دماء سالت في البرية، جريمة قتل هزت أسوار أحد أقدم الأديرة القبطية، ولطخت الجلباب الأسود. جعلت الأحداث بعدها لم تكن مثل سابقتها. لتشهد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فصلًا جديدًا كشف من خلاله صراع أفكار ما بين تيار محافظ وآخر مجدد. وهو الأمر الذي لم يتوقف عن حد جريمة مقتل الأنبا ابيفانيوس. بل ازدادت نتائجه عقب إعدام الراهب اشعياء المقاري “وائل سعد” الذي أتهم بجريمة قتل الأسقف الراحل.
لم يكن إعدام الراهب المشلوح، نهاية ذلك الفصل، بل أصبح بداية قصة جديدة في صراع بين تلك التيارات، التي وصفت كلا منهما المشهد. وفقًا لرؤيتهم، فمنهم من رآه قصاصًا للأسقف الذي طالته يد الغدر. بينما يرونه آخرون برئيا ويصفونه بـ”الشهيد”. وبين هذا وذاك، استخدم كل فريق وسيلة للهجوم على الآخر.
المحافظون يطلقون مصطلح “الشهيد” و”شفيع المظلومين”
في البداية يجب التوضيح أن التيار المحافظ، هو التيار التابع لأفكار البابا المتنيح شنودة الثالث. بينما التيار المجدد هو التابع لأفكار القمص متى المسكين. بينما يمكن احتساب البابا تواضروس الثاني والأنبا ابيفانيوس، ضمن فريق التجديد، لذا فأن الراهب المشلوح محسوب على المحافظين.
لم ينتظر الجانب المحافظ سوى لحظات عقب إعدامه، فاتجهوا إلى كتابة منشورات يصفون فيها الراهب المعدوم بـ”الشهيد”. بل ومنهم من أعطاه صفة القداسة وأطلق عليه مصطلح “شفيع المظلومين”. والكلمة تعني الوسيط الذي يشفع عند الله عن الإنسان. ذلك بحسب تعريف موقع الأنبا تكلا.
ولم يكتف ذلك التيار بذلك فحسب بل إإنه خلق روايات عديدة حول قداسته ورؤية أسقف أورشليم له وهو يتم زفه إلى السماء. وغيرها من أمور تضفي هالة من التمجيد عليه، ليتحول من مدان على جرم إلى برئ وشهيد. مستغلين ذلك بالهجوم على البابا تواضروس الثاني، كونه الذي قرر شلحه وسمح بتسليمه إلى جهات التحقيق.
التيار المجدد يعتبرونه قصاصا لروح الأنبا ابيفانيوس
على الجانب الآخر، خرج العديد من أبناء التيار المجدد، لإعلان فرحتهم بما وصفوه بـ”القصاص” للأسقف الشهيد الأنبا ابيفانيوس. بعد 3 أعوام من تلك القضية معربين أنها نهاية حقبة التيار المحافظ الذي يقدس أصحاب الجلباب الأسود من الكهنة والرهبان. وهو الأمر الذي عمل على توطيده البابا شنودة الثالث.
ماذا بعد إعدام الراهب؟ فرصة للهجوم على البابا تواضروس
يرى القس إفرايم صالح، راعي كنيسة مار يوحنا الحبيب بوادي النطرون، وعضو باللجنة المجمعية لخدمة السجون. أن البعض استغل تنفيذ حكم إعدام الراهب إشعياء المقاري، لقيادة هجوم شرس على البابا تواضروس. كذلك التجريح في الكنيسة ونشر معلومات بطريقة ملتوية لقلب الشعب ضد البابا وضد الكنيسة.
وأوضح عضو خدمة السجون، أن البابا تواضروس الثاني، والكنيسة لم يقصروا في حقه كمسجون. لم يقصروا في تناوله من سر الإفخارستيا وأخذ اعترافه والصلاة من أجله. كما أشار إلى أن معظم ما كتب على مواقع التواصل الاجتماعي في هذا الموضوع منذ لحظة الإعلان عن تنفيذ حكم الإعدام كتب بغير معرفة الحقائق. البعض كتب من أجل إحداث بلبلة وإثارة الشعب ضد البابا.
