في ظل التطورات التي مرت بها المجتمعات البشرية، فقد استقر علماء القانون الجنائي إلى العقوبات السالبة للحرية، كأنسب عقاب يمكن إحلاله محل العقوبات البدنية التي كانت سائدة في العصور القديمة، ومنذ ذلك الوقت انشغل العلماء بضرورة إعادة النظر في المعاملة العقابية للمحكوم عليه ومراعاة البعد الإنساني في التنفيذ العقابي، حتى يحقق العقاب الفائدة المرجوة منه بإعادة تأهيل المحكوم عليه بإعادة تأهيل المحكوم عليه للعودة مرة أخرى إلى الحياة الاجتماعية ويكون عضوا صالحا في المجتمع، كما أن هدف التأهيل يجب أن ينبني على أسس علمية دقيقة ومحكمة في إطار برنامج تهذيبي كامل، يزود المحكوم عليه بما يحتاج إليه من تربية دينية وتعليمية ومهنية وصحية و نفسية تساعد على إعادة التوازن الذي أخلت به الجريمة المرتكبة وتساعد المحكوم عليه على تقويم اعوجاجه وتنشئة شخصيته على تلك الأسس السابقة.
ومن المعلوم أن نجاح هذا البرنامج يقتضي وقتا كافيا لتطبيقه وتنفيذه داخل السجن وتجنيبه أي ظرف يمكن أن يفسد الغرض منه وهو الإصلاح والتأهيل كشعار للسياسة العقابية الحديثة التي أصبحت ترى في السجن مؤسسة اجتماعية تربوية، لا كمؤسسة للتحفظ على الجاني وإهماله.
وعلى الرغم من أن المؤسسات العقابية التي تنفذ فيها العقوبات قد تسعى إلى توفير بيئة لإصلاح وتأهيل المحكوم عليهم ومراقبة سلوكهم، وهذه البيئة العقابية تختلف جودتها من مجتمع لآخر بحسب نظامه الحاكم ووقواعده القانونية، وكذلك بحسب النظريات العقابية السائدة فيه ليعود المجرمون المعاقبون أكثر صلاحا لمجتمعاتهم دون الخشية من طرقهم أبواب الجريمة وترويع المجتمع مرة أخرى، غير أن هذه التجربة لم تحقق النتائج المرجوة منها كاملة بل في بعض الأحيان أفرزت نتائج عكسية، مما أثار الشكوك حولها في أدائها للغرض المنوط بها، وعن مدى قدرة العقوبة السالبة للحرية على مكافحة الإجرام أو منع الجريمة أو على أقل التقديرات الحد منها، وذلك لعجزها عن تحقيق وظيفة الردع العام والردع الخاص وتحقيق العدالة.
ومن هنا فقد تعرضت العقوبات السالبة للحرية لجملة من الانتقادات بسبب ما آلت إليه من نتائج سلبية تتمثل في مجموعة من النتائج منها ما هو اجتماعي، اقتصادي، ومنها ما هو نفسي وعضوي يمس الشخص المحكوم عليه، وفي هذا الصدد فقد أوصت مجموعة من مؤتمرات الأمم المتحدة الخاصة بشأن الوقاية من الجريمة وعلاج المجرمين بالبحث عن بدائل للحبس تطبق كجزاء للجناة، وسعت الدول إلى تطوير أنظمتها العقابية عبر ترشيد العقاب والبحث عن بدائل للعقوبات السالبة للحرية تضمن تحقيق عدالة متزنة.
وحيث إن تجربة العقوبات السالبة للحرية والواقع العملي أثبتت عجز السجون عن تهيئة الجو الطبيعي لتنفيذ مفردات المعاملة الإصلاحية، فقد اتجه التفكير في بعض البلدان إلى التخفيف من عقوبة الحبس بإنشاء السجون المفتوحة ذات الحراسة الدنيا، كمرحلة انتقالية تهيئ السجين للخروج إلى العالم الخارجي أو إتاحة الفرصة له للاتصال بالعالم الخارجي من خلال السماح للمسجون بأجازة شهرية مشروطة، والسماح للمسجون بزيارة بيئته الطبيعية والتواجد فيها لبعض الوقت وتزايدت الدعوات للحد من استخدام عقوبة الحبس واستبدالها بعقوبات أخرى ذات طبيعة غير سالبة للحرية، وذلك لعدم جدوى أحكام الحبس أو إتاحتها الوقت الكافي لتنفيذ البرامج الإصلاحية التي تضعها إدارات السجون. كما أن عقوبات الحبس القصيرة المدة، أخذت تشكل نسبة كبيرة من مجموع أحكام الحبس الأخرى لذلك فأن اعتماد بدائل غير سالبة للحرية يخفف العبء عن السجون ويمنع انقطاع المحكوم عن ممارسة حياته الاعتيادية في مجتمعه الطبيعي كما ييسر له القيام بإعالة أسرته إضافة لإبعاده عن التأثر بسلبيات السجن.
