يمثل توماس هوبز، الذي قدمت قراءة مختصرة لفكره السياسي في المقال السابق، نقطة بداية ضرورية لاستعراض وفهم الفكر والنظرية السياسيين في عصرنا الحديث. بصفة خاصة فتح هوبز الطريق أمام تشكل المدرسة الليبرالية في الفكر السياسي، أو بعبارة أدق صورة أولى منها هي ما يسميه جورج كلوسكو في كتابه “تاريخ النظرية السياسية” بالليبرالية الكلاسيكية، والتي يعرف لها خمس عناصر محورية هي: محورية وأسبقية الفرد؛ النظر إلى المجتمع على أنه لا شيء أكثر من مجموعة من الأفراد؛ النظر إلى السياسة على أنها “أداتية” بمعنى أنها وسيلة لتحقيق غاية؛ وظيفة الدولة هي حماية حقوق الأفراد، ووظائفها محدودة فيما تقوم به مؤسسات الشرطة والقضاء والسجون والمؤسسة العسكرية؛ مفهوم “الحرية السلبية”، أي غياب تدخل الآخرين وبخاصة الحكومة لقسر الفرد على ما يخالف إرادته.

اقرأ أيضًا.. نحو تجديد الفكر السياسي| ليفياثان هوبز: الوحش ذو السلطات المطلقة (2)

بقدر ما، يمكننا أن نرى أن الفكر السياسي لهوبز ينطوي على هذه العناصر، مما يجعله أحد منظري الليبرالية الكلاسيكية، وفي هذه الحالة، يصبح بالتأكيد الرائد الأول لهذه المدرسة. بصفة خاصة، كان لهوبز الريادة في تأكيده على أسبقية الفرد على المجتمع والدولة، والمقصود هنا هو أن الفرد يوجد، وتكون له مصالحه وأهدافه، قبل دخوله إلى المجتمع، وقبل قبوله الانصياع لحكم الدولة. هذه الفكرة، التي تبدو بسيطة واعتيادية، كانت في الحقيقة في عصر هوبز جديدة وثورية، في الوقت الذي بدأت فيه أوروبا للتو الانسلاخ من ماضيها الإقطاعي، والذي كانت فيه الجماعات المناطقية أو الحرفية أو الطبقية سابقة على الأفراد، الذين كانت تتحدد مصالحهم وأهدافهم بمصالح وأهداف جماعاتهم، ومن ثم فما كان يشكل المجتمع في ذهن المنظرين السياسيين، في العصور الوسطى، هو هذه الجماعات وليس أفرادها. أسبقية الفرد، بهذا المعنى، إذن هي إسهام هوبز الذي يجعل منه رائدًا للمدرسة الليبرالية الكلاسيكية. ولكن بالرغم من مقدمات هوبز المنطقية في أعماله، التي احتوت على هذه العناصر، فإن الاستنتاج الذي وصل إليه، وهو تحديدا ضرورة أن يكون من يمارس السيادة غير مقيد بأي شكل، يخرج عن المسار العام لجميع من أتوا بعده من منظري الليبرالية الكلاسيكية، فجميعهم آمن بضرورة وجود ضوابط وقيود لممارسة السيادة. بشكل أوضح، بينما آمن هوبز بأن الدولة ضرورية لتحرير الفرد من القسر الذي يمكن أن يمارسه عليه الآخرون، في حالة الفوضى الطبيعية وغياب السيادة، فقد آمن بقية منظري الليبرالية الكلاسيكية، إضافة إلى ذلك، بضرورة تحرير الفرد من القسر الذي يمكن أن تمارسه عليه دولة/سيادة غير مقيدة.

