مع الاقتراب من الملء الثاني لبحيرة سد النهضة يبدو المشهد الإجمالي متوترا وساخنا بين دول حوض نهر النيل الأزرق إثيوبيا والسودان ومصر، فكل طرف يسعي إلى تفعيل كل أوراقة بهدف الوصول إلى هدفه في تحقيق مصالحه سواء المرحلية أو المستدامة، وبطبيعة الحال تتباين أهداف الأطراف بين ماهو مرحلي وبين ماهي استراتيجي.

في هذا الملعب، تدور المعركة بين السعي لتدويلها، من جانب مصر والسودان، وقيام المجتمع الدولي، وخصوصا واشنطن للقيام بأدوار ضاغطة للتوصل إلى اتفاق، ومقاومة هذا الهدف من جانب إثيوبيا، كما تحولت مشكلة الحدود السودانية الإثيوبية بدورها إلي آلية تم استخدامها من جانب إثيوبيا أولا ضد السودان.

أما عناصر هذه المعركة بين الأطراف فموضوعها هو ماهية الاتفاق المطلوب تحقيقه حول سد النهضة وهو الاتفاق الذي سوف ينعكس علي الوزن الإقليمي لكل طرف من أطراف هذه المعركة التي استمرت لمدة عقد من الزمان بلا قدرة على بلوغ محطة الوصول حتي هذه اللحظة.

ماهية الاتفاق

ربما يكون من المهم في البداية توثيق أن أن هناك علي أرض الواقع ٢٠٠ معاهدة دولية معقودة حاليا بشأن تنظيم ٦٠ نهرا دوليا، ولعل أشهر نماذج هذه الاتفاقيات بين أعداء هي بين الهند وباكستان حول نهر راندواس رغم أن باكستان هي بلد منسلخ من القارة الهندية في منتصف أربعينيات القرن الماضي، وهو ما أسس عداء وبلور حروب بين البلدين.

في هذا السياق، فإن جوهر الصراع الراهن بشأن سد النهضة هو حول ماهية الاتفاق هل هو قانوني ملزم أم استرشادي يبدو جوهر التضاغط الراهن. وبطبيعة الحال هذه البنود التي يسعي إليها طرفا مصب نهر النيل في اتفاق قانوني ملزم ليست فقط حجم ملء البحيرة أو توقيتات هذا الملء ولكنه يمد أيضا لمناهج تشغيل سد النهضة في أوقات الجفاف خصوصا، وكذلك المعلومات الفنية المرتبطة بتشغيل النهضة، نظرا لتأثيره المتوقع على سد الروصيرص السوداني والسد العالي المصري وبحيرتهما علي المستوي الفني، والأضرار الممتدة والشاملة لكلا البلدين وذلك إلى حد تهديد الأمن الإنساني.

الخطاب الإثيوبي في مواجهة مطالب دولتي المصب يتجه نحو عدد من النقاط التي يتم تدويرها بصيغ مختلفة، وعلى مستويات سياسية متنوعة منها الأمم المتحدة مؤخرا، وذلك بمزاعم أن مصر والسودان يهددان بالحرب وذلك مع إدانة إتفاق الدفاع المشترك بينهما المعقود قبل شهرين، وذلك علي الرغم من نظام البشير وإثيوبيا قد عقدا تحالفا إستراتيجيا وأبرما إتفاقية دفاع مشترك عام ٢٠١٨ ، ولم تتحرك مصر دبلوماسيا لإجهاض هذا التحرك الإثيوبي المشترك.

في هذا السياق، فإن القول بسيادة إثيوبية مطلقة علي نهر النيل، أصبح من التصريحات المعتمدة إثيوبيا في مراحل التصعيد السياسي، وذلك بالمخالفة لكونه نهرا دوليا تحكمه محددات القانون الدولي أو التصريح بأن لإثيوبيا ٨٦٪ في المائة من مياهه وهو أمر يتجاهل أن تقسيم المياه بين الدول في حالة التشارك في الأنهار يأخذ بعين الاعتبار مجمل الموارد المائية لكل دولة، وهو في الحالة الإثيوبية مايزيد عن ٩٠٠ مليار متر مكعب من المياه، وهي الثروة المائية التي توصف بسببها إثيوبيا أنها نافورة إفريقيا.

