ثلاث سنوات من المداعبة السعودية السرية لإيران والقصف العلني بين الطرفين، يجد الأمير محمد بن سلمان نفسه مضطرًا لدفع أيِّ ثمن مقابل إنهاء المغامرة اليمنية التي ابتدأ بها ولاية عهده. وذلك في خضم حراك دبلوماسي وأمني على المستوى الإقليمي لبلورة “شرق أوسط جديد” يبدو متوافقًا مع توجه أمريكي يحصر دوره بالمنطقة في المراقبة على خلاف الانخراط الكامل الذي أحدثه الرئيس السابق دونالد ترامب.

بن سلمان ينقلب على نفسه

الأسبوع الماضي، فاجأ ولي العهد السعودي المتابعين بإشارات علنية لما يدور وراء الكواليس بشأن محادثات سريّة بين الرياض وطهران في بغداد، بالتزامن مع حديث أوسع نطاقًا عن حراك دبلوماسي إقليمي يجرى حاليًا، يُعتقد أنه محاولة لترتيب أوضاع المنطقة في ظل السياسة الأمريكية الجديدة التي تظهر نيّتها في تحويل تركيزها بعيدًا عن الشرق الأوسط.

محمد بن سلمان الذي توعد في السابق بنقل الحرب إلى داخل الجمهورية الإسلامية، قال في مقابلة تليفزيونية إن “إيران دولة جارة… ونريد إقامة علاقات طيبة معها”، متابعًا: “كل ما نطمح إليه هو علاقة جيدة مع إيران. لا نريد أن يكون وضع إيران صعبًا، بل نريدها أن تكون مزدهرة. لدينا مصالح مشتركة. مشكلتنا مع سلوك إيران السلبي”.

جاء الرد من طهران سريعًا على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، الذي قال إن إيران والسعودية “بإمكانهما وضع خلافاتهما السابقة جانبًا ودخول فصل جديد من التفاعل والتعاون” من خلال الحوار البناء، بحسب وكالة أنباء “إسنا” شبه الرسمية.

واستبق سفير إيران في العراق، إيراج مسجدي، التسريبات بشأن اجتماعات بغداد، بالقول إن “طهران تفضِّل الوساطة العراقية من أجل خفض التصعيد في المنطقة”.

انفجر الصدام الذي كان مكتومًا بين الرياض وطهران منذ الثورة الإسلامية، عندما قطعت الرياض العلاقات مع طهران في يناير 2016، عندما هاجمت حشود إيرانية منشآت دبلوماسية سعودية ردًا على إعدام رجل الدين الشيعي البارز “نمر النمر“.

حراك “الدبلوماسية الإقليمية”

الحوار الإقليمي الذي كشفته صحيفة فاينانشال تايمز في 18 أبريل، يتضمن رعاية رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي جلسات حوار سرية بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين، بدأت أولى جولاته في 9 أبريل.

لاحقًا نقل موقع “أمواج.ميديا” الذي يُبث من لندن ويمتلك شبكة مصادر نافذة في الخليج والمنطقة العربية، أن خمسة اجتماعات على الأقل عقدت بين مسؤولين إيرانيين وعرب خلال شهري يناير وفبراير.

التفاصيل التي أوردها الموقع تشير إلى أن قائد فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني، التقى بالفعل رئيس الاستخبارات العامة السعودية خالد الحميدان في بغداد، كما جرت مباحثات موازية لمسؤولين أمنيين من الإمارات والأردن ومصر مع مسؤولين إيرانيين. وتشير المصادر إلى أن محور الحديث بين المسؤولين الأمنيين في هذه البلدان، دار حول الوضع في اليمن، فضلاً عن تناول الوضع في لبنان وسوريا.

وفي الوقت الذي تحدثت فيه التقارير عن دور مؤثر لمصطفى الكاظمي في تسهيل المباحثات الجارية، تطرقت إلى ما وصف بـ”المشرق الجديد” الذي يجرى الحديث عنه، وربما يكون نتاج تحول في الموقف الأمريكي تجاه المنطقة.

