ثمة حياة دبت في شريان الحركة الحقوقية المصرية بعد سنوات من التصلب الإجبارية، فقدت معها الحركة ديناميكيتها، إذ شهدت الأيام الأخيرة حراكا كبيرا على المستويين الحكومي والمدني من أجل ترميم الملف الحقوقي، وإصلاح السلبيات التي شابت أداء الحكومة.

هذه الإصلاحات تتمثل في المرونة التي أبدتها الحكومة في مناقشة عوائق تطبيق قانون العمل الأهلي ولائحته التنفيذية، والاستماع كذلك إلى الأصوات المطالبة بغلق قضية التمويل الأجنبي المتهم فيها عدد كبير من المدافعين عن حقوق الإنسان، هذا بالإضافة إلى المناقشة المستمرة لملف الحبس الاحتياطي. هذا بخلاف استبعاد 18 منظمة وجمعية جديدة من قضية التمويل الأجنبي لعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية.

فقبل أيام، بدأت وزارة الخارجية وضع الرتوش الأخيرة على الاستراتيجة الوطنية لحقوق الإنسان، وأمس نظمت بعثة مصر الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف بالتعاون مع وزارتي التضامن الاجتماعي والتعاون الدولي، حلقة نقاشية افتراضية حول الإطار القانوني المنظم لعمل المجتمع المدني في مصر، وهي الجلسات التي شارك فيها مدافعون عن حقوق الإنسان عبر خلالها عن آرائهم وطرحوا توصيتتهم في الملف الحقوقي.

الحلقة النقاشية شارك فيها كل من الدكتورة نيفين القباج وزيرة التضامن الاجتماعي والسيدة الدكتورة رانيا المشاط وزيرة التعاون الدولي، وأدارها السفير الدكتور أحمد إيهاب جمال الدين المندوب الدائم لمصر لدى الأمم المتحدة في جنيف، فضلاً عن مشاركة مجموعة من أبرز ممثلى المجتمع المدني المصري والمجلس القومي لحقوق الإنسان، ووكيل لجنة حقوق الإنسان بمجلس النواب. وحضر الفعالية عدد من رؤساء وممثلي البعثات الدبلوماسية بجنيف، فضلاً عن العديد من المهتمين بالشأن المصري في الدول الغربية.

تناولت الحلقة النقاشية الآفاق التي يوفرها قانون ممارسة العمل الأهلي (رقم 149 لسنة 2019) ولائحته التنفيذية لتعزيز دور المجتمع المدني، وترسيخ استقلاليته في إطار الالتزام بالدستور والتزامات مصر الدولية في مجال حقوق الإنسان، وذلك انطلاقًا من الإيمان بشراكة هذا القطاع المهم للدولة المصرية في مختلف الجهود التنموية، بما في ذلك الدور الهام لمنظمات المجتمع المدني فى تعزيز وحماية حقوق الإنسان بكافة أبعادها، ونشر ثقافة تلك الحقوق في المجتمع، وفى مواجهة الفكر المتطرف، ونشر ثقافة العمل التطوعي.

أوضحت وزيرة التضامن الاجتماعي أن قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلى ولائحته التنفيذية يدشنان لشراكة قوية بين الدولة والقطاع الأهلي، حيث يعكسا التزام الدولة بدعم القطاع الأهلي عبر توفير ضمانات التمتع بالحق في تكوين الجمعيات والمؤسسات الأهلية وتعزيز قدراتها التنظيمية والمالية التي تمكنها من الوفاء بأدوارها على النحو المرجو، فضلاً عن حظر القانون لتوقيع أية عقوبات سالبة للحرية في حالة مخالفة أي حكم من أحكامه.

الوجلسة النقاشية بجنيف

كما استعرضت المزايا التي يوفرها القانون ولائحته التنفيذية للجمعيات والمؤسسات الأهلية سواء على صعيد تسهيل إجراءات تأسيسها بمجرد الإخطار وتوفيق أوضاع الكيانات القائمة، وفق شروط موضوعية شفافة ترتكز إلى المعايير الحقوقية ومبدأي المساواة وسيادة القانون، فضلاً عن التحول الرقمي لكافة الإجراءات، وتيسير أنشطة المنظمات وتوسيع نطاقها وضمان استمراريتها من خلال السماح لها بالقيام بالعديد من الأنشطة التي تعزز مواردها  المالية، بما يحقق الأهداف التي نشأت من أجلها. هذا بالإضافة إلى وعدم حل الجمعيات أو حل مجالس إدارتها إلا بحكم قضائي، وإتاحة الفرصة للمواطنين لتنفيذ مبادرات إجتماعية بما يُزيد من المساحة المتاحة للعمل الأهلي في مصر.

ومن جانبها، أكدت وزيرة التعاون الدولي على حرص الوزارة على مواصلة جهودها في تسهيل الموافقات ودعم الإجراءات الخاصة بالإتفاقيات الدولية، وإستمرار التنسيق والتكامل مع وزارة التضامن الاجتماعي لخلق حوار فعال قائم على الشفافية مع الشركاء الدوليين حول ما تم من إصلاحات في هذا المجال، مشيرة إلى أهمية تواجد المجتمع المدني في الشراكات الدولية التي تعقدها الوزارة مع شركاء التنمية متعددي الأطراف والثنائيين.

