عام آخر يمر على العمال، وهم محاصرون بشبح التصفية، التي سبتقها تعديلات قانون قطاع الأعمال. ليصبح الحال: “هي دي كل سنة وانتوا طيبين اللي الحكومة بتقولهلنا”.. تلك كلمات من حديث إحدى العاملات عن تصفية شركة الحديد والصلب.
تقول الحكمة يبعد العمل الإنسان عن ثلاث شرور، السأم والرذيلة والحاجة. ويقول أحدهم: “عندما بدأت العمل، كنت أحلم باليوم الذي أتقاضى فيه الراتب الذي لا يسد احتياجي الآن”.
ثغرة بحجم الفيل.. فبأيِّ حالٍ عُدت يا عيد؟
السنة الماضية أجرت الحكومة تعديلات على قانون قطاع الأعمال، وهي الثغرة التي ينفذ من خلالها فيل، كما يرى العمال والقانونيون. فالقانون الذي انتظره الجميع خيّب الظن، واختزل التمثيل العمالي داخل مجالس الإدارات، وفي أعقاب إقراره استأنفت الحكومة معركة التصفية.
جاءت التعديلات للمرة الأولى بعد مرور نحو 29 عامًا على صدور القانون المنظم لعمل الشركات، وهو القانون رقم 203 لسنة1991. ونشرت الجريدة الرسمية تعديلاته في 5 سبتمبر 2020.
تخفيض التمثيل العمالي
نبدأ من الثغرة، التي يقول عنها محامي التعاونية القانونية للدفاع عن حقوق العمال ياسر سعد إن “تعديلات قانون قطاع الأعمال جاءت مخيبة للآمال في ظل الكثير من التصريحات حول النهوض بالاقتصاد القومي، والحفاظ على حقوق العاملين في قطاع الأعمال”.
وتابع سعد “زادت بنود القانون من تدخل السلطة التنفيذية في أعمال الجمعية العامة بصفتها صاحبة السلطة الأعلى في الشركات المساهمة. ليصبح وزير المالية أو من ينوبه عضوًا دائماً بالجمعية العامة، في حين خفضت ممثلي العمال والاكتفاء بحضور شخص عن الاتحاد”.
اقرأ أيضًا.. يُمهد للخصخصة والتصفية.. شبهة عدم الدستورية تلاحق قانون قطاع الأعمال
ومع ذلك، لا يتم إقراره إلا بموافقة رئيس مجلس الوزراء، فضلاً عن تغيير شكل مجلس إدارة الشركات القابضة والتابعة. حتى بات يصبح يمثل مالكي الأسهم من غير أصحاب الخبرات أو العاملين بالشركات القابضة والتابعة. الذي اكتفى القانون بشخص واحد يرشحه الاتحاد الأكثر تمثيلاً ويختاره رئيس مجلس الوزراء بقرار يصدر منه بدلاً من انتخابه من جموع العاملين.
وعن التمثيل العمالي الذي تم نحره في عهد التعديلات على القانون، يحدثنا النقابي خالد فزاع عضو مجلس إدارة شركة سيجوارت، الذي خلعه القانون من مكانه متجاهلا إرادة العمال. ويقول: “كان الوجود العمالي في مجالس الإدارات يمثل شخصين مقابل 3 أفراد من المعينين. فكان القول الفصل لهم على أي حال في اتخاذ أي قرار”. واستدرك: “ولكن إمعانا في الانفراد بمصير العمال اقتصر التمثيل على فرد واحد، لينتهي التمثيل العمالي إلى الأبد”.
لذلك أصبحت حقوق العمال في مهب الريح، وبدعم من القوانين على حد قول فزاع. بالنظر إلى التجديد للأعضاء المعينين حتى مع تخطيهم السن القانونية والمدد المحددة لهم، تحت أي مسمى. هذا فضلاً عن التشرذم الحاصل في التشكيلات النقابية، وتحالف الكثير من كوادرها مع الحكومة.
