحمي مؤسسات دينية بعينها، ورؤى وتفسيرات دينية بعينها. تمنع النقاش قبل أن يبدأ عن ممارسات هذه المؤسسات، تمنع النقاش قبل أن يبدأ عن مضامين وتداعيات هذه التفسيرات الدينية، وتمنع النقاش قبل أن يبدأ عن إصلاح الدين.
هل نسينا قضية مفكرنا السعودي رائف بدوي، الذي يقضي عامه التاسع في السجن، بسبب نقده لممارسات هيئة الأمر والمعروف في السعودية، والمناهج التي تُدرس في بعض الجامعات التي تُفرخ أجيالا من المتطرفين؟ هل نسينا قضية محمد ولد الشيخ امخيطر، الكاتب والحقوقي الموريتاني، الذي انتقد جوانب من السيرة النبوية الكريمة، والتي تستخدم عمداً في موريتانيا لتبرير استمرار ممارسة العبودية فيها؟
قوانين تمنع النقاش قبل أن يبدأ. ومعها مؤسسات دينية ورؤى وتفسيرات دينية تؤطر لواقع مجتمعي وسياسي مستبد.
——-
بنفس النسق، فإن الدفاع عن هذا الحق، الحق في نقد الدين الإسلامي وكل الأديان في الديمقراطيات الغربية، يحمي الإرث الحقوقي الغربي في التعبير عن الرأي ونقد الدين.
وهو أرث هام وكان له دوره الأساسي في قيام عصر التنوير ومواجهة نزعات الاستبداد الديني أو السياسي في هذه المجتمعات.
ولعل هذا يفسر اللبس القائم إلى يومنا هذا عن رسوم الكاريكاتير الساخرة حول رسول الإسلام الكريم.
فالمجلة اليسارية الساخرة شارلي إيبدو لم تكن تستهدف في رسومها الكاريكاتيرية الرسول الكريم فقط.
كانت تستهدف جميع الشخصيات المقدسة من جميع الأديان. بلا استثناء. بمن فيهم، بوذا والمسيح وموسى، عليهم جميعاً أفضل السلام.
فعلت ذلك متعمدة كي يكون واضحاً أن كل الأديان، بلا استثناء، يمكن السخرية منها.
كانت في الواقع تؤدي وظيفتها في ديمقراطية غربية. أعني بذلك السخرية من المؤسسات الدينية وكسر شوكتها.
هل تعرفان السبب الذي دفع بصحيفة Jyllands-Posten الدنماركية عام 2005 لنشر رسومها الكاريكاتيرية الأثنى عشر؟
القرار كما شرح محرر الصحيفة الثقافي، فليمنج روز، كان “رداً على عدد من مواقف للرقابة الذاتية في أوروبا، التي نتجت عن انتشار موجة من الخوف والترهيب في التعامل مع القضايا المتعلقة بالإسلام”.
لعلكما نسيتما سبب هذا الخوف.
في عام 2004 قتل متطرف إسلامي المخرج الهولندي ثيو فان جوح بسبب فيلم “الخضوع”، الذي أخرجه مع الكاتبة والناشطة الصومالية الهولندية أيان هيرسي علي.
ذبحه بسكين.
وعندما علم روز أن مؤلفاً دانماركياً يكتب كتاباً عن الرسول محمد، كان يواجه مشاكل في العثور على رسامين، أتصل روز بأربعين رساماً وطلب منهم رسوما كاريكاتيرية حول النبي الكريم. فعل هذا وهو ينتظر بفضول ردة أفعالهم. لم يستجب سوى 12 رساماً، فجاء قرار نشر الرسوم.
كانت أغلب الرسوم الدنماركية غير جارحة.
اثنان فقط صورا الرسول الكريم بشكل سلبي. رسمه أحدهم بعمامة على شكل قنبلة والآخر رسمه وهو يمسك خنجرا ووراءه امرأتان منقبتان.
ولو قارنا هذه الرسوم برسوم شارلي إيبدو، فإن الأخيرة كانت بالفعل جارحة ومهينة.
جرحت مشاعري عندما رأيتها.
فالرسول الكريم يظل نبيي رغم كل شيء.
وسواء أحببتها أو كرهتها، وبغض النظر عن مشاعري المجروحة، أظل مصرة على أن للمجلة والصحيفة كل الحق في نشرها.
فحرية التعبير تشمل أيضا هذا الحق. الحق في جرح المشاعر.
لا يوجد مجال هنا للنسبية الثقافية. عندما يُقتل الناس بسبب ممارسة حقهم في التعبير والسخرية، يجب إدانة القتلة، لا الفنانين والصحفيات والمخرجين.