تحركات علنية

في خضم هذا الحراك السري كان ثمة حراك علني لم ترافقه تصريحات رسمية بشأن الملفات الجدلية، وعلى رأس هذا الحراك جولة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في المنطقة، كانت أبرزها محطته في العراق وعمان، وهذه الأخيرة لاعب رئيس في الوساطة العلاقة الخليجية الإيرانية منذ زمن بعيد.

كان واضحًا في زيارة ظريف التي تقاطعت مع جدل في الداخل الإيراني حول تسريب حوار مسجد أحدث زلزالاً بشأن علاقة الحرس الثوري الإيراني بالسياسة الخارجية، لكن ما كان تسريبًا في طهران نفّذه ظريف واقعيًا في العراق.

اقرأ أيضًا:

بعد وثيقة CIA.. ماذا نعرف عن البدلاء المحتملين لمحمد بن سلمان؟

التسريب كان يدور حول تململ الخارجية الإيرانية من نفوذ الحرس الثوري، ربما ظريف حاول تأكيد ذلك وهو في العراق، فلم يعقد أي اجتماع مع أي من القادة العسكريين للجماعات المسلحة المدعومة من إيران. كما التقى كبار الشخصيات السنية، وتوجه إلى إقليم كردستان حيث اجتمع مع بطريرك الكنيسة الكاثوليكية الكلدانية لويس ساكو، وعبر عن رفضه الشديد للهجمات الصاروخية التي شُنت على أربيل وهي الهجمات التي تورط فيها الجماعات المسلحة المحسوبة على إيران.

تحوِّل إيراني دراماتيكي

هذا التحول الدراماتيكي للسياسة الخارجية الإيرانية، ربما تعكس ما يدور وراء الكواليس بشأن ما يُعتقد أنه تحضير لشرق أوسط جديد، يرتكز أساسًا على خفض التصعيد وتحجيم دور الميليشيات والعمليات العسكرية.

أما محطة ظريف في عمان فلها دلالات قوية بشأن المباحثات السعودية، فيبدو أن قائد الدبلوماسية الإيرانية ترك لدى المسؤولين هناك رسالة للرياض تسلمها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، الذي وصل العاصمة العمانية مسقط، الأحد، بعد أيام من وصول ظريف، وبعد ساعات من زيارته للإمارات (السبت)، حيث التقى الشيخ محمد بن زايد الحاكم الفعلي لدولة الإمارات.

وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في مسقط
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان في مسقط

اللافت خلال زيارة ظريف إلى مسقط، تغيُّر اللهجة بشأن الحرب في اليمن، وهو ما بدا من حديث مع الناطق باسم جماعة “أنصار الله” الحوثيين محمد عبد السلام، عندما شدد على أن “الحل السياسي هو المخرج الوحيد من الأزمة اليمنية”. بل عبّر في وضوح عن أسفه لأوضاع حرب السنوات الست على الشعب اليمني، ودعا إلى إنهاء الاقتتال.

في الأثناء، بدأ وفد أمريكي دبلوماسي وأمني، السبت، جولة تشمل الإمارات والأردن ومصر والسعودية وتستمر حتى 7 مايو. بيان الخارجية الأمريكية الذي أعلن عن الزيارة اكتفى بالإشارة إلى أن مهمة الوفد هي “تأكيد العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية طويلة الأمد بين الولايات المتحدة وشركائنا الإقليميين”.

بات واضحًا إذا أن الحرب في اليمن واحدة من أهم الملفات المطروحة على طاولة الاجتماعات السرية في المنطقة، وتشير إلى أن ثمة مخاض لمولود جديد في الشرق الأوسط عنوانه “خفض التصعيد” وتسكين الخلافات.

كلفة الحرب

المتابع للسياسة السعودية تجاه الورقة اليمنية، يكتشف انتقالاً كاملاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهو ما يفسره حديث الأمير محمد بن سلمان قد في مقابلة تلفزيونية عام 2017، حين توعد بنقل المعركة إلى داخل إيران.

يبدو أن محمد بن سلمان قد أدرك أخيرًا كلفة الحرب (المباشرة وبالوكالة) التي خاضتها السعودية وإيران في اليمن وساحل الخليج وسوريا ولبنان والعراق.

