قضى الأقباط ليلتهم أمس في جدال على مواقع التواصل، بعد تنفيذ الإعدام في وائل سعد تواضروس الراهب السابق “إشعياء المقاري“. وذلك في قضية مقتل الأنبا أبيفانيوس أسقف ورئيس دير أبو مقار، عقب تأييد محكمة النقض الحكم الصادر ضده.
المفاجأة التي تسببت في انقسام الشارع القبطي، لم تكن تنفيذ حكم الإعدام بقدر ما أقدمت عليه إيبارشية أبوتيج. حيث استقبلت جثمان الراهب المشلوح والبسته الزي الكهنوتي، وأقامت له جنازة بإحدى كنائسها، وهو ما اعتبر مخالفة لقرار لجنة شئون الرهبنة في الخامس من أغسطس عام 2018، وقبل إدانته رسميًا بحكم المحكمة. وذلك على خلفية ارتكابه مخالفات رهبانية تسبق جريمة القتل.
الكنسية تجري تحقيقًا
مصادر كنسية أكدت أن الكنيسة أجرت بالفعل تحقيقًا في المخالفات التي شابت الجنازة. باعتبارها مخالفة لقرار لجنة شؤون الأديرة والرهبنة، التي شلحت الراهب الأمر الذى ترتب عليه عودته لاسمه المدني وائل سعد تواضروس. فلم يعد يتمتع بأيِّ صفة رهبانية.
الجدال يتعلق بأخطاء متتالية لإيبارشية أبوتيج تتمثل في وضعه بملابس رهبان، وفتح الصندوق، وإقامة صلاة راهب عليه، وزفة في الكنيسة. ووفقا للمصدر، فإن هذه الإجراءات أوقعت الكنيسة في أزمة قانونية بعد أن خالفت قانون الإجراءات الجنائية في المادة 477 بأن يتم دفن المحكوم عليه بالإعدام بلا أي احتفال.
المخالفة التي ارتكبتها إيبارشية أبوتيج دفعت بعد الأقباط للمطالبة بدفن الراهب السابق المحكوم بالإعدام في الطافوس بدير الأنبا مقار، وهو المدفن المخصص للرهبان المدفون فيه الأنبا ابيفانيوس الذي قتل في تلك القضية، وكأن الطريقة التي تمت بها دفن وائل سعد والاحتفاء به كنسيًا تنفي أية اتهامات أو أحكام قضائية تدينه في قضية قتل للحد الذي دفع البعض للمطالبة بدفن القاتل إلى جوار القتيل وكأن شيئًا لم يحدث
وأمس استقبل البابا تواضروس الثاني، الأنبا اندراوس أسقف أبوتيج، الذي تمت جنازة الراهب المشلوح في إيباراشيته وتحت إشرافه. واكتفى المتحدث الرسمي باسم الكنيسة بالإعلان عن استقبال البابا للأسقف، دون أية تفاصيل إضافية.
القضية التي شغلت الرأي العام القبطي على مدار العامين الماضيين، شكلت نقطة فارقة في تاريخ الكنيسة القبطية المعاصر. فما قبل مقتل الأنبا أبيفانيوس ليس كما بعده باعتباره حدثًا فريدًا لم تشهده الكنيسة العريقة من قبل، حيث قتل رئيس دير على يد راهب بزيه الكهنوتي وبمساعدة راهب آخر، هو فلتاؤس المقاري المحكوم عليه بالمؤبد في القضية نفسها.
الرهبان .. ملائكة أرضيون وبشر سمائيون
تربت العقلية القطبية على أن الرهبان هم ملائكة أرضيون وبشر سمائيون؛ لذلك فمن الصعب على من تربى في نطاق التعاليم الأرثوذكسية أن يتخيل “أبونا” في زيه الكهنوتي وجلبابه الأسود يقدم على جريمة قتل، وأن تتم تلك الجريمة ضد أسقف آخر معروف بتقواه وورعه.
