يزداد مع مرور الأيام وضوح الرؤية الأمريكية الجديدة (استراتيجية الأمن القومي) بشأن إعادة تقييم أهدافها ووجودها وانتشارها في الشرق الأوسط. التقارير تتحدث عن رؤية شاملة بشأن إعادة تقييم الموقف سياسيًا وعسكريًا، بيد أن الواضح حاليًا قرارًا عسكريًا، يتعلق بسحب قوات التحالف من أفغانستان، وهو الأمر الذي يجري في العراق ضمن الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن.
ثمة مؤشرات، ربما لا تبدو مباغتة، حول ما يمكن اعتباره انسحاب للقوات العسكرية الأمريكية من المنطقة وإعادة انتشارها. هذه الرؤية تأتي بناء على استراتيجية جديدة، تتبنى محدداتها الإدارة الجديدة. حسبما جاء في وثيقة الأمن القومي التي كشفت بعد نحو 45 يوماً من وصول الرئيس الأمريكي للبيت الأبيض.
الصراعات المحتملة لن تشبه الحروب القديمة
وقال وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، مطلع الشهر الحالي، إن واشنطن لن تخوض صراعاتها المحتملة بالصورة التي تشبه “الحروب القديمة“. هنا يبدو أوستن متحدثًا عن تكبد وزارة الدفاع تكاليف هائلة. إذ قضى العقل الأمريكي “معظم العقدين الماضيين في تنفيذ آخر الحروب القديمة، وتعلم دروسًا لن ينساها”.
ولفت وزير الدفاع إلى الاستعانة بالتقدم التكنولوجي وتحسين دمج العمليات العسكرية عالميًا؛ بهدف “الفهم، واتخاذ القرار، والعمل بشكل أسرع”.
وأثناء زيارته الأولى للقيادة الأمريكية في المحيط الهادئ، في هاواي، قال الوزير إن “الطريقة التي سنُقاتل بها في الحرب الرئيسية المقبلة ستبدو مختلفة جداً عن الطريقة التي قاتلنا بها في الحروب السابقة”.
وبينما لم يشير وزير الدفاع الأمريكي إلى تفاصيل بخصوص طبيعة وماهية الحروب المحتملة، وكذا القوى التي تهددها. فلم لم يصنف دولاً أو قوى بعينها، تشكل تهديداً لمصالح الولايات المتحدة.
أولويات أمريكية
لكن وثيقة الأمن القومي التي أعلنها البيت الأبيض، مارس الماضي، حددت بوضوح أولويات أمريكا، وطبيعة تدخلاتها في المستقبل. وهو الأمر الذي يتوافق مع التحركات الميدانية التي تجري في أفغانستان والعراق. وقد شدد البنتاغون على أن الصراعات القائمة في المنطقة لا يمكن حلها عسكرياً.
اللافت أن الانسحاب “غير المشروط” للولايات المتحدة من أفغانستان، يبعث بمخاوف جمة بخصوص إعادة تموضع حركة طالبان من جديد على الوضعين السياسي والميداني. وبالتبعية، سقوط حكومة أشرف غني المدعومة من واشنطن. وهو الأمر الذي تشير تقارير المخابرات الأمريكية إلى احتمالية حدوثة ضمن تقديرتها المتعددة. وقال تقرير للاستخبارات الأمريكية إن “الحكومة الأفغانية سوف تكافح حتى تستطيع الثبات أمام حركة طالبان (الواثقة من نفسها)”.
تداعيات الانسحاب
كما قال وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، إن إدارة بايدن “تواصل مراجعة نهجها إزاء أفغانستان، وجميع الخيارات مطروحة بالنسبة إليها”. وتابع: “ندرس انسحاب جميع قواتنا، حتى مايو كما ندرس خيارات أخرى”.