وبالتأكيد في ضوء الانقسامات الداخلية الإثيوبية، والتي تصل إلى حد الحروب، يتم اللجوء إلي مقولات ديماجوجية عن الاستقلال السياسي الإثيوبي في القرار الذي يعتبرونه وطنيا، ورفض التدخل في شئون نهر النيل باعتباره نهرا محليا، ولكن هذه المقولات في الواقع تتجاهل بالكلية نماذج التعاون الدولي بين أضداد لتحقيق مصالح إقتصادية، وبيئية وتنموية، ولعل نموذج بحر البليطق الذي اطلعت عليه شخصيا في زيارات إلى هلسنكي يشير بوضوح إلى تعاون مؤسسي وتاريخي بين كل من روسيا، وفنلندا والسويد ونحن نعرف جميعا أن كل طرف له انحيازاته الدولية والإيدولوجية بل إن الأطراف خاضوا حروبا في أوقات تاريخية سابقة، ورغم ذلك يتعاونون لضمان حرية الملاحة والوقاية من الحوداث والحفاظ علي الثروة السمكية، وكذلك تقسيم الأحواض البحرية في عمليات استكشافات النفط والغاز والأهم الاستعداد لنتائج تغير المناخ والتي سوف يترتب عليها فتح خطوط ملاحية وطرق برية جديدة.

  ماهي أوراق الضغط؟

تكثف إِثيوبيا الرهان على التصريحات السياسية بشأن سد النهضة سواء علي لسان رئيس الوزراء آبي أحمد أو المتحدث باسم الخارجية دينا مفتي أو حتي أعضاء لجنة التفاوض، في محاولات دؤوبة لتصعيد مستويات التوتر ومحاولة إثبات الوزن الإقليمي الإثيوبي دون إستناد علي حوامل واقعية له، ويمكن ملاحظة أنه يحكم السياق العام لهذه التصريحات تعاليا إثيوبيا على أي تفاق معتبرة أن أي اتفاقات لايجب ألا تتجاوز المستوي الاسترشادي لإثيوبيا في تشغيل سد النهضة وملء بحيرته، ولايجب أن يكون ملزما بأي شكل من الأشكال.

وفي هذا السياق، تسوق إثيوبيا نفسها في سرديات منها عدم معقولية المطالب المصرية، أو اللجوء لأخري يغلب عليها المظلومية التاريخية من أنانية مصرية في استخدامات مياه النيل، والتي أنتجت فقرا إثيوبيا مدقعا في مقابل تقدما تنمويا مصريا نجح في توظيف مياه النيل حتي سياحيا، وهي سردية لقيت آذانا صاغية على المستوي الإُفريقي ونسبيا الخليجي بل والعالمي. التعاطف الإأفريقي قائم علي انحياز عرقي من ناحية، وأن السردية ذاتها متساوقة مع بعض مفردات الحالة الأفريقية من الفقر، خصوصا في دول وشرق الصحراء الأفريقية الكبري.

أما علي المستوي الخليجي فهناك استثمارات كبيرة تراكمت عبر عقدين من ناحية، وتتساوق مع اتجاهات واشنطن التاريخية إزاء إثيوبيا. لكن هذه السردية تواجه حاليا تحدي واقعي ممثل في قدرة النموذج الإثيوبي علي التماسك من ناحية وإنتاج حالة سلام إقليمي من ناحية أخري، خصوصا في ضوء المتغيرات المرتبطة بحرب التيجراي.

على المستوي السياسي تحاول أديس أبابا ضبط التصعيد بشأن ملف الأزمة الحدودية بينها وبين السودان، وهو ما أكده آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي، في محاولة لتحجيم أثر وحدة الموقف المصري السوداني في ملف سد النهضة، خصوصا بعد أن اتخذ أبعادا عسكرية بين سلاحي المهندسيين في الجيشين المصري والسوداني مؤخرا، وهو الأمر الذي من المتوقع أن يكون له أثر مباشر على القدرات السودانية في منطقتي الفشقة الكبري والصغري خصوصا مع بدء فصل الخريف وغرق الأراضي في هذه المناطق، كما سوف يكون له أثر في المستوي المنظور على الوزن الإقليمي للسودان في النطاق الأفريقي.

