رغم إعلان دول خليجية دعمها لمصر في ملف سد النهضة، طرح كثيرون تساؤلات حول نية أو قدرة هذه الدول على تغليب كفة القاهرة في خضم الأزمة، بالنظر إلى الأوراق الاقتصادية والعسكرية التي تملكها في القرن الأفريقي، وهل تلك الأوراق “نعمة” أم “نقمة” على موقف مصر الحالي.
يبدو تنافس دول الخليج في أفريقيا، على اختلاف استراتيجيتها محاولة لاكتساب النفوذ عبر الاستثمار الاقتصادي وتمويل المشروعات التي ترى أن القارة في حاجة إليها، رغم أن هناك من يرى أننا إزاء محاولة للنفوذ والوجود المادي في أفريقيا، قد تترتب عليها نتائج تخل بتوازن القوى الإقليمية. إلا أن طبيعة المنافسة الرأسمالية والسياسية تتيح للدول أن تقوم بما يحقق مصلحتها ويعظم من مكاسبها سواء في الاقتصاد أو السياسة.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن العقد الأخير من الألفية الثالثة شهد ازدياد الوجود الخليجي سواء اقتصاديًا أو سياسيًا في القارة بوجه عام، وتحديدًا وجود دول مثل المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، وفي دول القرن الأفريقي بوجه خاص.
في بداية العقد استضافت القارة عددًا قليلاً من سفارات دول خليجية، أما الآن فيمكن أن نرى وجودًا دبلوماسيًا كبيرًا في معظم الدول الأفريقية. ومن خلال هذا التواجد الدبلوماسي تسعى دول الخليج إلى لعب أدوار مستقبلية في تشكيل التحولات السياسية، خاصة في إثيوبيا والسودان وهما من الدول التي تواجه مجموعة كبيرة من التحديات الاقتصادية والسياسية.
أهمية دول القرن الأفريقي
لموقع دول القرن الأفريقي أهمية جيوسياسية، واقتصادية، وأيضًا عسكرية، بسبب قربها من ممرات بحرية تكتسب أهمية في مخططات القوى الكبري الساعية إلى لعب دورها الاستراتيجي والأمني في حفظ أمن الظام العالمي والإقليمي كما تقتضي قواعد اللعبة الدولية.
ومن هنا تُمثل منطقة القرن الأفريقي إحدى أهم عوامل التوازن والاستقرار الإقليمي، لما لها من موقع جغرافي مميز، حيث تطل على البحر الأحمر والمحيط الهندي. كما أنها قريبة من مضيق باب المندب، فهذه المنطقة تعد هدفًا لكل القوى الساعية للنفوذ في البحر الأحمر والشرق الأفريقي كله.
وهي بهذا الوضع الجغرافي المميز تمثل واحدة من أهم المنافذ التجارية لاتصاله بخليج عدن، الذي يتم من خلاله نقل النفط الخليجي إلى باقي دول العالم، بالإضافة إلى سلع تجارية أخرى. ومن خلال هذه المنطقة أيضًا يمكن التحكم في حركة التجارة العالمية، فضلاً عن أنها الطريق التقليدي لمرور أي قوى عسكرية قادمة من أوربا أو الولايات المتحدة الأمريكية إلى منطقة الخليج.
التداخل مع دول حوض النيل
كما تتداخل هذه المنطقة جغرافيًا مع دول حوض النيل، والتي تكتسب هي الأخرى أهمية خاصة، لاسيما إثيوبيا التي تهطل عليها الأمطار المغذية لنهر النيل شريان الحياة في كل من مصر والسودان. وفي الآونة الأخيرة زادت هذه الأهمية بعد إعلان أديس أبابا عن خططها لتسليع المياة بعد بنائها لسد النهضة.
لا تقتصر أهمية المنطقة على موقعها فقط، بل إلى ما تمتكله أيضًا من موارد طبيعية، كالنفط والغاز الطبيعي وتصل نسبتهما إلى ما يزيد على 22% من الاحتياطي العالمي، بالإضافة إلى ما يزيد على 40% من الاحتياطي العالمي للماس. كما أن هذه المنطقة تمتلك نسبًا كبيرة من الذهب، والنيكل والفوسفات، والحديد، واليورانيوم.
وأدي ذلك إلى زيادة التنافس على الاستثمار في هذه الدول، لا سيما في ظل تزايد الطلب العالمي للموارد الطبيعية، وتراجع نسبة الاحتياطات العالمية.
كما أن منطقة القرن الأفريقي من المناطق الواعدة بالإنتاج النفطي، وتمتلك ما يزيد على 43% من إجمالي الأرض الصالحة للزراعة لكنها غير مستغلة، وتحتوي أيضًا على أكبر ثروة حيوانية في أفريقيا.