غير أن المدقق في الداخل السعودي يجد سببًا آخر غير كلفة الحرب جعلت الإدارة السعودية تطلب بإلحاح من إيران بدأ صفحة من التصالح، ودفعت الرياض لطرح مبادرتين لإنهاء الحرب في اليمن خلال أشهر معدودة أخرها قبل أسابيع تضمنت فيما يبدو استسلامًا تام واعترافًا بالهزيمة.

سنوات التّودُّد.. من السرية إلى العلنية 

عودةٌ على ذي بدء، ليس جديدًا أن تهرول السعودية صوب إيران طلبًا لوقف عداء اعتقدته المملكة مُثمرًا في مستقبله الذي أثبت أن الرياض تزرع ليجني غيرها، اتصالاً مع ما يربطه مراقبون بعلاقة الصدام الظاهر إعلاميًا بين واشنطن وطهران.

في العام 2017 أخرج وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي، عن قصد أو بدون قصد، سرًا ائتمنته عليه السعودية حين طلبت من رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي وساطة مع إيران تضع حدًا للخلافات.

كان الأعرجي يتحدث على الهواء عبر قناة سعودية أوسع انتشارًا هي قناة “العربية”، بعد يومين فقط من زيارة الرياض رفقة الوفد العراقي الذي كان برئاسة حيدر العبادي.

لكن المملكة صمتت عن تصريحات الوزير العراقي لثلاثة أيام، قبل أن نقلت وكالتها الرسمية عن “مصدر مسؤول” أن طلب الوساطة غير صحيح وهي أنباء كاذبة. بل زاد هذا المصدر بالتأكيد على “تمسك المملكة بموقفها الثابت الرافض لأي تقارب بأي شكل كان مع النظام الإيراني الذي يقوم بنشر الإرهاب والتطرف في المنطقة والعالم ويقوم بالتدخل بشؤون الدول الأخرى”.

كانت التصريحات السعودية موغلة في الأوصاف السلبية ولم تدعْ للمستقبل أية فرصة، لمنع أن تناقض نفسها، فقد تضمنت التصريحات الواردة على الوكالة الرسمية آنذاك أن “المملكة ترى أن النظام الإيراني الحالي لا يمكن التفاوض معه بعد أن أثبتت التجربة الطويلة أنه نظام لا يحترم القواعد والأعراف الدبلوماسية ومبادئ العلاقات الدولية وأنه نظام يستمرئ الكذب وتحريف الحقائق وأن المملكة تؤكد خطورة النظام الإيراني وتوجهاته العدائية تجاه السلم والاستقرار الدولي”.

ما كان على الوزير الأعرجي، وهو المعروف بقربه الكبير للنظام الإيراني بل أحد مندوبي قاسم سليماني وقتها في العراق، إلا أن يكذِّب نفسه أو يكذب رئيس وزرائه حيدر العبادي أو يكذب المصدر المجهول على صدر الوكالة السعودية رسمية.

الأعرجي يكذب لسانه

آثر الأعرجي أن يكذب لسانه، حين نسبت له لاحقًا تصريحات تنفي طلب السعودية للوساطة، ولعل مستقبل علاقة الرجل الذي كان قائدًا لـ”فيلق بدر” أكثر الميليشيات الشيعية الموالية لإيران في العراق تفسّر ذلك التغيير.

في فبراير 2018 زار وفد إعلامي سعودي العراق لأول مرة بعد 28 عاما، وقتها تناقلت مواقع التواصل صورًا لوزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي برفقة السفير السعودي في بغداد عبدالعزيز الشمري.

وظهر في الصور، التي أثارت جدلاً وقتها، الأعرجي والشمري وهما يتجولان وتتشابك أيديهما، في أحد مراكز التسوق في بغداد مع وفد كبير من الإعلاميين السعوديين.

وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي برفقة السفير السعودي في بغداد عبدالعزيز الشمري
وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي برفقة السفير السعودي في بغداد عبدالعزيز الشمري

علاقة الكاظمي ومحمد بن سلمان

خلال الزيارة النادرة للوفد العراقي إلى السعودية عام 2017، والتي أثيرت بعدها أحاديث الوساطة، كان يجلس إلى يمين رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، رئيسُ جهاز المخابرات العامة مصطفى الكاظمي، الذي أصبح بات حاليًا رئيسًا لحكومة العراق، في خضم تجدد الحديث عن الوساطة.