حقوق العمال المهدرة في ظل القانون
يعود المحامي سعد ليُذكر بنواقص قانون قطاع الأعمال. والتي من بينها “جعل اختيار ممثل العمال للجنة النقابية بالشركة وتحديد لوائح العمل بيد النقابة العامة دون غيرها”. وتلك مخالفة أيضًا للدستور المصري في المادة رقم ٧٦ التي تنص على كفالة الدولة لحرية تأسيس النقابات.
يستطرد سعد “الأمر الأكثر غرابة هو أنه جعل الشركات القابضة تمثل ٥١% من مالكي الأسهم، على عكس القانون السابق. وألزم بإيداع أسهم الشركات التي لها سلطة القيد والإيداع دون رقابة على المضاربة، مما يزيد نسب خسارة تلك الشركات.
وناقض القانون نفسه حين جعل للمحاكم العمالية سلطة الفصل في النزاعات بين العاملين بالشركات القابضة والتابعة أسوة بالعاملين بالقطاع الخاص. في حين جعل التحقيق معهم بواسطة النيابة الإدارية المختصة بالتحقيق مع العاملين بالجهاز الإداري للدولة. وبالتالي اختصاص المحاكم التأديبية بمجلس الدولة لمحاكمتهم عما تسند إليهم النيابة الإدارية من اتهامات.
اقرأ أيضًا.. مقترحات لإنقاذ الحديد والصلب.. الأمر أكبر من حسبة الـ “10 صاغ”
واحدة من الحقوق المهدرة للعاملين بالشركات القابضة والتابعة أن حدد نصيبهم من الأرباح بألا يزيد على ١٢%. وتلك مخالفة للقانون السابق الذي حدد حداً أدنى لنصيب العاملين من الأرباح دون الحد الأقصى، بحسب سعد.
وفي القوانين أيضًا يلفت المحامي سعد إلى ارتفاع تكلفة القضية العمالية، التي وصلت لمعدلها الأكبر في عام ٢٠١٩. وذلك مع تعديل قانون المحاماة وإلزام رافع الدعوى بدفع أتعاب المحاماة وتكليفه بتحصيلها من طرفي التقاضي مقدمًا.
قصة “سيجوارت” سيئة السمعة
الحقوق تتناقص والحال من سيئ إلى أسوأ. يظهر ذلك في شركة سيجوارت على سبيل المثال، في رفض الإدارة تشغيل العمالة المنتظمة، واستبدالهم بالعمالة اليومية التابعة للمقاول. فضلاً عن رفض تام للإفصاح عن أي بيانات تخص المصروفات الشهرية، وتحويل أغلب العمالة الدائمة الفنية إلى عمالة إدارية، أو حتى أفراد أمن، بحسب خالد فزاع.
وفي تجربة سيجوارت أيضًا تشرح النقابية صفاء كيف أن الإدارة طالما تعنتت في تعيين صغار العمال، واكتفت بالعقود المؤقتة. وذلك رغم خبرتهم لأكثر من ست سنوات، وتجاهلت الجميع، واكتفت باستغلال عمالة المقاول التي ترضى بالقليل، ولا تملك ضمانات اجتماعية.
غياب الضمانات الصحية للعمال
في المقابل، ترفض الشركة منح العمال المتقاعدين إجازاتهم القانونية التي يقرها القانون، منذ عام 2019. وذلك يؤدي إلى زيادة العملاء فقرًا ومرضًا، على حد قول صفاء.
وفي المرض تعد شركة سيجوارت من الشركات العاملة سابقًا في مادة الاسبستوس المسرطنة التي حرمتها منظمة العمل الدولية. وأوقفت وزارة البيئة العمل بها، ويمثل العاملون المرضى في الشركة جراء هذه المادة نسبة واحد إلى سبعة، وبحسب خالد فزاع.
وفي معركة الصحة تنكر إدارة الشركة تعويض هؤلاء العمال، رغم أن الشركة سبق أن حصلت على تعويضات من الشركة العالمية.
وتبعًا لهذا يستمر العمال المرضى في أداء أعمالهم رغم التقارير الطبية، ولا يحالون للتقاعد الصحي، خوفا من قضايا التعويضات اللاحقة. كما لا يتم منحهم الرعاية الصحية الكافية مثل باقي العمال، وإحالتهم إلى التأمين الصحي محدود الإمكانيات، باعتبار أمراضهم إصابات مهنية.