الاستثمارات الخليجية في دول القرن الأفريقي ومدلولها
نظرًا لهذه الأهمية يبدو التكالب العالمي للسيطرة على سوق وموارد منطقة القرن الأفريقي. فبالإضافة إلى الدول الكبرى المتنافسة كالصين والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي، والدول الإقليمية مثل تركيا وإيران وإسرائيل، تدخل الدول الخليجية إلى ساحة التنافس.
بدأ توطيد العلاقة بين الطرفين الخليجي والأفريقي في أعقاب ارتفاع الأسعار العالمية للغذاء عام 2008 في ظل الأزمة المالية العالمية. وقتها قامت دول الخليج بشراء الكثير من الأراضي الزراعية، لا سيما في إثيوبيا والسودان؛ سعيًا إلى تحقيق الأمن الغذائي لسكانها.
ورأت دول الخليج فرصة زراعية واعدة في القرن الأفريقي، لاسيما مع اتساع مساحة الصحراء في الخليج، وندرة المياه. كما أنها بحاجة إلى منتجات زراعية وحيوانية قليلة التكلفة مع وجود عمالة كثيفة منخفضة الأجور، وهو ما يتوافر بالقرن الأفريقي. كما أن قرب تلك الدول من الخليج يجعل هذه المنتجات ذات تكلفة منخفضة في عمليات النقل.
وتعزز الوجود الخليجي في منطقة القرن الأفريقي بعد شن التحالف العربي بقيادة السعودية الحرب على الحوثيين في اليمن. ومن ثّم أصبحت هذه المنطقة ساحة للتنافس الرأسمالي الخليجي- الخليجي بين الإمارات والسعودية من ناحية، وقطر من الناحية الأخرى. وحتي مع دول شرق أوسطية كإيران وتركيا من جهة أخرى.
انفتاح الاقتصادي
ورأت دول الخليج (الإمارات، والسعودية، وقطر) في الاقتصادات الأفريقية سريعة النمو استثمارًا جيدًا طويل الأجل. وذلك بسبب إقدام هذه الدول على الانفتاح الاقتصادي مع مبادرة (الحزام والطريق) الصينية التي تعطي للمنطقة أهمية استراتيجية واقتصادية كبيرة.
وتشير التقديرات إلى أنه بين عامي (2000: 2017) تخطى حجم الاستثمارات الخليجية في منطقة القرن الأفريقي 13 مليار دولار في قطاعات الزراعة، والتصنيع، والبناء والتشييد. وقد مكنت الروابط الاقتصادية والتجارية للخليج مع دول هذه المنطقة من زيادة تنويع محفظة صناديق الثروة السيادية وتقليل الاعتماد على عائدات النفط. كما لعبت هذه التدفقات المالية الخليجية دورًا في تحقيق بعض التسويات السياسية.
الحضور الإماراتي
برزت الإمارات مؤخرًا في القرن الأفريقي من خلال التحالفات السياسية والمساعدات، والاستثمار، واتفاقيات القواعد العسكرية، وعقود الموانئ. وهي تسعى من خلالها إلى إدارة عدد من أكبر وأهم الموانئ في منطقة القرن الإفريقي، لتعزيز نفوذها. فضلًا عن السعي إلى امتلاك نصيب كبير من الاستثمارات في إطار مبادرة (الحزام والطريق) الصينية.
وباعتبار أن منطقة القرن تُمثل بوابة الصين على أفريقيا، تحاول الإمارات لعب دور أساسي في حركة الصادرات والواردات. ومن أهم الموانئ التي أبرمت الإمارات معها عقودًا هو ميناء “عصب” في إرتريا وقد نص الاتفاق بين الطرفين على قيام مؤسسة الموانئ والجمارك والمنطقة الحرة في دبي بدفع مقابل سنوي للسلطات الإريترية، بالإضافة إلى 30% من دخل الموانئ بعد تشغيلها.
بالإضافة إلى ميناء “بربرة” في أرض الصومال، الذي يبلغ حجم الاستثمار فيه 442 مليون دولار لتوسيعه، بما في ذلك تطوير البنية التحتية، وتوسيع محطة الحاويات بمساحة تقدر بـ 25 هكتار، وهو ما يزيد من الطاقة الاستيعابية بمقدار 500 ألف حاوية.