وخلال الزيارة آنذاك شوهد الكاظمي وهو يعانق مطولاً ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وهو ما يراه البعض استدلال قوي على علاقة الرجلين، لاسيما أن الأمير السعودي لديه رجال نافذون في البلدان المجاورة للمملكة.

الكاظمي يدخل هذه المرحلة التفاوضية وهو لديه علاقات مع كافة اللاعبين الأساسيين على الساحة، ففي حين وصف في أكثر من تقرير بأنه “رجل الولايات المتحدة”، يعتبره آخرون غير بعيد عن حضن الإيرانيين.

إزاء ما سبق، فإن محاولة الكاظمي وهو أحد أطراف (وساطة التهدئة في المنطقة)، تسبقها وترافقها تصريحات سعودية رسمية علنية مفادها أن المملكة تمد يدها لمصافحة جمهورية خامنئي.

فالتحرك الذي كان خفيًا ومنفيًا إعلاميًا في السابق صدح به ولي عهد أبيه محمد بن سلمان، الذي وصف سابقا خامنئي بـ”هتلر الشرق” بالقول إن الجارة الإسلامية أولى بحسن المعاملة والعلاقات الطيبة، وهي مغازلة ليست بعيدة عن دهاليز سياسته الخارجية التي تتنقل بين بغداد وعمان في غرف مغلقة مع دبلوماسيي طهران؛ أملا في الوصول إلى تهدئة مؤشر سرعة التصادم.

لماذا كانت المساعي سريّة؟

في أبريل 2018، كان وزير الخارجية السعودي عادل الجبير يقف في مؤتمر صحفي بجوار نظيره الأمريكي مايك بومبيو، ويقول إن المملكة تؤيد سياسة الرئيس ترامب تجاه إيران، الجهود المتعلقة بالاتفاقية الإيرانية.

لو قُدّر لوزيري البلدين حاليًا أن يقف في مؤتمر صحفي مماثل، لا يستبعد أحد أن يقول الوزير السعودي إن بلاده تؤيد سياسة الرئيس جو بايدن تجاه إيران، ذلك أن الرئيس الأمريكي الجديد بات منفتحًا على حوار مع طهران ويقود جهودًا لتوقيع اتفاق نووي جديد، ومن ثمّ تهدئة في كافة الملفات الإقليمية المضطربة. لذلك، يربط البعض بين تغير الإدارة الأمريكية، والمغازلة السعودية العلنية للجمهورية الإيرانية.

في عهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، كانت السعودية مندفعة في تصرفاتها وتصريحاتها، ارتكازًا على سياسة إدارة ترامب المتمثلة في حملة “الضغوط القصوى” على إيران. ومع انتفاء الظهير القوى وجد بن سلمان نفسه مضطرًا لإعادة تقييم خطابه وسياسته اتساقًا مع إدارة جو بايدن.

ويبدو أن ثمة مسارين يسيران بشكل متزامن، الأول غربيًا مع قرب التوصل لاتفاق نووي مع طهران، في محادثات فيينا بين إيران ووكلٍ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا. والمسار الثاني في الشرق الأوسط لإنهاء الصدام بين طهران ودول خليجية وعربية تابعة لها.

عبء اليمن.. وتقشف الداخل

تعيش السعودية خلال السنوات الأخيرة مرحلة شديدة التعقيد اقتصاديًا، دفعت السلطات إلى فرض حزمة تقشف غير معهودة في مايو 2020 وهي البلد النفطي الرابح كثيرًا من الشعائر الدينية المرتبطة بالعمرة والحج. لاحقًا اضطرت أيضًا لرفع ضريبة القيمة المضافة من 5% إلى 15%.

في السياق نفسه، مثّلا الحرب اليمنية عبئًا سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا على السعودية، من دون أن تحقق أي نتائج إيجابية، وفق الهدف الذي شرع على أساس شنّ هجمات عسكرية على جماعة الحوثيين المرتبطة بإيران.

التفحيط الهادم وتكلفة الترميم

لدى تلك النقطة، يبدو أن بن سلمان قد أوقف سيارة التفحيط السياسي التي استقلها منذ تقلد ولاية العهد، عندما وجد أنها أتت على جدران البيت فهدمته وكان يظن أنه فائز في السباق غير المحسوبة العواقب.

