عندما وصف هيردوت مصر بأنها هبة النيل كان يعي أهمية النيل كشريان الحياة الرئيسي لمصر والمصريين. لكن الآن أصبح النيل في خطر ومستقبل الحياة في مصر كلها علي المحك.
تبلغ إجمالي احتياجات مصر المائية الحالية حوالي 110 مليارات متر مكعب من المياه سنويًا. وتستورد مصر مياهًا افتراضية (في شكل منتجات غذائية وحيوانية) بـ30 مليار متر مكعب سنويًا (وهي كمية المياه التي يحتاجها إنتاج تلك المنتجات في حال زراعتها في مصر). ويبلغ إجمالي الاحتياجيات المائية بعد استبعاد المياه الافتراضية التي يتم استيرادها، حوالي 80 مليار متر مكعب سنويًا.
اقرأ أيضًا.. أصابع إسرائيل تعبث في منابع النيل| حكايات مما وراء السد (4)
موارد مصر المائية
تغطي مصر احتياجاتها المائية كالتالي: حصة مصر من مياه النيل 55.5 مليار م3 من النيل، و8.4 مليار م3 من المياه الجوفية، و 7.5 مليار م3، من إعادة استخدام مياه الصرف الزراعي، الوفر الناتج من برامج تطوير الري وتحلية المياه 1.5 مليار م3، الخزان الجوفي بالصحراء الغربية والشرقية وسيناء 3.6 مليار م3، مياه صرف صحي وصناعي معالجة 2.4 مليار م3، مياه أمطار على الساحل الشمالي ومياه السيول 1.3 مليار م3. (ضياء الدين القوصي – جدلية الأمن والتنمية في حوض النيل الرؤية المصرية – مجلة أوراق الشرق الأوسط – العدد 46 – 2009م – صفحة 56) لذلك تمثل مياه نهر النيل معظم الموارد المائية السطحية وتنبع مياه نهر النيل من الهضبة الأثيوبية والتي تمثل حوالي 85% من إيرادات نهر النيل.
الاستخدامات المائية
يمثل قطاع الزراعة أكبر مستخدم للمياه في مصر، حيث تبلغ احتياجات قطاع الزراعة حوالي 75% من إجمالي الاحتياجات المائية (قطاعات الزراعة والشرب والصناعة) وبما يعادل 61.4 مليار م3. ووصلت كميات مياه الشرب المنتجة عام 2015 إلى حوالي 10.6 مليارات م3، وتتضمن هذه الكمية نسبة من مياه الصناعات الصغيرة والمتوسطة المنتشرة بالمدن والقرى والتي تقدر بحوالي من 15 إلى 30% من مياه الشرب المنتجة.
كما تقدر احتياجات قطاع الصناعة (دون الأخذ في الاعتبار مياه التبريد المستخدمة في محطات توليد الكهرباء) بحوالي 5.40 مليار م3 عام 2015. ويحصل القطاع الصناعي على نسبة تتراوح ما بين 15- 30% من شبكات مياه الشرب من جملة استخدامات القطاع الصناعي والباقي من النيل وشبكة الترع والآبار الجوفية.( وزارة الموارد المائية والري – استراتيجية تنمية وإدارة الموارد المائية حتى عام 2050 – ديسمبر 2016).
تحصل مصر على حصة ثابتة من مياه النيل تبلغ 55.5 مليار م3 من المياه لذلك تعتمد على استيراد جزء رئيسي من احتياجاتها الغذائية من الخارج ورغم ذلك تعاني مصر من فجوة مائية تبلغ 30 مليار م3. علمًا بأن عدد سكان مصر عام 1959 عند توقيع اتفاقية توزيع حصص مياه النيل كان 20 مليون نسمة أي أن نصيب الفرد تجاوز وقتها الـ2000 متر مكعب سنويًا وانخفض إلى 1138 متر مكعب سنويًا عام 1986 ثم بلغ 860 متر مكعب سنويًا عام 2003.
بينما تقدر تقارير الأمم المتحدة خط الفقر المائي بـ1000 متر مكعب من المياه سنويًا للفرد، ويقدر حد الندرة المائية بـ500 متر مكعب للفرد سنويًا. بينما المتوقع وصول نصيب الفرد إلى 582 متر مكعب سنويًا عام 2025. بفرض ثبات حصة مصر من مياه النيل. ورغم وصول عدد سكان مصر إلي 101.4 مليون نسمة في أول يناير 2021.
لذلك إذا أرادت مصر الحفاظ على خط الفقر المائي للمصريين عند 1000 متر مكعب سنويًا وليس 2000 متر مكعب سنويًا كما كان عليه الوضع عام 1959 فإنها تحتاج إلى 101.4 مليار متر مكعب سنويًا وليس 55.5 مليار كما هو الوضع حاليًا. وبذلك يكون لدينا عجز يقدر بحوالي 45.9 مليار متر مكعب سنويًا. ذلك إذا كنا نريد خطة احتياجات متواضعة عند خط الفقر المائي. لكن الكارثة الكبرى هي إنشاء سد النهضة بحجمه الحالي والذي تؤكد كل التقارير والدراسات تأثيره على حصة مصر من مياه النيل والتي يمكن أن تنخفض.