وفي إطار سعي الإمارات لتعظيم استثمارتها، وقع صندوق أبوظبي للتنمية مذكرة تفاهم مع الحكومة الإثيوبية يقدم بموجبها 3 مليار دولار من أجل دعم الاقتصاد الإثيوبي، وتحقيق التنمية، وزيادة القدرة التنافسية للمنتجات الإثيوبية. وبطبيعة الحال فضلاً عن المكاسب السياسية ستحصل الإمارات على الكثير من المكاسب الاقتصادية. كما أنها ستفتح بابًا للقطاع الخاص الإماراتي لدخول السوق الإثيوبي والاستفادة من الفرص الاستثمارية المتاحة.
مشروعات قائمة وأخرى قيد التنفيذ
وخلال خلال العامين الماضيين تضاعفت الاستثمارات الإماراتية في إثيوبيا بشكل كبير، وتركزت في مجالات الزراعة والإنتاج الحيواني والطاقة.
وتشير الإحصائيات الأخيرة أن الإمارات تمتلك 92 مشروعاً استثمارياً في إثيوبيا، متركزة في قطاعات الزراعة والصناعة والعقارات والرعاية الصحية والتعدين. كما وصلت الصادرات الإماراتية إلى إثيوبيا في 2018 إلى 200 مليون دولار، بزيادة 46% عن عام 2017.
وتتوزع المشروعات الإماراتية بواقع: 33 مشروعاً قائماً، و23 قيد الإنشاء، وحصلت 36 شركة إماراتية على التراخيص اللازمة للعمل، وهي في مرحلة التجهيز. وهو ما يعني أن ثمة مشروعات لا تزال قائة وأخرى مخطط لها، تخضع لحسابات السياسة أيضًا.
وفي إطار هذا التزايد الاستثماري وقعت إثيوبيا والإمارات اتفاقية تعزيز وحماية الاستثمار المتبادل، وتهدف لتوفير الحماية للمستثمرين الإماراتيين وتسمح لهم بالانخراط في مختلف القطاعات الإثيوبية من دون خوف من أي إجراءات مستقبلية تهدد استثماراتهم.
الاستثمارات السعودية
وتعد المملكة العربية السعودية من أهم المستثمرين في إثيوبيا فقد تجاوز عدد المشاريع 295 مشروعًا، بحجم استثمارات قدرها القنصل العام الإثيوبي في جدة مروان بدري بنحو 13 مليار دولار. وبذلك تعد السعودية أهم ثالث مستثمر في القرن الأفريقي. ويوجه 50% من حجم هذه الاستثمارات إلى القطاع الزراعي والحيواني. كما تمتلك السعودية استثمارات هائلة في مزارع البن، الذي تستورد منه الرياض سنوياً أكثر من 80 ألف طن، وهي بذلك تكون ثاني أكبر المستوردين من البن الإثيوبي في العالم.
وتشير إحصائيات رسمية من إثيوبيا، إلى أن السعودية تأتي سادس أكبر شريك تجاري مع أديس أبابا بقيمة إجمالية تبلغ 6 مليارات دولار، كما أن المملكة زادت خلال الأعوام الماضية عمليات إصدار تصاريح العمل للعمالة الإثيوبية في السعودية.
أما على مستوى المشروعات الصناعية، فقد وصل عدد المشاريع السعودية في إثيوبيا لما يزيد على 64 مشروعاً. بالإضافة إلى أن الصندوق السعودي للتنمية قدم تمويلات وقروضًا من أجل الاستثمار في الريف الإثيوبي.
كما تقوم السعودية بتنفيذ خطوط ملاحية مباشرة بين موانئ جيبوتي وجدة؛ وهو ما يسهل عملية التبادل التجاري، ووجود السلع السعودية في سوق منطقة القرن الأفريقي. وفي هذا الصدد قامت قطر باستثمار 500 مليون دولار في سد النهضة المزمع إقامته على النيل.
تمويل سعودي
وفي ديسمبر 2019، أعلنت حكومة آبي أحمد حصولها على قرضين من السعودية بقيمة 140 مليون دولار، لتمويل مشاريع للبنية التحتية والطاقة. وفي عام 2016، وقعت السعودية وإثيوبيا اتفاقية تعاون تجاري واقتصادي وأمني، موّل بموجبه صندوق التنمية السعودي 305 مستثمرين سعوديين و69 شركة سعودية لتطوير الإمكانات الإثيوبية.
أما الملياردير السعودي محمد حسين العمودي، فهو قصة أخرى في التواجد الاستثماري بالبلدين، فهو أكبر المستثمرين بأديس أبابا وممول رئيسي لسد النهضة. وسبق أن أشارت تقارير إلى أن العمودي تبرع بحوالي 88 مليون دولار لسد النهضة عام 2011.