أحداث الثورة الفرنسية

ولكننا لا ينبغي أن نصدر حكما ظالما على هوبز، وهو ما قد نقع فيه إذا ما نظرنا إلى موقفه هذا معلقا في الفراغ النظري، وخارج سياقه التاريخي. في نهاية المطاف كان البرلمان هو أداة تقييد السيادة، الممثلة حينها في شخص الملك. هذا البرلمان، في رأي هويز، وهو رأي صائب إلى حد كبير، كانت تقوده، في مواجهته ضد الملك، المصالح الفئوية (الدينية في الظاهر والسياسية والطبقية أيضا). كما أن المواجهة تصاعدت لتصبح صراعا عسكريا وحربا أهلية مزقت ممالك بريطانيا وأحدثت بها خرابا كبيرا. ولا يمكن القول بأن هوبز في نظريته حول السيادة غير المقيدة، كان تحديدا يدافع عن أحقية خاصة للملك في ممارستها. في الواقع، عند هوبز ليس ثمة فرد بعينه أو جماعة محددة هو أو هي الأحق بممارسة السيادة، ومن ثم فقد ارتضى هوبز العودة إلى إنجلترا ليحيا في ظل الحكم الجمهوري قبل استعادة ملكية أسرة ستيوارت. في اعتقاد هوبز لم يكن ثمة ما يضمن ألا تتحول أدوات تقييد السيادة المطلقة إلى عوامل لتقويض هذه السيادة بشكل كامل، ومن ثم السقوط في الفوضى التي كانت بالنسبة لهوبز واقعا مخيفا ماثلا في تجربته المعاشة. للسياق التاريخي أثر حاسم في تشكل أفكار هوبز وكذلك في نشأة أفكار من اختلفوا معه، وذلك ما سنراه واضحا في أفكار جون لوك الذي لم يعش بأي حال في زمن بعيد عن هوبز، فقد ولد بعده بأكثر قليلا من أربعة عقود، وكلاهما عاصر الآخر معظم حياته، ولكن العقود الأربعة كانت حاسمة في تجربة كل منهما كرجل ناضج ومنخرط في تفاصيل سياسة بلدهما الذي شهد تحولات كبيرة خلال ذلك القرن المضطرب.

جون لوك

في بداية حديثه عن حياة جون لوك، يقول مارك جولدي:
عندما ولد لوك، في 1632، كانت جامعات إنجلترا يهيمن عليها المدرسية الأرسطية، وكتابها ملزمون بتسليم كتبهم للرقيب، شعبها يحكمه ملك قد توقف عن دعوة البرلمانات، ومؤمنوها يعاقبون إذا لم يلتزموا بالكنيسة الرسمية. وعندما مات، في 1704، كان لإنجلترا امبراطورية مزدهرة في أمريكا وعبر المحيطات، وكانت جيوشها تسحق القوة القارية [الأوروبية] العظمى، فرنسا، ونظامها ملكي برلماني، وجامعاتها تتصالح مع كتاب نيوتن المبادئ، ومقاهيها تموج بالكتب غير المراقبة، والبروتستانت الثالوتيين يمكنهم التعبد كيفما شاؤوا.

ثمة العديد من أوجه الشبه والتناظر بين سيرة كل من لوك وهوبز. مثل الأخير ولد لوك لأسرة متواضعة القدر. والده المحامي والموظف وصاحب ملكية متواضعة، قاتل إلى جانب البرلمانيين في الحرب الأهلية، ضد الملك. ومن خلال معارفه من الضباط النبلاء توفرت لابنه فرص تعلم غير معتادة لمن هم في نفس وضعه، ومن ثم تلقى لوك تعليمه في أوكسفور، مثل هوبز، ويبدو أنه كره الجامعة التفليدية أيضًا وإن كان أكثر تحفظا في التعبير عن هذه الكراهية. عاصر لوك في مراهقته ومطلع شبابه وقائع الحرب الأهلية، وشهد محاكمة تشارلز الأول وإعدامه، ثم شهد استعادة الملكية بعد وفاة أوليفر كرومويل والفوضى التي تلتها. ولكنه مثل هوبز أتيح له أن يشهد عن كثب بل وأن يشارك في أحداث مصيرية تالية من خلال التحاقه بخدمة أحد كبار النبلاء.

جون لوك

في عام 1666 التقى لوك بإيرل شافتسبري، الذي كان حينها مستشارا لأحد وزراء الملك الرئيسيين، وفي العام التالي التحق بخدمته، وظل وفيا له وشريكا في كل مبادراته ومغامراته السياسية التي بلغ بعضها حد التآمر والخيانة حتى وفاة الإيرل، وحتى بعد ذلك. علاقة لوك بشافتسبري كانت نقطة تحول رئيسية في حياته وربما ندين لها بما قدمه لوك لاحقا للفكر السياسي. شافتسيري كان أحد هؤلاء النبلاء الذين شعروا بالقلق العميق لإصرار تشارلز الثاني على توريث أخيه جيمس الثاني العرش من بعده رغم كون الأخير كاثوليكيا. ما خشيه هؤلاء هو أن يحاول جيمس الثاني قسر الإنجليز على العودة إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية بالقوة، ومن ثم فقد حاولوا بشتى السبل استبعاد جيمس من وراثة العرش.