سيناريوهات سوداء لنتائج استكمال بناء سد النهضة وتعبئته
يوجد عدد من الدراسات العلمية التي حاولت وضع سيناريوهات لتخفيض حصة مصر من مياه النيل في ظل استكمال بناء سد النهضة الإثيوبي بهذا الحجم.
توصلت إحدى هذه الدراسات التي أعدها أساتذة بجامعة الإسكندرية إلى 3 سيناريوهات وفقًا لفترات ملء الخزان وقدرت نقص المياه من 5.6 مليار م3 إلى 18.8 مليار م3 سنويًا. وأوضحت تلك السيناريوهات أن هناك العديد من من الأثار السلبية لسد النهضة على مصر تتدرج شدتها وفقًا لفترة ملء الخزان حيث تبدأ بخسائر من الممكن تحمل جزء منها إلى خسائر كارثية لا يتحملها الاقتصاد المصري ومنها:
السيناريو الأول
– خفض حصة مصر المائية بحوالي 5.6 مليار متر مكعب سنويًا فقط من 55,5 مليار م3 إلى حوالي 49,95 مليار م3، ويؤدي ذلك إلى انخفاض نصيب الفرد من الموارد المائية إلى حوالي 744 م3 سنويًا، وانخفاض كمية المياه المستخدمة للزراعة من حوالي – 61,4 مليار م3 إلى حوالي 57,14 مليار م3 بمقدار عجز قُدر بحوالي 4,26 مليار م 3.
– انخفاض كمية المياه الموجهة للقطاع المنزلي من حوالي 10,7 مليار م 3 إلى حوالي 9,96 مليار م 3 بمقدار عجز قُدر بحوالي 0,74 مليار م3 وفقًا للسيناريو الأول.
السيناريو الثاني
– خفض حصة مصر المائية بحوالي 9.2 مليار متر مكعب سنويًا فقط، بما يؤدي إلى انخفاض نصيب الفرد من الموارد المائية إلى حوالي 707 م3، انخفاض كمية المياه المستخدمة في الزراعة إلى حوالي 54,3 مليار م3 بمقدار عجز قُدر بحوالي 7,1 مليار م3.
– انخفاض كمية المياه الموجهة للقطاع المنزلي إلي حوالي 9,46 مليار م3 بمقدار عجز قُدر بحوالي 1,24 مليار م3 وفقًا
للسيناريو الثاني.
السيناريو الثالث
– خفض حصة مصر المائية بحوالي 18.8 مليار متر مكعب سنويًا فقط إلى حوالي 36,75 مليار م3 أي بما يؤدي إلى انخفاض نصيب الفرد من الموارد المائية إلى حوالي 612 م3، انخفاض كمية المياه المستخدمة للزراعة بمقدار عجز قُدر بحوالي 14,39 مليار م3.
– انخفاض كمية المياه الموجهة للقطاع المنزلي من حوالي 8,19 مليار م3 بمقدار عجز قُدر بحوالي 2,5 مليار م3 وفقًا للسيناريو الثالث.
(محمد حافظ الماحي، ياسمين صلاح عبدالرازق، محمد علي فتح الله – التوجيه الاقتصادي للموارد المائية في الزراعة المصرية في ضوء أزمة سد النهضة – مجلة كلية الزراعة جامعة الإسكندرية – 2020).
أما دراسة مجدي عبدالهادي التي نشرت عام 2019 أكدت أنه رغم وقوع مصر فعليًا ضمن الدول الفقيرة مائيًا، بانخفاض حصة الفرد من المياه فيها تحت المعدل المُعتمد دوليًا للندرة المائية البالغ 1000 متر مكعب للفرد سنويًا، تشير التقديرات لاحتمالية وقوع مصر تحت عجز مائي يبلغ 32 مليار متر مكعب عام 2025، ما يعني تفاقم الوضع المتدهور أصلًا. وافترض حدوت نقص في حصة مصر من مياه النيل تتراوح بين 11.1 مليار م3 و27.8 مليار م3.
