أمام منزلها، تقف السيدة مريم الغاوي من حي الشيخ جراح في القدس، بشال أسود تحدق النظر في المارة كأنها تلقي نظرة وداع على حي طفولتها.
هذا مشهد ربما يعيشه 28 أسرة بحي المقدسي، بعد أن أرجأت محكمة الاحتلال الصهيوني فرصة لأصحاب المنازل التفاوض مع المستوطنين لمدة يومين على أن تنتهي في 6 مايو الجاري.
وتصدر في الأيام الماضية هاشتاج “أنقذوا حي الشيخ جراح”، مواقع التواصل الاجتماعي، للتنديد بجرائم الاحتلال بعد أن قررت محكمة الاحتلال بالقدس جلسة للنظر في قضية 28 بيتا يقطنها ٥٠٠ فلسطيني مهددون بالتهجير وإحلال المستوطنين مكانهم.
ودون المغردون على الهاشتاج،”إذا راح الشيخ جراح راحت القدس”، “الشيخ جراح هي فلسطين”، مطالبين بسرعة التضامن العالم والمجتمع الدولي مع الأسر قبل أن يتم تشريدهم بالشارع.
وأشار علي نصر إلى إنه على قرب يومين تنتظر سبع عائلات في منطقة “كرم الجاعوني” في حي الشيخ جراح تنفيذ قرار الإخلاء في ٦ مايو الجاري بعد أن تم مدهم بمهلة جديدة عن ٢ مايو من جانب رجال الاحتلال.
وقال الصحفي علي نصر بالقدس إن المستوطنين يعرضون تسوية تقر بموجبها العائلات بأنها مستأجرة وفق قانون “حماية المستأجر” الإسرائيلي، وأن تحدد فرداً من كل عائلة ينتهي الانتفاع بوفاته باعتباره آخر الأجيال المنتفعة من “الإيجار المحمي”.
وأضاف نصر، لـ “مصر 360” أن هذا الأمر رفضه أصحاب البيوت بشكل قاطع لتلك الصفقة، كما يرفضون أي صفقة أخرى.
وبرأي الباحث زياد أبحيص، المتخصص في شؤون القدس، فإن المحكمة تمارس دورها كذراع استعماري صهيوني وتعمل على شق صف أهل الحي وإضعاف موقفهم، لعل بعضهم أمام خطر الإخلاء يتراجع عن حقه الأصيل في الملكية ويقر بنفسه –لا عبر وكيل- بأنه يعترف بأنها ملكية للمستوطنين وأنه مستأجر لها، يدفع الإيجار ويلتزم بشروط الإجارة، وبعد وفاة المستفيد تعود الملكية للمستوطنين.
وأوضح إذا أنجرت أي عائلة إلى هذا الفخ لاجتناب خيار التهجير، فإن الشخص المحدد بالاتفاقية ستصبح حياته مهددة، لأن وفاته هي مفتاح انتهاء وجود عائلته في العقار، وأمام آلة استعمارية قامت على القتل والتهجير فالهدف التالي في هذه الحالة سيصبح قتل المستفيد المحدد بالاسم بأي شكل.
وخرجت تظاهرات بعد قرار المحكمة الأخير للتعبير عن موقفهم الرافض مما نتج عنها أكثر من ٢٠ إصابة باعتداءات جيش الاحتلال على الأهالي في حي الشيخ جراح بالقدس المحتلة، بحسب الهلال الأحمر.
اقرأ أيضا:
كيف تسبب “التيك توك” في شرارة انتفاضة جديدة في القدس؟
هنصير على الرصيف
وأمام منزله يحكي “نبيل الكرد” صاحب أحد البيوت المهددة بالتهجير، قائلا: “احنا هنصير على الرصيف لا أعرف وين أروح”.
ويضيف نبيل، صاحب لحية بيضاء شاهدة على عمر مديد عايشه في الشيخ جراح: “كل ذكرياتي هون، أنا طفولتي وشبابي هون ودراستي وتخريجي من الجامعة من هون وتزوجت وأطفالي من هون ،كل حجر في الدار بيحكي قصة عندي، وين أروح”.
تهويد الحي
وفي نفس السياق، أوضح الباحث والمتخصص في شؤون القدس، أن تهديد سبع عائلات بالإضافة إلى ثلاث عائلات أخليت في 2008 و 2009، وخمس أخرى أنذرت بالإخلاء حتى 1 أغسطس القادم، فإن المحصلة إن تم للاحتلال ما يريد ستكون إخلاء 15 عائلة من أصل 28 تسكن المنطقة، أي أنه يريد أن يقطع أكثر من نصف المسافة نحو هدفه في تهويد الحي خلال الأيام والشهور القادمة.