اقرأ أيضًا.. عقوبة الإعدام بين الحق في الحياة والتشدد في التنفيذ
لكن المشرع المصري لم يزل حتى الآن يستخدم عقوبة الحبس والسجن كأسلوب أو وسيلة وحيدة لمعاقبة الجناة، منتهجاً في ذلك أسلوب أو نظرية الردع كسياسة جنائية، وذلك على الرغم من تغير تلك السياسات على المستوى العالمي، والتوجه نحو استبدال طريقة الردع العقابية بطرق اجتماعية مدروسة تميل إلى إصلاح المتهمين، ومعالجة سلوكهم الإجرامي والتخلي عن العقوبات السالبة للحرية أو على أقل النذر التقديرية محاولة التقليل من كمها، وعدم اللجوء إليها إلا في أضيق النطق أو كأسلوب أخير يمكن الرجوع إليه في الحالات المستعصية، إلى حد أن الأمم المتحدة أصدرت بشأنها مذكرات توجيهية حول الجريمة والعدالة الجنائية، و أدرجت البدائل في عدد من مؤتمرات وتوصيات ومشاريع تنظيمية، وتمت صياغة قواعد الحد الأدنى للبدائل (قواعد طوكيو 1987 ). ومن أشهر البدائل التي طبقت في دول العالم المتقدم الاختبار القضائي، والتعهد بالشرف، والخدمة المجتمعية، والرقابة الإلكترونية، والحبس المنزلي، والغرامة، وتعليق النطق بالحكم، ونظام شبه الحرية، والحرمان من بعض الحقوق، والعمل من أجل تحقيق المصلحة العامة.
وعلى المستوى الدولي فقد عقدت اللجنة الدولية المعنية بالعقوبة والإصلاح الجنائي التابعة للأمم المتحدة منذ عام 1955 حتى الآن ما يزيد عن عشر مؤتمرات دولية، وفي مؤتمرها السادس المنعقد بكركاس سنة 1980، قد اعتمد في توصيته رقم 8 ما نصه” العمل على نشر التدابير البديلة لعقوبة السجن في العالم على نطاق واسع، وذلك بإدخالها ضمن التشريعات الجزائية وإعطاء أجهزة العدالة الجنائية التأهيل اللازم لفهمها وتطبيقها واعتمادها”.
لكن كل هذه المؤتمرات والتوصيات الدولية تغيب عن الواقع المصري بتشريعاته، التي لم تزل تتعمد وتعتمد على السجن كأسلوب عقابي أوحد قد ترافقه عقوبات آخرى لذات الجريمة أهمها الغرامة أو ما يسمى بالعقوبات التبعية أو التكميلية، وأهمها في هذا الرصد هو ما يطلق عليه المراقبة الشرطية كعقوبة تبعية لبعض الجرائم، إذ لم يكتفي المشرع المصري بسلب الحريات المتمثلة في عقوبة السجن أو الحبس، بل يزيدها بمثل تلك العقوبات.
ومن هنا ومن خلال ما سبق فإننا نهيب بالسلطة التشريعية المصرية، سواء كانت السلطة التشريعية الأساسية والمتمثلة في مجلس النواب، أو السلطة التشريعية الفرعية متمثلة في السلطة التنفيذية، بأحوالها الدستورية أن تلتفت انتباهاً إلى ما يسود العالم من تطورات في النظريات العقابية ومحاولة الحد منها أو مسايرة النظريات الاجتماعية الحديثة بخصوص إعادة تأهيل المتهمين ودمجهم مرة جديدة في المجتمع كعناصر صالحة ومفيدة ومنتجة، ولن يتأتى ذلك إلا بمحاولة البعد عن انتهاج أسلوب السجن كوسيلة رادعة للمتهمين، إذ أن تلك السيلة في ظل ظروفنا الاقتصادية المنهكة، إذ إن العقوبة والسجن يرهق المتهم وأسرته ومجتمعه اقتصادياً واجتماعياً قد تؤدي إلى آثار سلبية تنال من أسرة المحكوم عليه جراء تلك العقوبة وخصوصا في حالة سجون المصريين التي لا يغيب عن أحد الوضع التي هي عليه من مساوئ وسلبيات لا تعود بإصلاح على المحبوس.