انخراط لوك في العمل المناوئ لحكم تشارلز الثاني الذي قاده تشافتسبري مع رفاقه كان وراء أعماله في النظرية السياسية والتي دافعت عن تصورات هذه المجموعة من النبلاء في مواجهة الملكيين والمدافعين عن الحق الإلهي للملوك. ومثل هوبز اضطر لوك إلى الفرار إلى المنفى الاختياري خارج إنجلترا، في الوقت الذي اعتلى فيه جيمس الثاني العرش. ولكن لوك عاد مرة أخرى بعد عزل جيمس تحت ضغط غزو عسكري هولندي انتهى بتسليم عرش إنجلترا في 1688 لويليام أوف أورانج الحاكم الفعلي لجمهورية هولندا الأوليجاركية والذي كان زوجا لماري الثانية كبرى بنات جيمس الثاني. وفي العام التالي فور عودته إلى إنجلترا نشر لوك عمله الأهم “مقالان في الحكومة”.

قانون الطبيعة

العمل الرئيسي في النظرية السياسية لجون لوك هو “مقالان عن الحكومة”. صدر “المقالان” لأول مرة في حياة لوك، عام 1689، دون اسمه عليه، وأبقى لوك نسبة العمل إليه سرا حتى وفاته. ولم يعترف بأنه كاتبه إلا في ملحق بوصيته كتبه قبل وفاته عام 1704 بشهور قليلة. كانت تلك هي المرة الثالثة التي يذكر فيها لوك اسم كتابه في وثيقة ما. في المرتين الأولى والثانية ذكر لوك كتابه على أنه لكاتب آخر ولكنه مع ذلك أوصى من خاطبهم بقراءته، وفي إحدى المرات قارنه بكتاب “السياسة” لأرسطو، وفي الواقع أثبتت العقود التالية أن لوك لم يكن مبالغا كثيرا في تقديره لأهمية كتابه. فقط كان لأفكار لوك التي قدمها من خلال “المقالين” أثرا قلما كان لكتاب آخر. كانت أفكار لوك عن الحق في الثورة على الحاكم الطاغية، وعن أن شرعية أي حكم تقوم فقط على رضا محكومين أحرار، متساوين، عاقلين وعقلانيين، عاملا مؤثرا في عقول من قادوا حرب الاستقلال الأمريكية، والثورة الفرنسية، وثورات أخرى عديدة حول العالم.

ينتمي لوك إلى هذه السلسلة من المفكرين السياسيين الذين طوروا صورا مختلفة لنظرية العقد الاجتماعي. مثل هؤلاء جميعا يؤسس لوك لشرعية الحكم بداية بافتراض حالة طبيعية سابقة على التنظيم السياسي للمجتمع. على خلاف هوبز الذي يرى هذه الحالة الطبيعية هي حالة من الفوضى وحرب الكل ضد الكل، وبمعنى آخر هي حالة من غياب القانون طالما أن فرض القانون يتطلب ممارسة شخص أو جماعة للسيادة في المجتمع، فإن لوك يرى أن حال الطبيعة يحكمها قانون طبيعي هو جزء من قانون الله. بالرغم من أن لوك يعتبر أن الله هو مصدر القانون الطبيعي، فمفهوم هذا القانون يختلف عن مفهوم القانون الإلهي، فالقانون الطبيعي يكشف عن نفسه في نظام الطبيعة ويمكن لكل إنسان عاقل أن يستشفه بنفسه بواسطة عقله الطبيعي، الذي وهبه الخالق للبشر جميعا بشكل متساو. أما القانون الإلهي فيعرفه البشر عن طريق الوحي فقط ويتمثل في الشرائع الدينية.

ليس لحال الطبيعة عند لوك قانون فقط بل إن هذا القانون هو مصدر الحقوق الأساسية للبشر، وفي كلماته:
إن لحال الطبيعة قانون للطبيعة يحكمها، وهو ملزم لكل شخص: والعقل، الذي هو ذلك القانون، يعلم كل البشر، الذين عليهم فقط العودة إليه، أن لكونهم متساوين ومستقلين، فلا ينبغي لأحد أن يؤذي الآخر في حياته، صحته، حريته، أو ممتلكاته.