ولفت إلى تداعيات الانسحاب الانسحاب الشامل، بقوله: “قد يصبح الوضع الأمني أسوأ، وتستولي حركة طالبان على أراضٍ بشكل سريع بعد الانسحاب الأميريكي المحتمل”. ومن بين المخاوف المحتملة، جراء الانسحاب الأمريكي، الفراغ الأمني الذي سيسببه خروج قوات التحالف، لا سيما تزامنه مع الانسحاب الأمريكي.
مخاطر ميدانية وتقليل أمريكي
ومطلع الشهر الحالي، نفذت طالبان هجوماً عنيفاً في ولاية هلمند، جنوب أفغانستان. وقال عطا الله أفغان رئيس المجلس المحلي لولاية هلمند: “شنّت طالبان هجومها من عدة اتجاهات. وهاجمت نقاط تفتيش الجيش الأفغاني على مشارف لشكركاه (عاصمة هلمند)، وسيطرت على عدد منها”.
عمدت وزارة الدفاع الأمريكية إلى التقليل من شأن الهجمات التي حدثت. كما حذّر قائد قوات حلف شمال الأطلسي الجنرال سكوت ميلر، حركة طالبان من تنفيذ أية عمليات عسكرية تهدد القوات الأجنبية.
وقالت البنتاغون إن “الهجمات الصغيرة التي وقعت في أفغانستان، لم يكن لها تأثير كبير على الانسحاب العسكري للولايات المتحدة”. وأوضح مدير شؤون اللاجئين في هلمند، محمد رامين، أن قرابة الألف أسرة فرت من منازلها، هربا من الأحداث الدموية بالمنطقة.
وقالت وزارة الدفاع الأفغانية، إن مقاتلي طالبان “احتلوا- في البداية- بعض نقاط التفتيش. لكن القوات الحكومية استعادت تلك النقاط، ونجم عن ذلك مقتل أكثر من 100 مقاتل لطالبان، و22 من مقاتلي القاعدة الباكستانيين”.
كما أوضح المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، جون كيربي، أن الأحداث الدموية التي شهدتها هلمند، لم تترك أية تأثيرات مباشرة على الموارد الأمريكية، وكذا قواعدها العسكرية في أفغانستان.
الدكتور سعود الشرفات، الباحث المتخصص في الشؤون الأمنية والسياسية، يقول إن “أوستن لم يوضح أو يفصل في طبيعة الاستراتيجية الجديدة – ربما- لأن هذه التفاصيل سترد لاحقاً عند نشر استراتيجية الدفاع الأمريكية الجديدة في عهد بايدن”.
الحشد التكنولوجي
غير أن الشيء الذي يمكن الاعتماد عليه في بناء تحليل أولي هو الفقرة التي دعا فيها أوستن “إلى حشد التقدم التكنولوجي وتحسين دمج العمليات العسكرية على الصعيد العالمي من أجل “الفهم، واتخاذ القرار، والعمل بشكل أسرع”.
ويضيف الشرفات لـ”مصر 360″: “هذه الفقرة من الحديث تعطينا مؤشرا على شكل هذه الحروب. وهي باختصار الاستخدام المكثف للتكنولوجيا على حساب العنصر البشري، وعدم الدخول في حروب تقليدية تضطر أمريكا لإرسال جنودها المشاة إلى ساحات القتال خارج القارة”.
ويبدو أن الولايات المتحدة ستعتمد على حشد التكنولوجيا؛ بمعنى الاستخدام الكثيف للتكنولوجيا (مثل الصواريخ البالستية الموجهة…)، بحسب سعود الشرفات.
ويقول الباجث إن حشد واشنطن للتكنولوجيا هو اتجاه بدأ منذ التسعينيات. ولفت إلى أنها طبقته أول مرة في حرب غزو العراق وتحرير الكويت مع عراب هذا التوجه وزير الدفاع “دونالد رامسفيلد “. واستمر بشكل سريع ثم تباطأ لظروف لها علاقة بالتنافس الحزبي بين الديمقراطيين والجمهوريين.