تأثير انخفاض الحصص السنوية لمصر في مياه النيل
واعتمد عبدالهادي علي دراسة لاستطلاع آراء مئة من المتخصصين، من مركز البحوث الزراعية والمركز القومي لبحوث المياه ومركز بحوث الصحراء والمركز القومي للبحوث، بشأن الآثار الاقتصادية والاجتماعية العامة لسد النهضة وتأثيرها على الريف المصري، وفقًا لمنهجية تتبع التنبؤ الاجتماعي، التي تعتمد على استنتاج المعطيات حول المسألة موضوع البحث واستطلاع وتحليل اتجاهات آراء المتخصصين حولها، توصل باحثون إلى اتفاق أغلب هؤلاء المتخصصين على أهم الأثار التالية:
1. اتفاق بنسبة تتجاوز 60%: نقص الحصة السنوية من المياه سيؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء وزيادة معدلات الهجرة من الريف إلى الحضر وتغير التركيب المحصولي والأنشطة الاقتصادية لبعض المجتمعات الريفية وبطء النمو الاقتصادي الريفي وزيادة الفجوة الغذائية.
2. اتفاق بنسبة ما بين 40 و60 %: على زيادة مشكلات العمل الزراعي واستنزاف المياه الجوفية والحاجة لبرامج ضمان اجتماعي ريفي وتقلص برامج استصلاح الأراضي وتدهور الصناعات الزراعية والهجرة الريفية للدول العربية وتلوث الغذاء بالمياه الملوثة وانخفاض خصوبة التربة وتحكم إثيوبيا بمياه مصر.
3. اتفاق بنسبة أقل من 40%: على تأثيرات سد النهضة على تبوير الأراضي الزراعية وانخفاض قيمتها الاجتماعية والإضرار بالثروة السمكية وتدهور نوعية الحياة بالريف وانتشار الأمراض المزمنة وضعف التفاعل الاجتماعي والمشاركة وتدهور المستوى التعليمي وتدني مكانة المرأة الريفية.
(مجدي عبدالهادي – سد النهضة بين مصر وإثيوبيا: أبعاد الأزمة والمواجهة – 4 نوفمبر 2019).
الآثار المحتملة لتخفيض حصة مصر من مياه النيل
عددت الدراسات المختلفة أثار سد النهضة على تخفيض حصة مصر من مياه النيل وانعكاسها على مختلف نواحي الحياة في مصر ومنها:
– سيؤدي كل انخفاض بمقدار 4 – 5 مليارات متر مكعب إلى تدمير مليون فدان من الأراضي الزراعية؛ بما يعني خسارة 12% من الإنتاج الزراعي وتشريد مليوني عائلة ريفية، أي ما يربو على 10 ملايين فرد.
– من المُتوقع أن يؤثر كل مليار متر مكعب مياه تفقده مصر بسبب سد النهضة، على إنتاجها من الكهرباء بنسبة 2% تقريبًا.
– تقليل مساحات المحاصيل المُستهلكة للمياه، ومنها محاصيل استراتيجية مثل الأرز وقصب السكر.
– ارتفاع نسبة الملوحة بمساحات واسعة من الأراضي الزراعية وزيادة معدلات التصحر وتعليق كافة مشاريع استصلاح الأراضي والتوسع الزراعي.
– زيادة الفجوة الغذائية المصرية من إجمالي الاحتياجات الغذائية من 55% إلى 75%.
– ارتفاع معدلات تلوث مياه النيل وانخفاض كميات المياه المتدفقة منه للبحر المتوسط، وبالتالي تسرب مياه الأخير لأراضي الدلتا وتجمعات المياه الجوفية.
– تأثر الإنتاج الحيواني والداجني نتيجة نقص الأعلاف ومستلزمات الإنتاج.
– ضعف الثروة السمكية والتنوع البيولوجي في المياه وفي التربة الزراعية.
– ضعف إمكانات الملاحة النهرية والسياحة المرتبطة بها.
– ارتفاع تكاليف المياه؛ بالاضطرار لإنشاء محطات لتحلية المياه في معظم المدن الساحلية.
– ارتفاع كمية وقيمة الواردات الغذائية والأعلاف لسد العجز نتيجة الانخفاض المتوقع لمساحات المحاصيل وانخفاض الصادرات نتيجة الانخفاض المتوقع في مساحة المحاصيل التصديرية وما يترتب عليه من عجز في النقد الأجنبي ما يؤثر سلبًا على الميزان التجاري المصري.
– انخفاض الدخل القومي وتدهور مستويات المعيشة بسبب تراجع الإنتاج الزراعي والتنمية الريفية وبرامج مكافحة الفقر.
لذلك فإن أي تخفيض في حصة مصر من مياه النيل سينعكس علي مختلف نواحي الحياة والزراعة والثروة الحيوانية والداجنة والسمكية إضافة إلى تبوير الأرض الزراعية وفقدان ملايين المصريين العاملين في الزراعة لمصدر دخلهم وتغير كامل للحياة في الريف المصري الذي يسكنه أكثر من 57% من السكان.
هذه هي بعض النتائج المتوقعة من تخفيض كميات المياه الواردة لمصر من نهر النيل نتيجة إنشاء سد النهضة الأثيوبي وتفاقم العجز والفقر المائي.