“أخدنا لحم ورمونا عضم” هو تلخيص لأحوال العمال من وجهة نظر صفاء، وتحكي “تتعدد حوادث العمل. ولا يجد العمال من يعوضهم، خاصة أصحاب العقود المؤقتة. ذات مرة تسببت أحد الآلات التي وقعت على رأس شابين عاملين، في إصابتهما بارتجاج بالمخ، تسبب في عجز جزئي، ومع ذلك لم يتم تعيينهم، أو حتى تعويضهم”.
كما لا يحق لتلك العمالة التمتع بالحد الإنساني للرعاية الصحية، أو التعامل مع المستشفيات، المتعاقدة مع الشركة. وفي كل الأحوال ليس هناك حد أدنى من السلامة المهنية، أو حتى محاسبة المتسببين السابقين في مرض العمال، على حد قول فزاع.
قصة الحديد والصلب شاهد
تعد الشركة العريقة أحدث فصول التصفية، وهي التحديث الأكثر قسوة لسياسة الرئيس المخلوع مبارك السابقة في الخصخصة.
أحدث فصول القصة تتناقض أيضًا. ففي حين يفصح الرئيس عبدالفتاح السيسي عن نيته دعم الصناعات الثقيلة، يُعلن وزير قطاع الأعمال هشام توفيق عن تصفية الشركة بشكل نهائي.
اقرأ أيضًا.. “بي أو تي”.. محاولة أخيرة لإحياء “الحديد والصلب” دون تحميل الدولة تكلفة إنعاشها
تلك الشركة التي سبق أن وصفها بأنها لا تساوي أكثر من عشرة قروش. في حين يرى فيها القيادي العمالي صلاح الأنصاري عمود ومصدر رئيس لكافة الصناعات في وقت الحرب والسلم.
ويؤكد صلاح أن التطوير المزمع يمكن أن يسير بالتوازي مع وجود الشركة، التي تناسب أفرانها التقليدية، حديد الواحات. بالإضافة إلى توفير نفقات النقل نظرا لاقتراب المسافات عن ما قبل.
كما أن كثير من الصناعات مثل الكوك التي تمد الشركة بالفحم تعتمد عليها. كما أن القطاع الخاص في مصر لا يملك مثل هذه التقنيات، ويعتمد في تصنيعه على وارد الحديد والصلب.
أما حال الطبقة العاملة فانتقل من “المنحة ياريس في عصر مبارك” إلى “عاوزين نشتغل ياريس”. فأكثر من خمسين ألف أسرة تنوي الحكومة الاستغناء عن خدماتهم، وإهدار العامل البشري بشكل غير مسبوق، مستطردًا “وبعدها نيجي نشتكي من البطالة”.
طبقة العمال والمجتمع الموازي
وتعد قصة الحديد والصلب شاهدًا على إفناء طبقة عاملة صناعية مهمة، وإجهاض عضوية نقابية بحسب القيادي العمالي صلاح الأنصاري.
تتذكر صفاء النقابية بمصنع سيجوارت كانت الحركة الصناعية سببًا في استرزاق الكثير من المهن المساعدة، وانتعاش اقتصادي موازٍ. حيث تقول: “حتى بتوع الخضار اللي في المنطقة كانوا يعتمدون في عملهم على استهلاك العمال”.
ينطبق الأمر نفسه على الصيدليات، والجمعيات الاستهلاكية، أو حتى جمعيات العمال التي كانت تساهم في انتعاش حياتهم الاقتصادية.
وتأسف صفاء على الوضع الحالي، فتقول تحولت منطقة دار السلام إلى الرذيلة والمخدرات بعد أن هجرها العمال، وتم إفقار أغلبهم. الأمر نفسه ينطبق على مناطق مثل التبين في حلوان بحسب صلاح الأنصاري.