مجلة “فوربس” المتخصصة في الاقتصاد قالت إن العمودي يعتبر أكبر مستثمر فردي بإثيوبيا، كما أن شركته “النجمة السعودية للتنمية الزراعية” زرعت آلاف الأفدنة بمختلف المحاصيل الزراعية التي تعتمد عليها المنطقة في احتياجاتها الغذائية.
والعمودي هو المصدر الرئيس لـ”البن” الذي يزرعه في إثيوبيا ويورده إلى شركة “ستاربكس” العالمية، بالإضافة إلى نبات الشاي إلى الشركة ليبتون، هذا كفيل بتوضيح مدى التداخل الكبير بين الاستثمار والتجارة ومن ثم إسقاط هذا الواقع على السياسة والعلاقات الدولية.
التجارة البينية
وتستورد السعودية من إثيوبيا المواشي الحية واللحوم بإجمالي 47.465 مليون دولار، ومنتجات زراعية بقيمة 13.429 مليون دولار، ومنتجات أخرى بأكثر من 15 مليون دولار.
وباعتبار أن الثروة الحيوانية في السودان وإثيوبيا والصومال، تفوق الربع مليار رأس، رأتها دول الخليج فرصة لتحقيق الأمن الغذائي الخليجي.
ولأن دول الخليج عموما تستهلك منتجات حيوانية بكثرة، فإن إثيوبيا تمتلك ثروة حيوانية هائلة تقدر بـ44 مليون رأس بقر، و32 مليون رأس خراف، و29 مليون ماعز، وهي بذلك في المرتبة الأولى أفريقيًا من حيث امتلاك رؤوس الماشية، والعاشرة على مستوى العالم.
وإزاء الإحصائيات السابقة، فإن البعض يتحدث عن أن إثيوبيا لا تعتبر أن مشكلة سد النهضة بالنسبة لمصر “مشكلة عربية”، بل يذهب البعض للتقليل من جدية العمل العسكري، باعتبار أن الأموال والاستثمارات المنتشرة حول سد النهضة هي أموال عربية.
الحاجة لتواجد مصري
في ظل هذا التحرك الخليجي في منطقة القرن الأفريقي تواجه مصر تحديًا كبيرًا خاصة أن هذه المنطقة تمثل العمق الاستراتيجي لمصر، والتي أهملتها الإدارات السابقة.
وبجانب التحرك الدبلوماسي، يتعين على القاهرة العمل من خلال آليات اقتصادية كنقل الخبرات في مجال البناء والتشييد، خاصة أن هذه المنطقة في احتياج كبير لتطوير البنية التحتية، وتشجيع المستثمرين المصريين على الاستثمار في هذه الدول ذات الاقتصادات الواعدة، وذلك من خلال تقديم التسهيلات لهم.
كما يتعين التنسيق مع السعودية والإمارات للعمل في مشاريع تكاملية إنتاجية مشتركة، واستغلال الميزة النسبية لمصر الخاصة بكثافة العمالة رخيصة الأجر نسبيًا، بالإضافة إلى إسهام مصر ماليًا بنصيب معقول مع الدول الخليجية في المشروعات الاستثمارية الواعدة في دول القرن. كما تستطيع مصر إقامة منطقة لوجستية لتعميق العلاقات التجارية بينها وبين هذه الدول.
دول الخليج وملف سد النهضة
تدرك دول الخليج أن تخليها عن التواجد السياسي والاقتصادي في أفريقا، خاصة منطقة القرن، يعني إقصاءها مقابل تنامي نفوذ الخصوم، لاسيما أن دول كـ تركيا وقطر وهما متنافستان رئيسيتان للإمارات والسعودية يسيران بنهج توسعي في القارة.
في العام 2017، عندما كانت أزمة المقاطعة في أوجها زار رئيس قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثان إثيوبيا، وما بين الحديث عن محاولة قطر وقتها زيادة الحصار على القاهرة، بدا أن الزيارة تنافسًا خليجيًا خليجيًا بغض النظر عن وجود مصر في المعادلة.
وضعت مصر سقفًا مفتوحًا على أي خيارات بشأن ردها على المساس بأمنها المائي، لكنها في الوقت نفسه تدرك طبيعة الأطراف المتضررة من أي خطوة تحمل طابعًا عسكريًا.
هذا تحديدا، كشفه موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، بأن ميزات السد بالنسبة للمستثمرين ليس فقط توليد الكهرباء، بل إن رجال أعمال خليجيين عُرضت عليهم أسهم في الأراضي المحيطة بالخزان، ويعني ذلك أن المنطقة ستكون ذات قيمة مميزة استثماريًا بمجرد ملء مياه الخزان.