إعدام لفكرة الرهبنة الاستثمارية
يرى المفكر القبطي، كمال زاخر، أن ذلك الحادث قد كشف عن تربص طيف آخر بالقيادة الكنسية. على خلفية صدمة مجيئها بعد رحيل البابا السابق الأنبا شنودة من خارج دوائرهم التى اطمأنت لأن يكون القادم واحد منهم.
وأضاف لـ”مصر 360″ أن الحادث فجر قضية الرهبنة الاستثمارية التي تمثلت في فتح الأديرة للزيارات والرحلات دون ضوابط تحكمها. الأمر الذي ضرب النذور الرهبانية عند عديد من التحقوا بها مجددًا. وحين تحولت الأديرة إلى مواقع إنتاجية في الزراعة والثروة الحيوانية والداجنة واستتبعها الدخول في التصنيع الزراعي. صارت أكثر ارتباكًا وتمزقت بين قواعد الرهبنة من نسك وتجرد وفقر اختياري وعزلة. وبين ضرورات الاستثمار وتداعيات تراكم الثروة والاحتكاك بالعالم خارج أسوارها.
وأوضح أن منفذي جريمة قتل الأنبا ابيفانيوس، قد تمت على أيدي دفعات من طالبي الرهبنة ممن لم يتتلمذوا على يد القمص الراحل متى المسكين. بل هم مجموعة من الشباب الطامح في جني ثمار الرهبنة الاستثمارية. الذين اشتركوا في جريمة قتل الأسقف، وأدانهم القضاء ومنهم من انتحر قبل أن تستكمل التحقيقات معه.
إعدام الراهب ومصير الجلباب الأسود
لعل أبرز النتائج المترتبة على إعدام الراهب، هو إزاحة القداسة الزائدة على أصحاب الجلباب الأسود من الكهنة والرهبان. ليصلوا إلى خطوة إدراك أن جميعهم بشر وتحت الضعف.
ويؤكد زاخر أن تنفيذ حكم الإعدام فى الراهب المشلوح بعد ثبوت إدانته فى جريمة مقتل الأنبا ابيفانيوس. رفع الغطاء عن واقع وصفه بـ”المهترئ” الذي يعيشه قطاع من الأقباط بفعل ما استقر في ذهنهم من التعاليم التي وصفها بـ”المنحرفة”. إذ اخترقت دوائر التعليم الكنسي المعاصر ورفعت الرهبان إلى مصاف المعصومين والمحصنين ضد الضعف الإنساني والخطأ.
إعدام الراهب وتصحيح المفاهيم حول أصحاب الجلباب الأسود
ويرى مينا نعيم، الباحث الأرثوذكسي أن ذلك الحادث قد ينتج عنه تغيير في رؤية المسيحيين للجلباب الأسود المتمثل في الكهنة والرهبان. حيث أصبح هناك إدراك بأن أصحاب الجلباب الأسود ليس لهم سلطة زائدة أو معصومين من الخطأ.
وأضاف أنه إذ قال أحد إن يد الكاهن تحول الخبز والخمر إلى جسد السيد المسيح ودمه خلال القداس الإلهي. فيجب أيضًا إدراك أن الجميع يخدمون في القداس من شعب وشمامسة كأعضاء جسد المسيح. وأن الروح القدس هو الذي يحول الجسد والدم.
وأشار إلى أن البعض يظن أن الكاهن هو من يغفر الخطايا أثناء الاعتراف، إلا أن الحقيقة تتمثل في أن الله وحده القادر على الغفران. إلا أن الكاهن يمثل الكنيسة بحيث يكون شاهدًا على توبة الشخص ويفرح معه. وإن كان مختبر فيعطي له إرشاد، لكن دون أي سلطان ذاتي.
وأكد أن مثل ذلك الكلام ينطبق على الراهب، فهو إنسان عادي، وإن كان اختار طريق البتولية وآخر اختار طريق الزواج. فكلا الطرق توصل إلى المسيح إن كان تم استخدامهم بشكل صحيح. وإن كان قد اختار الفقر الاختياري فهذا لا يعني أن الثراء حرام. بل على العكس هناك أغنياء يستخدمون أموالهم في خدمة الناس ويصل للمسيح.