يجب إدانة من يذبح ويسفك الدماء، لا من يرسم بالقلم.
وأعرف أني بموقفي هذا أقف وحيدة، لكن التعبير عنه يظل ضرورياً.
——
هنا أود التنبه للدور الأساسي للإسلاميين في إشعال الموضوع.
لاسيما وأنهم استخدموا إستراتيجية معروفة في دعايتهم. وسيلة الكذب.
في جميع القضايا البارزة لحرية التعبير التي حدثت منذ التسعينات، لعب الإسلاميون دوراً مهماً فيها.
تعمدوا تضخيمها كي تأخذ بعد “صراع للحضارات”.
من مصلحتهم القيام بذلك، لأنها تتسق مع رؤيتهم عن المؤامرة المزعومة لتدمير الإسلام، وإصرارهم على لعب دور الضحية.
دورهم موثق بدءا بقضية سلمان رشدي وروايته “الآيات الشيطانية”، التي نُشرت بالإنجليزية عام 1988.
في هذه القضية تعاونت الجماعات الإسلامية الأصولية بما في ذلك “الجماعة الإسلامية” وحركة “الديوبندي” والإخوان المسلمين، جنبا إلى جنب مع المملكة العربية السعودية، في تنظيم المظاهرات والحرق العلني للكتاب. ثم دخلت إيران الإسلامية على الخط، وسرقت العرض، عندما أصدر الإمام الخميني فتواه الشهيرة.
وفي حالة الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية، أنشأ ثلاثة أئمة إسلاميين لجنة أسموها لجنة الدفاع عن شرف الرسول ونسقوا معا للحملة الدولية. ولم يكن من قبيل المصادفة أن الصحيفة الدنماركية نفسها كانت قد نشرت تقريراً كشفت فيه عن تطرف إثنين من هؤلاء الأئمة.
تماما كما لم يكن من قبيل المصادفة تصدر الإخوان المسلمين في المواجهة، ينفخون كي يشعلوا نيران “صراع الحضارات”، وعلى رأسهم زعيمهم الروحي يوسف القرضاوي في برنامجه الأسبوعي الشريعة والحياة، على قناة الجزيرة.
أتخذها واجهة يحرض فيها الرأي العام العربي ضد الدنمارك.
والأهم، أن الأئمة الثلاثة ولجنتهم أعدوا كتيباً حول الرسوم، تعمدوا فيه الكذب والتضليل والنشوية.
ففي الكتيب وفي مقابلاتهم عرضوا رسوما كاريكاتورية لم تُنشرها الصحيفة أبدًا.
لم تنشرها الصحيفة أبداً.
وكرروا العديد من الأكاذيب الصارخة حول اضطهاد المسلمين والمسلمات في الدنمارك.
زعموا أن المسلمين والمسلمات ليس لهم الحق القانوني في بناء المساجد، وأن الحكومة الدنماركية كانت تخطط لفرض رقابة على القرآن.
كانوا يكذبون.
يكذبون.
عامدين. متعمدين.
كعهدهم.
——
أعود وأكرر. لا يوجد مجال هنا للنسبية الثقافية.
بدون حرية التعبير لا توجد حرية على الإطلاق.
بدون حرية التعبير لا توجد حرية على الإطلاق.
ويجب حماية هذه الحرية.
دققا قليلاً في جميع الدول الاستبدادية والثيوقراطية حول العالم. ما الذي يجمع بينها جميعاً على اختلاف ثقافاتها، دياناتها وجنسياتها؟
بالإضافة إلى انتهاكاتها لحقوق الإنسان، ما يجمعها هو غياب حرية التعبير.
هذا الغياب يمكنها من ممارسة سلطة غير مقيدة، بلا حدود، دون معارضة.
معه يمكنها تبرير انتهاكاتها لحقوق مواطنيها ومواطناتها دون حساب أو مسائلة.
تماماً كما أن هذا الغياب يفسح المجال للمؤسسات الدينية في نشر ثقافة خوف تُسكت به أي مراجعات دينية او نقد لفكرها الديني.
حماية حرية التعبير ليست رفاهية.
بل لها وظيفة حاسمة لأية ديمقراطية تستحق هذا الاسم.
والخيار واضح هنا.
يتطلب دفاعًا ودعمًا لا لبس فيه لحرية التعبير.
هذه الحرية النفيسة الغالية العزيزة.
كي تحمينا من الاستبداد والفساد وتجاوزات الأديان.
فالمشكلة لا تكمن في ممارسة حرية التعبير.
بل فيمن يقيدها باسم الدين والثقافة.
في أولئك الذين يفرضون علينا هذا الصمت الباهر: صمت الإسلاموفوبيا.