وتطرقت مداخلات كل من الدكتورة منى ذو الفقار عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، وعلاء شلبي رئيس “المنظمة العربية لحقوق الإنسان”، ونهاد أبو القمصان رئيسة “المركز المصري لحقوق المرأة”، والمحامي الحقوقي نجاد البرعي إلى المزايا والضمانات التى يوفرها القانون الجديد مقارنةً بالقانون القديم، وأشاروا فى ذات الوقت إلى عدد من الشواغل ذات الصلة بوضع اللائحة التنفيذية موضع التنفيذ لاسيما ما يتعلق بالتمويلات والمنح وإجراءات الترخيص وتوفيق الأوضاع لمختلف المنظمات والكيانات.

وطالب البرعي غلق القضية 173 بشكل نهائي وإسقاط الاتهامات فيها والسماح لكل المتهمين بالسفر والعودة؛ وإسقاط أيه أحكام قد تمنع نشطاء حقوقيين يعملون في الخارج من العودة إلى بلادهم من جديد.

وناشد البرعي، الجهات الحكومية، بالموافقة فورا على كل طلبات توفيق الأوضاع التي قدمتها مؤسسات حقوقية معروفة وذات مصداقية، إلى جانب إطلاق سراح النشطاء الحقوقيين المحبوسين احتياطيا بما يعزز من مناخ الثقة ويشجع المنظمات الحقوقية على أن تتقدم للعمل تحت مظلة القانون واستئناف كفاحها من أجل حرية المجتمع المدني من داخله.

ومن النقاط التي تحدث عنها البرعي، إشراك الاتحادات النوعية والإقليمية والنشطاء الحقوقيين المهتمين بحرية التجمع والتنظيم في أي آلية يجرى إقرارها من أجل مراقبة تنفيذ قانون الجمعيات الجديد ولائحته التنفيذية واقتراح ما يجب عمله لجعل تنفيذ القانون يتم بيسر وسهولة، وفي إطار من التعاون البناء بين الحكومة والمنظمات غير الحكومية.

الخروج من النفق المظلم

تتقاطع مناشدات البرعي مع توصيات ورقة “دام” التي قدمت 15 توصية للخروج من النفق المظلم، من بينها تطبيق القانون رقم 149 لسنة 2019 ولائحته التنفيذية، بما يراعي حرية العمل الأهلي في مصر، ويحترم متطلبات الأمن القومي، ويحقق المعايير الدولية لحرية العمل الأهلي.

كما توصي الورقة لمبادرة بإغلاق التحقيقات في القضية 173 لسنة 2011 وفقًا للإجراءات المنصوص عليها قانونيًا بما يضمن رفع حظر السفر المفروض على عدد من المتهمين فيها، ورفع تجميد الأموال المفروض على بعض المنظمات الحقوقية أو قيادات تلك المنظمات، ولتوقف الفوري عن الملاحقة والاستهداف الأمنيين للمنظمات الحقوقية المصرية العاملة في الداخل والمبادرة بإطلاق سراح المحبوسين احتياطيًا من المواطنين/ات على خلفية نشاطهم داخل هذه المنظمات.

حوار منفتح

ومن جهته، أثنى السفير الدكتور أحمد إيهاب جمال الدين المندوب الدائم لمصر لدى الأمم المتحدة في جنيف على الحوار المنفتح والبناء الذى شهدته الحلقة النقاشية، مشيراً إلى أن الحكومة تعتبر منظمات المجتمع المدني شريكاً أساسياً لها في عملية تعزيز وحماية حقوق الإنسان بكافة أبعادها، ومن ثم فهى تحرص على تعزيز التواصل والتنسيق والتشاور معهم.

وأضاف أن المناقشات كشفت أن القانون 149 يترجم الإرادة السياسية والتزام الحكومة المصرية بتحديث وإصلاح الإطار القانوني الذي يحكم أنشطة المجتمع المدني في مصر، ويعكس جهداً حقيقياً لخلق بيئة عامة مواتية تساعد على بناء دولة مدنية حديثة. وأشار إلى أن القانون الجديد سعى إلى إزالة أي معوقات ومعالجة المشاكل والقضايا المرتبطة بتنفيذ القانون القديم بهدف تحقيق الاختراق النوعي المنشود، وفتح صفحة جديدة من الشراكة البناءة بين الحكومة من جهة والمجتمع المدني بكافة مكوناته من جهة أخرى.

واستطرد مندوب مصر الدائم أن الحكومة أكدت خلال مناقشات الندوة أنها ستراقب، بمساعدة المجتمع المدني والبرلمان، خطوات التنفيذ وستفتح قنوات اتصال معهم للتعرف على ملاحظاتهم وللرد على أي شكاوى أو طلبات إيضاح ومعالجتها على الفور، بالإضافة إلى توفير بناء القدرات والخدمات الاستشارية المختلفة للمؤسسات الأهلية.