ولفت إلى أن “أبو مقار” الذي سمي على إسمه ذلك الدير موطن جريمة القتل، قد جعله الله يرى أن هناك سيدتان متزوجتان أفضل منه. مشددًا إلى ضرورة مراجعة النظر تجاه الجلباب الأسود، فهو ليس واهب القداسة.
وأكد أن محاولات البعض حالياً إضفاء لمسة الشهادة على الراهب المعدوم، هو تزييف للواقع، حيث أن كافة الدلائل تشير إلى أنه القاتل، وأن تلك المحاولات تهدف لتبرئة الجلباب الأسود من ذلك الفعل، مع أن الجميع تحت الضعف.
نظرة شيوخ الأقباط لأصحاب الجلباب الأسود
على غير سابقيه، يرى كريم كمال، الباحث في الشأن القبطي، أنه لن تختلف نظرة الأقباط لأصحاب الجلباب الأسود وبالتحديد كبار السن. لافتًا إلى أن هذا لا ينطبق فقط على الأقباط ولكن على كل المصريين بشكل عام. حيث هناك ارتباط وثيق برجال الدين والاستماع لهم.
وأضاف لـ”مصر 360″ أنه بدون شك أن هناك فئات من الشباب أصبح ارتباطها برجال الدين مختلف. حيث لا يقبل بعض الشباب استقبال اي شي دون مناقشة أو تحليل وفي أحيانًا كثيرة. يرفض وهي نظرة تختلف عن النظرة التقليدية المعتاد عليها لرجل الدين.
وأكد أن اختلاف نظرة شريحة من الشباب لأصحاب الجلباب الأسود غير مرتبط بهذا الحادث علي الإطلاق. لكن يرجع إلى عوامل عديدة أخرى منها تأثر الشباب بوسائل التواصل الاجتماعي من جانب والخطاب الديني التقليدي من جانب آخر.
تجديد الخطاب الديني لتجاوز مرحلة إعدام الراهب
ويؤكد كمال أن ذلك الحادث يحتاج إلى عمل وجهد كبير من القيادة السياسية لعودة كسب الشباب مجددًا من خلال تحديث الخطاب الديني ليناسب الأجيال الجديدة. مستكملًا: “نحن لا نتكلم عن تحديث وتطوير في عقيدة أو طقس حتى لا يفهم الكلام بشكل خاطئ. لكن نتحدث عن أدوات الحديث والموضوعات وطريقة الإقناع التي يجب أن تعتمد على العقل وليس إعطاء الأوامر. لأن جزء كبير من الشباب حاليًا وخصوصا في بلاد المهجر والمدن لا يستقبل شيئ دون أن يقتنع به”.
هل تتغير الحياة الرهبانية بعد إعدام أول راهب في التاريخ؟
من جهته يؤكد زاخر، أن ذلك الحادث في بدايته أدى إلى إعادة ضبط المنظومة الرهبانية. بل إن الإعدام وما صحبه من جدل يجعل الكنيسة مستمرة في ذلك العمل الذي قد بدأته.
وأوضح أن الكنيسة يجب أن تضبط بوصلة الحياة الديرية على القواعد الرهبانية الأساسية وفصل الحياة الديرية عن إدارة المشروعات. بالإضافة إلى الاهتمام بمنظومة التعليم الكنسي بأن يكون على قواعد التقليد المحقق والانجيل بحزم وتدقيق.
وأشار إلى أن الشق الثالث خاص بمنظومة الإدارة الكنسية والعلاقات البينية بين رتبها ودرجاتها وإعادة الانضباط لها. وفقًا لما نظمه القانون الكنسي.
حادث إعدام الراهب يحتاج لإدراك سريع من القيادة الكنسية
من كل ما مضى يؤكد أن حادث إعدام الراهب لم يكن حدث عابر أو مجرد حدث تاريخي بكونه الأول من نوعه. إلا أنه يحمل بين طياته قواعد لعبة كبرى بين التيارات المختلفة داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. ما يجعل كل تيار يستخدمه لإثبات حقه ومهاجمة الآخر، وهو أمر إن لم تدركه القيادة الكنسية بسرعة كبيرة. سيؤدي إلى اتساع رقعة الخلافات وهو ما لا ينظر بالخير على أعرق كنيسة بالعالم.