مصدر المساواة بين البشر عند لوك هو أنهم جميعا مخلوقات لله، ومن ثم فالله وحده له تلك السيادة التي بموجبها يفرض قوانيه (قانون الطبيعة، والقانون الإلهي) على جميع مخلوقاته، أما البشر أنفسهم فليس لأحدهم مثل هذا الحق في السيادة على الآخرين:

لا يمكن أن يكون ثمة افتراض لمثل ذلك الخضوع بيننا، الذي يمكن أن يشرع لنا أن ندمر بعضنا البعض، كما لو كنا قد خلقنا لاستخدام بعضنا لبعض، كما خلقت الكائنات الأدنى منزلة لنستخدمها.

 

إن لوك في الواقع على العكس من هوبز يعتبر حال الحرب غير طبيعية، بل هي خروج عن العقل الطبيعي، وينقل جون رولز عن لوك أنه:
يتحدث … عمن يضع نفسه في حالة حرب مع آخر على أنه قد “تخلى عن العقل، الذي أنعم الله به ليكون القاعدة بين الرجل والآخر، والرابطة المشتركة التي بها يتوحد البشر في أخوية ومجتمع واحد.

في حال الطبيعة كما يراها لوك يتحد البشر في جماعة واحدة في ظل القانون الطبيعي، ولولا فساد وشرور بعض البشر لما دعت الحاجة إلى أن تنقسم هذه الجماعة الواحدة إلى مجتمعات لكل منها سلطتها وقوانينها، ولكن لوك يعتقد أن قانون الطبيعة يظل ساريا في هذه المجتمعات وله الأولوية على قوانينها الوضعية، وينبغي أن يكون هو أساس هذه القوانين حتى تكون عادلة وشرعية. قوانين المجتمع، عند لوك، أي تلك التي تتأسس على قانون الطبيعة، ومن ثم تكون شرعية وعادلة؛ لا تحد من حرية البشر، بل على العكس، تجعلها ممكنة في الأساس، وتوسع من نطاقها:

حيث أن القانون، في فكرته الحقيقية، ليس هو التقييد بقدر ما هو التوجيه لفاعل حر وذكي إلى مصلحته الملائمة، وهو لا يفرض ما هو أبعد مما هو في الصالح العام لمن هم مؤتمرون به. وإن أمكن أن يكونوا أسعد بدونه، فهذا القانون، كشيء بلا نفع سيختفي تلقائيا … إن غاية القانون ليست إلغاء أو تقييد، بل حفظ وتوسيع الحرية … حيث لا يوجد قانون، لا توجد حرية. لأن الحرية هي أن تتحرر من قيد وعنف الآخرين وهو ما لا يمكن أن يكون لو لم يكن ثمة قانون.

عقد لوك الاجتماعي

كتب لوك مقالتيه عن الحكومة دفاعا عن موقف الويجز Whigs في صراعهم ضد تشارلز الثاني في أزمة استبعاد أخيه جيمس الثاني من وراثة العرش. نتيجة لأن المقالتين لم تنشرا إلا في عام 1689، بعد انتصار الويجز ونجاح ما سمي حينها بالثورة العظيمة (Glorious Revolution 1688)، فقد ساد الاعتقاد في أن لوك قد كتبهما تبريرا لهذه الثورة بعد وقوعها، ولكن الدراسات الحديثة أوضحت أن أغلب المقالة الثانية قد كتبه لوك في عامي 1679 و1680، ثم أضاف فصولا أخرى في عامي 1681 و1683، وأخيرا قام ببعض الإضافات قبل نشر المقالتين في عام 1689. هذه التفصيلة التاريخية التي يبدو أنها لا تهم إلا المتخصصين لها على العكس أهمية كبيرة في كونها تضع أفكار لوك في المقالتين ليس في سياق تبرير وصول ملك ما إلى العرش بعد الإطاحة بسلفه، بل تضعها في إطار مقاومة ملك لا يزال على العرش. حق الشعب في مقاومة حاكم طاغية هو تحديدا جوهر عمل لوك، والهدف من أغلب أجزائه هو تقديم أساس منطقي لهذا الحق.

حتى تكون مقاومة الشعب لحكومته القائمة مشروعة، ينبغي أولا أن تسقط الشرعية عن هذه الحكومة. فكرة لوك للوصول إلى إثبات سقوط شرعية نظام الحكم في إنجلترا في عهد تشارلز الثاني تقوم على طرحه أولا أن الملكية المطلقة غير شرعية بالضرورة، وذلك إنطلاقا من مبدأ المساواة بين البشر وأنه لا حق لأي منهم أن يمارس السيادة على غيره دون رضاهم، وحتى في هذه الحالة لا يمكن للسيادة أن تكون مطلقة لأنه في هذه الحالة ليس ثمة ما يحول دون أن يتجاوز صاحب السيادة المطلقة حدود دوره دون رادع. ومن ففي ظل نظام الحكم القائم فعليا حينها في إنجلترا، ينبغي في رأي لوك أن يتقاسم الملك والبرلمان سلطة التشريع دون أن يكون أحدهما أعلى سلطة من الآخر.