ويشير أبحيص إلى أن منع حدوث ذلك يتطلب الانتقال من خوض المعركة في المحاكم الصهيونية إلى فعل سياسي تتحمل الدولة الأردنية مسؤوليته، ومعها السلطة الفلسطينية والفصائل، لابد أن يكون مبنيا على التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية، والمطالبة بملكيات أهالي الحي وعموم اللاجئين قبل عام 1948، وفعل ميداني يبادر للاشتباك على الأرض.
كان الصحفي علي نصر نشر على صفحته الشخصية على موقع التواصل الإجتماعي، وثيقة أردنية تفيد بأحقية ملكية الأهالي لمنازلهم ، جاء فيها:”من الأرشيف الأردني لكتاب مؤرخ في ١٤ تموز ١٩٦٠، موجه من رئيس الوزراء الأردني حينذاك هزاع المجالي إلى وزير الإنشاء والتعمير، بخصوص تسجيل الوحدات السكنية للاجئي حي الشيخ جراح بأسمائهم”.
قصة حي الشيخ جراح
وعن أصل الحي الشيخ جراح، يقول الباحث والمتخصص في شؤون القدس، إن حي الشيخ جراح من أول الأحياء الجديدة نشأة خارج سور البلدة القديمة، وكان الحي المفضل لعائلة الحسيني التي كانت تشكل كبرى العائلات القيادية في المجتمع الفلسطيني باعتبار النسب والموقع.
وتقول الإحصاءات العثمانية إن منطقة الشيخ جراح ضمت 167 عائلة بحلول عام 1905.
ومع انطلاق الحركة الوطنية الفلسطينية وتنافس العائلات التقليدية على قيادتها تحول حي الشيخ جراح إلى المركز السياسي للقدس، ففيه كان بيت المفتي الحاج أمين الحسيني وبيت منافسه رئيس البلدية راغب النشاشيبي، وكان بيت المفتي منطلق مسيرات ومظاهرات في مناسبات متعددة، وقد اتخذت دول عربية وغربية كثيرة من الحي مقراً لقنصلياتها انطلاقاً من ذلك، وقد استمرت مكانة هذا الحي نسبياً بكونه مقراً لبيت الشرق ومدرسة دار الطفل العربي ومسرح الحكواتي.
ويشير أبحيص إلى أن هذه الخلفية تعني أن القضم الاستيطاني المتتالي لحي الشيخ جراح بالسيطرة على بيت المفتي وكرمه ثم حي كرم الجاعوني يهدف إلى تقويض مركز الحضور السياسي الفلسطيني في القدس، بل وتحويله بالمقابل إلى مركز حضور صهيوني ببناء مقرات حكومية مثل “القيادة القطرية لحرس الحدود” التي استهدفها الشـهـيد مصباح أبو صبيح في عمليته في 2016.
يلفت أبحيص إلى أن الوجود الصهيوني في حي الشيخ جراح بدأ عبر حركات صهيونية دينية مبكرة سبقت تأسيس المنظمة الصهيونية، إذ اإنها زعمت بناء على قراءتها في الأوصاف الواردة في الكتابات الحاخامية أن الكاهن الأعظم المسمى “شمعون الصديق” مدفون في الحي، وهو كاهن ينسب إلى حقبة تأسيس “المعبد الثاني” ويزعم التلمود إنه الكاهن الذي التقى الإسكندر الأكبر عند احتلاله للقدس، وإنه كان آخر أعضاء الكنيست القديم.
اختار الصهاينة قبر الشيخ محمد معّو السعدي، جد عائلة حجازي المقدسية، والمعروف بقبر الشيخ السعدي، ليقولوا إنه في الحقيقة قبر “شمعون الصديق”، وذلك بناء على أوصاف المكان الشكلية في كتب حاخامية تعود للقرون الوسطى، واستحدثوا عنده مع نهايات عقد 1860 طقوساً تشابه طقوس الاحتفال بعيد “لاج باعومر”، الذي يمكن تسميته اختصاراً “عيد الشعلة”، وهو الاحتفال الذي شاءت الإرادة الإلهية أن يموت فيه منذ يومان 45 صهيونياً.
يزعم المستوطنون أنهم بنوا وحدات سكنية في ذلك الحي، بعد أن استأجرت الجمعيات الاستيطانية الأرض من المزارعين عام 1875، وهذا بخلاف الوقائع في 1948 بقيت هذه الأرض تحت الحكم الأردني الذي تعامل معها باعتبارها ملكية حكومية، وعندما أرادت الأونروا التسوية مع بعض اللاجئين في القدس عام 1956 لتقليص عملياتها، منحت الحكومة الأردنية تلك الأرض ومساحتها 18 ألف متر مربع على شكل قطع لـ 28 عائلة، وبنيت لهم بيوت بتمويل الأونروا مقابل التنازل عن بطاقات المؤن، ثم تعهدت الحكومة الأردنية بنقل الملكية للسكان بعد ثلاث سنوات، وهو ما ما لم يتم وتأخر لأسباب بيروقراطية حتى احتل الشطر الشرقي من القدس عام 1967.