يستطرد صلاح بقوله: “إنشاء المناطق الصناعية منذ عهد عبدالناصر جلب آلاف الفلاحين من شرق النيل وغربه وتأهيلهم، ليسكنوا بالقرب من تلك المصانع”.
لكن الخصخصة وتسريح العمال وحاليًا التصفية ساهم في شعور هؤلاء بالضياع، فلا يستطيعون العودة للريف ولا التمتع بحياة إنسانية بالمدينة. فأصبحت مدنهم خالية على عروشها يحيط بها الإهمال والعشوائية، وظهرت سلوكيات البلطجة، والخروج عن القانون.. فمن المسؤول عن ذلك؟
اقرأ أيضًا.. خطة تنتظر التفعيل.. هل ينجح توطين الصناعة في مصر؟
تتابع صفاء بنبرة أسى: “لم نحصل من الخصخصة، والتصفية إلا تحويل المناطق إلى عشوائيات والافقار”. وتساءلت: “ما الفائدة التي عمت على المجتمع من اقتراحات المعاش المبكر والإجباري، أين التطوير والتحديث؟.
ضربت صفاء مثالاً على ذلك بشركتها السابقة التي أغلقت وهي “النصر” لصناعة التلفزيونات. وقالت: “كنا نصنع أهم شاسيه والأقوى من نوعه ولا نعتمد على الاستيراد، ومع ذلك تمت تصفيته تحت مسمى التطوير”.
وعلى بُعد سنوات من هذا التطوير تحولت أراضي الشركة إلى جراجات وأماكن لذبح الحيوانات. وبالمثل شركة الشبراويشي، والنقل النهري في منطقة دار السلام، تحولت إلى منطقة موبوءة بعد تشريد الآلاف، ووقف التعيينات منذ التسعينات.
الادعاءات بالخسارة.. من السبب؟
وفي حين يعامل العمال معاملة الإرهابيين سواء بإلقاء القبض عليهم أو إخفائهم على حد قول القيادي العمالي جمال عثمان. يعيشون في ظل ضغوط مادية متزايدة ومستوى معيشي متدنٍ، يحملهم الجميع الخسائر المعلنة.
وعن الخسائر يقول صلاح الأنصاري: “مثلما يحدث في (قطر الغلابة) حين يحاسب السائق على الحادث. تتعامل الحكومة مع العمال، فيحاسبوا على خسارة الشركات ويتم تسريحهم، في حين يحتفظ الكبار بمناصبهم، وكافة ميزاتهم المالية”.
صفاء أيضًا أشارت إلى أنه حتى محاولات تقليل الخسائر تأتي على حساب حقوق العمال، بالخصم من الأرباح، والامتناع عن ترحيل إجازاتهم. كما أن كافة البيانات والتقارير المالية أصبحت بمثابة سر حربي، على حد تعبير خالد فزاع.
اقرأ أيضًا: بعد تصفية “الحديد والصلب”.. سوق مضطرب وشركات خاسرة “عامة” و”خاصة”
فزاع بدوره أوضح أن كل طلباته حول نشاط الشركة المالي قوبلت بالتجاهل، خلال فترة وجوده في مجلس الإدارة. ولفت إلى الأرقام المعلنة غير الدقيقة في ظل غياب الشفافية. وضرب مثالا على ذلك بالأراضي التي حوّلها المصنع إلى أرضي مبان يتم بيعها، ومع ذلك لا تتم إعادة تقييمها ماليا.
ولفت الجهاز المركزي إلى أن استثمارات الشركة الفرنسية خلال 7 سنوات لم تسفر عن شيء. كذلك القوائم المالية، والمصانع القديمة التي لا تدخل في المركز المالي للشركة.
يختتم القيادي جمال عثمان حديثه فيقول: “جرى تصفية شركة الكتان التي كنتُ أعمل بها، وتم تسريح أغلب العمال. وحين عادت بعد اللجوء إلى الجهات القانونية، علق الوزير قائلا: “يا ريتها مارجعت”. واستدرك: “ضاعت حرمة العمال، وأصبح الاتجاه مناصرة أصحاب الأعمال من القطاع الخاص، والاعتماد على الاستيراد، فماذا ننتظر؟