في تلك اللحظة التي عجز فيها قطاع كبير من الأقباط عن تصديق ما جرى، أفرزت مواقع التواصل الاجتماعي شائعات لم تتوقف منذ اليوم الأول في القضية. إذ كانت تعمل بشكل ممنهج وآلي، فمرة تختلق رواية عن صراعات في منطقة وادي النطرون على أراضي الدير. ومرة ثانية تزور بيانا وتنسبه إلى داعش تعلن فيه مسئوليتها عن مقتل الأنبا ابيفانيوس غدرا.
هكذا نمت الشائعات في بيئة مستعدة لتلقي المزيد، بينما وقف البابا تواضروس وحيدًا يواجه ذلك. وهو يؤكد في عظة شهيرة إن يهوذا رغم خيانته كان أحد تلاميذ المسيح، وأن جريمة القتل ارتبطت بهابيل وقابيل كدرس للإنسانية كلها.
دير الأنبا مقار.. علم وأزمات
مرت قضية مقتل الأنبا ابيفانيوس بتتابع زمني من الأحداث الدراماتيكية جعلت منها أشبه برواية امبرتو إيكو الشهيرة (اسم الوردة). خاصة أن حادث القتل لم يكن بعيدًا عن صراع لاهوتي نشأ على أرضية دير الأنبا مقار المصنع الذي خرَّج منه متى المسكين علماء في اللاهوت، وفي العقيدة، يتحدثون أكثر من لسان، ويترجمون الإنجيل عن لغاته الأصلية. بينما وجد إشعياء المقاري وزملائه من الرهبان الذين التحقوا بالدير بعد وفاة القمص متى المسكين أنفسهم في المكان الخطأ. فلا العلم اللاهوتي يؤهلهم للبقاء هناك ولا التزامهم الرهباني يشفع لهم البقاء وسط الدير المعروف برهبنته القاسية والمنضبطة.
البابا شنودة أقدم لأول مرة فى تاريخ الكنيسة الحديث على تغيير “الزي الرهباني” لرهبان الدير “أنبا مقار”، ليتم توحيده مع بقية الأديرة، ليكون بمثابة الإعلان الختامي لانتهاء استقلالية دير “أنبا مقار” عن الكنيسة
روت الصحف واقعة شهيرة عام 2009، بعد وفاة القمص المسكين بثلاث سنوات، حين عقد البابا شنودة زيارة تاريخية للدير. وأقدم لأول مرة فى تاريخ الكنيسة الحديث على تغيير “الزي الرهباني” لرهبان الدير “أنبا مقار”، ليتم توحيده مع بقية الأديرة، ليكون بمثابة الإعلان الختامي لانتهاء استقلالية دير “أنبا مقار” عن الكنيسة. وتم تخيير الرهبان بين ارتداء غطاء الرأس التقليدي “القلنسوة المشقوقة” وبين الإبقاء على ملابسهم. فمنهم من ارتداها فصار تابعًا للبابا شنودة ومنهم من رفض.
استقالة الأنبا ميخائيل
ثم قرر الأنبا ميخائيل مطران أسيوط والرئيس التاريخي للدير الاستقالة من منصبه، إذ قيل وقتها إنه غير مرحب بقرار الكنيسة إنهاء استقلالية هذا الدير إداريًا وفكريًا عنها. وسيطرت الكنيسة على أملاك الدير، ثم على أغلب رهبانه أو أرغمتهم على الخضوع قبل حلول الذكرى الثالثة لرحيل المسكين بشهر.
كانت جميع إصدارات الدير والتي تعد بالآلاف طوال حياة “متى المسكين” تتصدرها صورة للمسيح وأسفلها التعليق التالى “الرب يسوع المسيح رئيس الكهنة الأعظم، الأسقف الكبير ورئيس الأسقفية والأول فى طغمة الكهنوت ورأس الكنيسة”، وهو التعليق المقصود بكل وضوح لتبرير الامتناع عن نشر صورة البابا بوصفه رئيس الأساقفة. ثم صدر كتاب عن الدير لأول مرة عام 2009 تتصدره صورة البابا شنودة.