في المقابل، السودان تستخدم علاقاتها الأفريقية التاريخية في دعم سرديتها في طبيعة الأضرار الواقعة عليها وذلك عبر زيارات لوزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي، وذلك في محاولة لإضعاف السردية الإثيوبية القائمة على عدم وجود أضرار واقعة علي السودان وهي البلد الفقير والذي يعاني أيضا من حالة عدم استقرار ممتد وروايته في هذا الأمر تقوض السردية الإثيوبية من أساسها في بناء وملء سد النهضة الذي من المفترض أن يصنع تنمية لإثيوبيا والسودان، ولكنه واقعيا وفي ضوء خبرة الملء الأول عرض السودان لمخاطر كبيرة وحالة انكشاف استراتيجي للسودان كانت مؤثرة بشدة على حكومة الثورة السودانية الأولي وهددتها تهديدا حقيقيا. أما الملء الثاني فسوف يكون له تأثير ضار جدا على ٢٠ مليون سوداني طبقا لما قاله رئيس الوزراء السوداني علنا ويؤكد عليه في كل اتصالاته الخارجية خصوصا للاتحاد الأوربي، خصوصا مع تواصله بمسؤولة الاتصال بالاتحاد الأفريقي.

أما على المستوي السياسي فإن الاقتراح السوداني باستحداث صيغة الرباعية الدولية كمستوي يمارس وساطة بين الأطراف المتصارعة سياسيا في ملف سد النهضة، والذي تقاومه إثيوبيا يشكل محاولة سودانية دعمتها مصر لهزيمة الاستقواء الإقليمي الإثيوبي الذي تمارسه أديس أبابا في نطاق الاتحاد الأفريقي باعتبارها دولة المقر ولمعرفتها أن الاتحاد الأفريقي منفردا لا يملك أوراق ضغط واقعية عليها، ومن هنا يجئ التمسك الإثيوبي بالاتحاد الإفريقي كمظلة وحيدة للتفاوض.

سياسات الكواليس

الأداء المصري مقل تماما في التعبير عن نفسه علنا ويلتزم فقط بالرد علي التصريحات الإثيوبية للتأكيد علي حقوق دولتي المصب في مياه النيل وضرورة الحفاظ علي مواردهما من نهر النيل، حيث لم تنجح إثيوبيا أبدا في جر مصر أو أي من مسئوليها لتصريح تؤخذ عليها في السياقيين الأفريقي أو الدولي، وفي المقابل بنيت القاهرة مفردات خطابها علي صيغ مرنة، وقالت مؤخرا إنها طرحت على إثيوبيا ١٥ سيناريو لاتفاق قانونيبين الأطراف، وذلك مع نجاحها في إثبات حسن نيتها عبر آلية الصبر الاستراتيجي في هذه المباحثات.

ومع الإدراك السوداني بطبيعة مخاطر سد النهضة علي السودان، نجحت القاهرة في بناء تحالف ناجح مع السودان، وكثفت الضغوط في النطاق الدولي للتعريف بحجم الأضرار الواقعة على دولتي المصب، كما تحركت القاهرة في النطاق الدولي وخاطبت اجتماعا بشأن المياه بالأمم المتحدة تم تنظيمه في إطار عقد المياه المعلن على المستوي الدولي ٢٠١٨-٢٠٢٨ وذلك بعد أن أزدادات وتيرة الصرعات حول المياه عالميا.

على أي حال، سوف يشهد ملعب سد النهضة مزيدا من التسخين وتصاعد التوتر بين الأطراف على المستوي القصير، وهذا التصعيد قد يقود إما إلى اتفاق سياسي أو حرب على المياه، وبطبيعة الحال هذا النوع من الحروب والصراعات لا يريده أحد ولكن التعنت الإثيوبي قد يقود إليها ويفوت على دول حوض النيل الأزرق فرص هائلة للتعاون التنموي الشامل.