اليوم تصل هذه المحاكمات لنهاياتها، نجح خلالها أهل الحي بكسب الوقت، لكن المحكمة في النهاية تقوم بواجبها كذراعٍ استعماري، بحسب أبحيص.
الأهالي تطالب الحكومة الأردنية بأوراق
ويشير الباحث إلى أن أهالي الحي يطالبون الحكومة الأردنية بأوراق تعزز موقفهم، وهي بالاسم: نسخة موقعة ومروسة أصلية من الاتفاقية معهم، ونسخة أصلية من تعهد الحكومة الأردنية بنقل الملكية إليهم، وقد أعلنت الحكومة الأردنية تسليم الأوراق للسلطة الفلسطينية وليس لأهل الحي مباشرة أكثر من مرة.
وكانت الخارجية الفلسطينية تصدر بيان شكر في كل مرة، لكن ما كان يُسلم حتى الآن هو ذات الأوراق الموجودة بيد أهل الحي.
ولأخذ المعركة لمستوى مختلف، يوضح زياد أبحيص لابد أن تأخذ الحكومة الأردنية القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية، وهي المصادقة على ميثاق روما المؤسس للمحكمة منذ عام 1998، فما يحصل ببساطة أن أصحاب الأرض يطردون للمرة الثانية من بيوت امتلكوها، وأن الغزاة المستوطنين يعوضون مرتين عن أراض استأجروها لفترة محدودة من الزمن، مستغلين ثقافة سماحة كانت تسود هذه البلاد، وهذه جريمة حرب موصوفة”طرد أهل البلاد وإحلال سكان القوة المحتلة في مكانهم”.
في المحصلة، المساحات الأهم والأفعل في الدفاع عن هذا الحي ما تزال لم تفعّل، مشيرا إلى تهديد المدعية العامة لمحكمة الجنايات الدولية في أكتوبر 2018 بأنها قد تنظر في اعتبار إخلاء الخان الأحمر جريمة حرب قد أدى مع ضغط شعبي محدود إلى تأجيل إخلاء الخان الأحمر إلى أجل غير مسمى، رغم أنه كان أجندة مركزية للاحتلال لتغيير حدود القدس وضم كامل كتلة أدوميم الاستيطانية مستفيداً من قرار ترامب، واليوم تم تفعيل أكثر من حل اربما نكون قادرين على فرض تراجع أكبر وأكثر أهمية يكمل سياق التراجعات الصهيونية في القدس.
كفلسطينين سنظل نذكر دائما بأننا أصحاب هذه الأرض
ومن جانبها تعلق الصحفية الفلسطينية، هاجر محمد حرب، عما يجري بالشيخ جراح، والذي تعتبره واحدة من العشرات بل مئات الممارسات الاسرائيلية التي تهدف إلى إقصاء الفلسطينين وتهجيرهم أرضهم وسرقة ممتلكاتهم وتجريف أراضيهم، وهي سياسة تتبعها إسرائيل منذ أن احتلت الأراضي الفلسطينية عام 1984.
وتشير حرب لـ “مصر 360″، المطلوب من المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية الدولية والمناصرين للقضية الفلسطينية أن ينتبهوا لما تقوم به إسرائيل بجيشها وحكومتها ومستوطنيها، ما يجري على الأرض هو عملية إحلال للسكان الإسرائيليين بديلا عن السكان الفلسطينين أصحاب الأرض.
“نحن كفلسطينيين سنظل نذكر دائما بأننا أصحاب هذه الأرض واننا نسعى بكل الجهود لحث المجتمع الدولي والعالم لأن يتضامن ويناصر القضية ويعيد هذه الأرض للفلسطينين فنحن أصحاب هذه الأرض وأصحاب الحق”، تؤكد حرب.
وعن القرارات التي تصدر عن المحاكم الإسرائيلية، تطالب حرب بضرورة إلغاء القرارات التي تصدر من المحاكم الإسرائيلية والتي تصادر تلك الأراضي والمنازل، “فهي قرارات غير معترف بها بالنسبة لنا، نحن سنظل نؤكد أن هذه الارض خالصة هي فلسطينية وحق أصيل لنا كفلسطين كباقي القضايا التي تشتبك فيها مع الاحتلال الإسرائيلي مع الأرض”.