أبيفانيوس يدير تركة ثقيلة
عام 2013، قرر البابا تواضروس تعيين أساقفة جدد، وكان الأنبا ميخائيل رئيس دير الأنبا مقار في أيامه الأخيرة. جلس البابا تواضروس مع رهبان الدير أكثر من مرة ليختار رئيسًا لهم. وقد كانت الانقسامات بلغت حدًا واسعًا بين مدرستي متى المسكين والبابا شنودة. وترشح لرئاسة الدير ثلاثة أسماء، حصل الأنبا أبيفانيوس على غالبية أصواتهم مثلما ذكرت الكنيسة رسميًا.
مصادر من آباء الدير تؤكد أن الأنبا ابيفانيوس حصل على غالبية أصوات الآباء المنتمين لمدرسة متى المسكين الرهبانيةـ وليس كافة آباء الدير الذين امتنع عدد غير قليل منهم عن التصويت لأي من الأسماء الثلاثة المطروحة. وكان أول ما أوصاه البابا تواضروس للأنبا ابيفانيوس وقت رسامته “لم شمل الدير”. بعد تلك الخلافات التي استمرت من 2006 وحتى 2013.
وجد الأنبا ابيفانيوس نفسه يدير هذه التركة الثقيلة بين مجموعتين من الرهبان غير المتوافقين لاهوتيًا ولا عقيديًا. يحاول أن يصلح إعوجاجًا هنا ويؤلف كتبًا هناك؛ حتى إذا نفد صدره فقرر رفع أمر إشعياء المقاري إلى لجنة شئون الرهبنة التي قررت نقله إلى خارج الدير كعقوبة شديدة الوطأة في القوانين الرهبانية، إلا أن إشعياء نجح في التوسط لدى الأسقف المغدور هو وزملائه لالتماس العفو لدى الانبا ابيفانيوس. فسمح له الأخير شريطة الالتزام بقوانين الدير وهو العفو الذى استمر حتى وجد الأسقف نفسه غارقا في دمه. بينما قررت الكنيسة تجريد الراهب من رهبانيته في الخامس من أغسطس، وقبل أن توجه له النيابة تهما رسمية بمقتل الأنبا أبيفانيوس.
فلتاؤس المقاري.. المتهم الثاني الذى تأخر قرار تجريده
بينما يظل المتهم الثاني فلتاؤس المقاري المحكوم بالمؤبد في تلك القضية يحتفظ باسمه الكهنوتي وبرتبته دون أن تناله عقوبة التجريد التي خضع لها إشعياء؛ وهو ما يفسره مصدر كنسي بارتكاب وائل سعد تواضروس مخالفات داخل المؤسسة الكنسية بعيدة عن إدانته في قضية القتل. بينما موقف فلتاؤس هو العكس، فقد أدين بحكم قضائي فقط؛ لافتا إلى أن تلك القضية أوقعت الكنيسة في حيرة شديدة.
لقد وضعت قضية مقتل الأنبا ابيفانيوس الكنيسة القبطية وسط مستجدات كثيرة، سواء على مستوى القانون الكنسي أو الرأي العام القبطي. فللمرة الأولى يتم فيها إدانة راهب في قضية قتل وتنفيذ حكم الإعدام فيه بكل ما خلقته تلك القضية من انقسام تحفزه عقليات ترفض تصديق ارتكاب الإكليروس جرائم القتل.
في سياق آخر، أدانت حملة “أوقفوا أحكام الإعدام” وعدد من المنظمات الحقوقية تنفيذ حكم الإعدام في المتهم وائل سعد تواضروس. إلى جانب إدانة إعدام تسعة متهمين آخرين يوم 26 أبريل في قضية اقتحام قسم كرداسة. بالإضافة إلى ثمانية آخرين يوم 28 أبريل؛ وهو ما اعتبرته تلك المنظمات توسعا مفرطا في تنفيذ أحكام الإعدام، يتناقض مع مبدأ الحق في الحياة.