وأبرز جمال الدين أن الدولة تشهد بداية مرحلة جديدة للتخطيط الإستراتيجي فى مجال تعزيز حقوق الإنسان من خلال تكثيف الجهود للإنتهاء من إعداد أول إستراتيجية وطنية لحقوق الإنسان، تم إتباع نهج تشاوري موسع فى إطار عملية الإعداد لها شمل عقد عدة جلسات استماع موسعة مع ممثلي المجتمع المدنى.

مبادرات حقوقية

غلق القضية 173 وإيقاف ملاحقة المدافعين حقوق الإنسان كان أحد المطالب الحاضرة في قائمة المطالب السبعة التي طرحتها  5 منظمات غير حكومية للتنفيذ فور من أجل وقف ما أسموه “تدهور الوضع الحقوقي في مصر”.

ما هي القضية 173؟

لسنوات طويلة، ظلت القضية 173 بئرا كبيرا تٌسقط فيه الحكومة كل من يشتبه في حصوله على تمويل أجنبي لممارسة عمل سياسي، سواء كان تحت غطاء حقوقي أو تنموي. لذا كانت إثارة القضية من حين لآخر بقرار إحالة أو منع من السفر والتصرف في الأموال دلالة نقيس بها درجة تفهم الحكومة ومدى توجسها  من تحركات العاملين في المجتمع المدني.

بدأت وقائع هذه القضية منذ يوليو 2011، حين قررت الحكومة فتح ملف تمويل منظمات المجتمع المدني، من خلال تشكيل لجنة لتقصي الحقائق للنظر في التمويل الأجنبي.

وفي يونيو 2013، حكمت إحدى محاكم الجنايات بالقاهرة على 43 من العاملين المصريين والأجانب في بعض المنظمات الأجنبية بالسجن لمدد تتراوح بين سنة و5 سنوات. أما العاملين المصريين الذين ظلوا داخل البلاد فقد حصلوا على أحكام بالسجن لمدة عام واحد مع وقف التنفيذ.

كما أمرت المحكمة بإغلاق المنظمات المعنية، وهي المعهد الجمهوري الدولي، والمعهد القومي الديمقراطي، وفريدم هاوس، والمركز الدولي للصحافة، ومؤسسة كونراد أديناور.

عودة فتح القضية من جديد

أعيد فتح هذه القضية مرة أخرى في 2016، حيث أدرج عدد من المحامين الحقوقيين ضمن قوائم الممنوعين من السفر ومنعهم من التصرف في أموالهم، استنادا إلى تحريات أمنية بأن نشاطهم  يضر بالأمن الوطني.

شملت القائمة أسماء بارزة مثل  جمال عيد، مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، وحسام بهجت، مؤسس المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومحمد زارع، مدير  مؤسسة القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، وهدى عبد الوهاب، المديرة التنفيذية للمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة.

وتضمنت القائمة: ومزن حسن، المديرة التنفيذية لـنظرة للدراسات النسوية، وناصر أمين، مؤسس المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، ورضا الدنبوقي المدير التنفيذي لمركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية، وإسراء عبد الفتاح، مديرة المعهد المصري الديمقراطي، وحسام الدين علي وأحمد غنيم وباسم سمير، من المعهد المصري الديمقراطي.

قائمة المطالب السبعة

يقول حسام بهجت، المدير التنفيذي للمبادرة المصرية للحقوق الشخصبة، إنه منفتح الآن على كل الأفكار ويرحب بفتح قنوات التواصل مع الحكومة للاستماع لأية مقترحات، مشيرا إلى استعدادهم ليس فقط للنقاش ولكن لاقتراح آليات تنفيذية لتحقيقها بل والمساعدة في تنفيذها. أما الشيء الوحيد غير المطروح للنقاش على لائحة بهجت هو المطالب نفسها لأهم يعتبرونها الحد الأدنى بالفعل من الخطوات المطلوبة.

مجموعة الحوار الدولي

سبق هذا التحرك مبادرة اخرى أطلقها النائب السابق محمد أنور السادات في نهاية مارس لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع المدني.

مبادرة السادات التي جاءت تحت شعار لأجل الوطن “بالمنطق والحكمة.. وبالدليل والبرهان”، وعرفها بأنها “مبادرة مصرية تقوم بجهود وطنية مخلصة تضم عددًا من ممثلي الأحزاب والمجتمع المدني، وأعضاء من مجلسي النواب والشيوخ مهتمين بقضايا الوطن في السياسة والاقتصاد والحقوق والحريات”.

وأكد السادات أن المبادرة اجتهاد من مجموعة تمثل أطيافا سياسية ومجتمعية بدأت في التشاور منذ نحو شهرين، المهتمين بالتقارير الحقوقية الخاصة بمصر وقضية الحريات، وتسير جهودهم بالتوازي مع جهود الدول، وتهدف لبناء جسور الثقة مع الشركاء والأصدقاء الدوليين في كل القضايا والموضوعات محل الجدل والخلاف.

وأشار السادات إلى أن المبادرة لاقت ترحيبا من قبل أجهزة الدولة، وهذا أمر مهم وباعث على الأمل، نظرا لأن الأطراف المشاركة ضمن المبادرة ينتمون إلى جهات مختلفة.