وفي حال نشب خلاف بين الطرفين ولم يكن بالإمكان حله، يصبح نظام الحكم نفسه منحلا تلقائيا وتعود السيادة إلى الشعب.

الملك تشارلز الثاني

مفهوم الدستور المختلط مثير للاهتمام في حد ذاته إذا ما لاحظنا أن النظم الرئاسية الحديثة هي بشكل أو بآخر تطبيق له، ولا شك أن اختيار مؤسسي الولايات المتحدة الأمريكية لنظام رئاسي يتقاسم فيه الرئيس والبرلمان سلطة التشريع حيث لا يصدر أي قانون يشرعه البرلمان دون تصديق الرئيس عليه، هو أمر وثيق الصلة بتأثر هؤلاء المؤسسين بأفكار لوك. ولكن الحقيقة أن ما يعنينا هنا هو تأكيد لوك على أنه في حال الطبيعة وأيضا في حال انحلال السلطة القائمة تكون السيادة لأفراد الشعب على التساوي بينهم. وأنه في حال مارس الحاكم سلطة مطلقة أصبح حكمه غير شرعي بشكل تلقائي ويصبح من حق شعبه الثورة عليه. وهذا في تناقض تام مع رفض هوبز لشرعية أي مقاومة لممارس السيادة، وهو ما يعني أن السيادة منوطة بالقوة الكافية لفرضها، وليست منوطة برضا الناس بأي حال.

ولكن الحقيقة أن لوك بينما قدم إيضاحا نظريا لتصوره عن كيفية قيام حكومة ذات سيادة بشكل شرعي على أساس رضا أفراد المجتمع، إلا أنه لا يجيب بشكل عملي عما يمكن أن يحدث في حا انحلال نظام الحكم وعودة السيادة إلى أفراد المجتمع. في الواقع التاريخي الذي عاصره لوك، أزيح جيمس الثاني عن عرشه بواسطة تمرد داخلي وغزو خارجي، دون فعل إيجابي من أفراد الشعب غير المنخرطين في التمرد. وافترض لوك أن ويليام الثالث خليفة جيمس قد حاز رضا الشعب لمجرد أنه لم يثر ضده، أو بعبارة أكثر دقة لم ينجح أي تمرد ضده. ولا يمكننا في هذه الحالة أن نتخلص فعليا من شبح هوبز. في النهاية كانت فكرة هوبز أن السيادة الفعلية تقوم على إيثار الناس، في أغلب الوقت، لأمنهم على أنفسهم وممتلكاتهم على أي دوافع أخرى قد تدفعهم إلى التمرد على حاكم طاغية. وفي حين أن تصور هوبز لعدم مشروعية المقاومة عبثي، لأنه لا يمكن الحيلولة بين ممارسة الشعب لحقه في مقاومة حاكم ظالم إن تخطت رغبته في الإطاحة به خوفه من شبح الفوضى، إلا أن تصور لوك عن الرضا الشعبي هو أيضا ساذج عمليا.

إذا كان هوبز قد طرح علينا سؤال مشروعية الحكم المطلق في مواجهة الفوضى، فلوك يطرح علينا سؤال ماذا بعد الثورة التي لا يمكن تجنبها عاجلا أم آجلا في مواجهة الحاكم المطلق. شبح الفوضى بالتأكيد ليس كافيا طيلة الوقت لفرض حكم مطلق يفتقد إلى شرعية رضا الشعب، ولكنه كثيرا ما يكون كافيا لإجهاض ثورة هذا الشعب ضد هذا الحكم المطلق في منتصف الطريق، مما يجعله يعود ربما أكثر شراسة مما كان عليه سابقا. بطريقة ما يبدو ليفياثان هوبز هو ضمانة الفوضى وليس الضمانة ضدها، بينما تبدو سيادة الشعب عند لوك هي ضمانة عودة الليفياثان طالما لم تكن ثمة آلية للممارسة الفعلية لهذه السيادة ولو من خلال تنصيب صاحب سيادة جديد يتمتع حقا برضا الشعب.