خرج بن سلمان من تخبطه هذا بحزمة ركام لا وقتًا كافيًا لترميمه، لكنه ظن من دون شك أن أولى خطوات البناء يبدأ من طهران وهي غير المغيَّبة عن المشهد الذي بدا فيه الابن الوريث للعرش، وهي بهذا التصور لن تمسِك بيده لينهض من جديد وهي التي كانت سببًا رئيسًا في سقوطه أرضًا من دون مقابل. كم سيكلفه النهوض، وأين تنتهي المعركة، وكيف يخيط ثوب الحكم.. كلها أسئلة لا يملك ولي العهد السعودي إجابةً عنها إلا أن يقرر خصومه.

الليبرالية على الطريقة السلمانية

الليبرالية التي يريدها بن سلمان ليس فقط هدم الأفكار الراديكالية التي قطع على نفسه عهدًا بنسِفها نفسًا، لكنها أوسع من ذلك التصور لتطال عمليات إصلاح يتقدمه الشِّق السياسي، وحرية التعبير والرأي.

بدأ محمد بن سلمان يضرب بقوة في الإرث السلفي الوهابي، الذي كان ظهيرًا دينيًا وحليفًا. بدا أمام المجتمع أن وريث العرش يجهّز المملكة لمرحلة جديدة انفتاحية على تجربة ليبرالية، لم يعهدها الداخل السعودي، لا من ناحية أدبياتها ولا متطلباتها حتى الشكلية.

أفرز بن سلمان وجهين للإرث السلفي، الأول أُودع السجن بحكم رفضه شكليات الدولة الليبرالية القائمة على صناعة الترفيه، والثاني المتمسكين بطاعة ولي الأمر، وهي الخلفية التاريخية للسلفية المدخلية، التي باتت سلاح بن سلمان حاليًا وسُمعت على لسان شيوخ السلطة وهم يدعون لولي العهد في الحرم المكي، وينكرون على معارضيه أنفاسهم المتململة من الواقع.

الانفتاح الليبرالي مجرد أداة وظَّفها ولي العهد لتصفية صراعاته الشرسة مع أقطاب البيت السعودي وبات أمام حتمية تفرض عليه تفريغ عقله وموارده من صراعات الخارج للعبور إلى الدولة الجديدة التي يريد أن يرث عرشها

أزال بن سلمان، عبر سياسة التحجيم والتحكيم آنفة الذكر، وجهًا سعوديًا كان حليفًا للسلطة منذ تأسيس الدولة الحديثة، بل كان واحدًا من أدوات الهدم والبناء، حيثما ترى السلطة، فتارة يجمعون التبرعات من فوق المنابر لـ”الثوار الأفغان” عندما كان السوفيت “عدو الله”، وتارة أخرى ينعتون بـ”الإرهاب” على نفس فعلتهم الأولى.

أسئلة الحكم

هنا ظهر المجتمع السعودي وكأنه أداة في يد السلطة تحركها كيفما شاءت، لكنّ الأمر غير المحسوب هو أن حديث الإصلاح يجرّ إلى أسئلة عن “إصلاح الحكم” وإتاحة مساحة الديمقراطية. لكن ليبرالية بن سلمان لم تتخطى عتبة الترفيه، باعتبارها مجمل التوجه والإرادة.

بهذا المعنى، يبدو الانفتاح الليبرالي مجرد أداة وظَّفها ولي العهد لتصفية صراعاته الشرسة مع أقطاب البيت السعودي، وهنا بات أمام حتمية أخرى تفرض عليه تفريغ عقله وموارده من صراعات الخارج للعبور إلى الدولة الجديدة التي يريد أن يرث عرشها، وسيكون على موعد مع اشتباكٍ عائلي غير مسبوق، عندما ينتقل الحكم من نسل سعود إلى أحد أحفاده.

تغيير نظام الحكم ومواجهة أقطاب البيت السعودي

النسخة الثانية للملكة أرادها الملك الحالي سلمان بن عبدالعزيز آل سعود أن تكون سليمانية بديلاً عن السعودية التي كانت تحصر عرش الحكم وولاية العهد في فرع المؤسس عبالعزيز آل سعود إلى تمكين الأحفاد لتغيِّر سيارة السلطة وجهتها إلى فرع سلمان الملك عندما يرث نجله حكم أبيه.