دمج عسكري عالمي
الأمر الآخر، بحسب الشرفات هو “دمج العمليات العسكرية على مستوى عالمي”. وهذا يعني توسيع دائرة التنسيق ومشاركة المعلومات العسكرية والاستخبارات على مستوى عالمي، مع حلفاء وشركاء الولايات المتحدة. بالإضافة إلى استخدام أكثر سعة وعمقًا للقواعد الأمريكية في دول الحلفاء.
هذه الأدوات التكنولوجية التي سيجري الاعتماد عليها، تعني “سرعة البت في القرارات العسكرية التي تقتضيها التكنولوجيا المتطورة واستخدامها. والمقصود التوسع في استخدام الذكاء الصناعي والطائرات بدون طيار، واستكمال مشروع باراك أوباما، الرئيس الأكثر اعتماداً على هذا التكتيك. وتوسع في استخدامه في ساحات مثل باكستان، وأفغانستان واليمن، مع خطورة أثاره القانونية وأخلاقيات الحرب”، يقول الشرفات.
وهذه الظروف بحاجة إلى اتخاذ القرار بشكل أسرع، والعمل والتنفيذ بشكل أسرع. إذ إن مسرح العمليات المتوقع سيكون تكنولوجياً بشكل مكثف على حساب العنصر البشري الذي سيكون أيضاً تحت ضغط اتخاذ القرار بشكل سريع؛ لأن عنصر التوقيت هنا يحسب تكنولوجياً وبالثانية. خاصة إذا تخيلنا آلية استخدام الطائرات بدون طيار لتنفيذ العمليات الحربية أو قنص القيادات الإرهابية. الأمر يحتاج إذن إلى سرعة اتخاذ القرار وعدم التردد، وسرعة التنفيذ خاصة إذا كنا نتعامل مع أهداف دقيقة، ودائمة، وسريعة الحركة والتموضع مثل المجموعات الإرهابية أو قادتها.
الدليل الاستراتيجي للأمن الأمريكي
وبحسب الدليل الاستراتيجي لوثيق الأمن القومي، فإن روسيا والصين تأتيان في قمة أولويات واشنطن، باعتبارهما يهددان مصالحها ونفوذها العالمي. وأشارت الوثيقة إلى ضرورة أن “يشكل ذلك مستقبل النظام العالمي باعتبار ذلك ضرورة ملحة الآن”.
ورغم تبني واشنطن سياسة الدبلوماسية ونبذ القوة العسكرية، فقد لفتت الوثيقة إلى أن الولايات المتحددة “لن تترد في استخدام القوة عند الحاجة لذلك من أجل الدفاع عن مصالحها”.
وصنف الدليل الاستراتيجي لوثيقة الأمن القومي، الصين بأنها تمثل تهديداً “لاستقرار النظام العالمي والاقتصاد العالمي المفتوح”. وقالت: “نحن ندرك أيضًا أن المنافسة الاستراتيجية لا تمنع ولا ينبغي أن تمنع العمل مع الصين عندما يكون من مصلحتنا الوطنية”.
وتقول الوثيقة إن واشنطن “ستتبع دبلوماسية عملية موجهة نحو النتائج مع بكين والعمل على تقليل المخاطر”. وتحدد على سبيل المثال التعاون في قضايا مثل تغير المناخ والأمن الصحي العالمي والحد من التسلح.
وتابعت: “الدفاع عن أميركا يعني أيضًا تحديد أولويات واضحة ضمن الميزانية الدفاعية. سوف نحافظ على الجاهزية ونضمن بقاء القوات المسلحة الأميركية في أفضل حالاتها؛ قوة مدربة ومجهزة في العالم، في مواجهة التحديات الاستراتيجية بشكل متزايد، ومنها الصين الحازمة ومحاولات روسيا لزعزعة الاستقرار”.