حملة الاعتقالات التي تشمل أقطاب البيت السعودي ليست كافية لتمكين الحفيد من عرش جده، بل إنها قد تزيد مساحة المواجهة، إلى الحد الذي يعتبرها البعض مغامرة يمكن أن تقتلع سلمان ونسله من التاريخ السعودي.

تخضع السعودية لحكم ملكي وراثي بين أبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود وأبناء الأبناء. لكن الملك سلمان أدخل تعديلاً على النظام الأساسي للحكم للنص على أن “يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء… ولا يكون من بعد أبناء الملك المؤسس ملكاً وولياً للعهد من فرع واحد من ذرية الملك المؤسس”.

رسم توضيحي عن الأسرة الحاكمة في السعودية
رسم توضيحي عن الأسرة الحاكمة في السعودية

مع هذا التغيير، أصبح محمد بن سلمان وليًا للعهد في 2017 من خلال الإطاحة بمن كان يسبقه في ترتيب ولاية العرش، وأحكم قبضته على مقاليد السلطة، وشغل – بحكم صلاحيات ولاية العهد- منصب وزير الدفاع ورئيس المجلس الأعلى لشركة أرامكو النفطية العملاقة المملوكة للدولة، وترأس صندوق الاستثمارات العامة.

ويخطط بن سلمان إلى إحكام سيطرته بشكل أوسع على مقاليد الحكم، وهو ما بدا من تصريحاته قبل أيام بشأن زيادة مركزية صنع السياسات، حيث قال: “السياسات اليوم تترجم من خلال اللجان، ولكن مستقبلا من خلال مكتب متخصص سينشأ آخر هذه السنة، وتحول إلى أوامر للوزارات بتنفيذ الاستراتيجية المعدة بدور ومستهدف واضح لكل وزارة”.

هذا التمهيد للانقضاض بشكل رسمي على عرش الحكم، رغم كونه بمثابة حاكم فعلي حاليًا، يتطلب “تصفير” أو تسكين للأزمات المحيطة، على الصعيدين: الاقتصادي الذي يمكن أن يحرك الطبقة الشعبية في حال استمرار حالة التقشف، وسياسيًا من خلال مواجهة محتملة لمواجهة لإحباط التغيير الرسمي في نظام الحكم، عندما يحين موعد تولي الولد عرش أبيه.

تصفير الأزمات الإقليمية

مهّد بن سلمان لهذه المرحلة من خلال إنهاء الخلاف مع قطر، بعد قطيعة استمرت منذ عام 2017، عندما اتهمتها ثلاث دول خليجية ومصر بدعم الإرهاب. بيد أن أسباب الاتهامات لم تزول، وشروط المملكة وأخواتها لم تتحقق. غير أن أن الحاجة باتت ملحِة سد جبهة مزعجة لولي العهد السعودي.

اقرأ أيضًا:

بعد ترامب.. كيف جمَّلت السعودية وجه بن سلمان؟

بعد عداءٍ لم يستمر طويلاً، على خلفية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، بدت إشارات واضحة على تقارب تركي سعودي، خاصة عندما أعلن مقاتلو الحوثي إسقاط طائرة تركية الصنع، وهو ما أثار تكهنات بشأن دعم أنقرة للرياض في اليمن. بعدها عبرت وزارة الخارجية التركية عن “قلق بالغ إزاء الهجمات التي استهدفت أراضي المملكة العربية السعودية”.

هذا التقارب لن يستقر في مكانه لدى الأزمة اليمنية، لكن ربما ينسحب إلى سوريا وليبيا وغيرها من المناطق التي تتقاطع فيه السياسة السعودية ومنافستها التركية، وهو تسكين يراه مراقبون مقدمة لأمرٍ كبير قد تشهده المملكة قريبًا.

هكذا، فإن المخاض العسير الذي تعيشه السعودية منذ جاء محمد بن سلمان وليًا لعهد أبيه، يوغل في ضبابيته، فلا أحد يعلم على وجه اليقين أيَّ مولودٍ سيأتي به الطلق.