في محاولة لاستنساخ تجارب الماضي السوداء، وبدعوى قلقه على مؤسسات الدولة المصرية، أعلن النائب السكندري عبد الفتاح محمد عبد الفتاح، أمين سر لجنة القوى العاملة بالبرلمان، عن اعتزامه التقدم بمشروع قانون للبرلمان يقضى بفصل العاملين بالجهات التابعة للدولة، الذين يثبت انتماؤهم لجماعة الإخوان المسلمين أو المتعاطفين معها.

نائب حزب “مستقبل وطن” ادَّعى أن مشروع القانون الذي انتهى من إعداده سيقضي على العديد من الظواهر السلبية التي تحدث في المصالح الحكومية؛ أبرزها حوادث القطارات المتكررة.

حديث النائب عن مشروع القانون جاء عقب جلسة البرلمان التي حضرها وزير النقل كامل الوزير -بناء على طلبه- نهاية أبريل الماضي، لاستعراض خطته لتطوير مرفق السكة الحديد، والذي شهد العديد من حوادث القطارات سقط فيها عشرات القتلى والمصابين من أبناء الشعب المصرى.

نواب المجلس الموقر حولوا الجلسة التي كان من المفترض أن تشهد مساءلة الوزير على تقصيره وسوء أدائه في إدارة “السكة الحديد” إلى جلسة تأييد ومبايعة، وبدلاً من أن يراجعوه ويحاسبوه وقَّعوا له على بياض، وأمَّنوا على كلامه وحملوا مسئولية حوادث القطارات الأخيرة لـ”بعض صغار الموظفين العاملين فى السكة الحديد من الكسالى ومدمنى المخدارت وأصحاب الأفكار الملوثة المدفوعين من عناصر متطرفة لا تريد لمصر الأمن والأمان والسلام”.

ما إن ألمح الوزير إلى الحاجة لتعديل تشريعى لقانون الخدمة المدنية ليفصل بمقتضاه “أعضاء الجماعة الإرهابية من هيئة السكة الحديد”، حتى أعلن النائب عبد الفتاح عن مشروعه الذي سيعيدنا إلى عصور الظلام

وما إن ألمح الوزير إلى الحاجة لتعديل تشريعى لقانون الخدمة المدنية ليفصل بمقتضاه “أعضاء الجماعة الإرهابية من هيئة السكة الحديد”، حتى أعلن النائب عبد الفتاح عن مشروعه الذي سيعيدنا إلى عصور الظلام، حيث محاكم التفتيش الإسبانية وقوانين نورمبرج النازية في ألمانيا.

ضمير النائب الوطني حتم عليه “التحرك للتخلص من الخائنين”، بحسب ما صرَّح عقب الإعلان عن مشروع قانونه الذي ينص على “الوقف عن العمل واستبعاد كل من يشتبه أنه عضو فى جماعة الإخوان الإرهابية (وقف مؤقت) لحين انتهاء التحقيقات”، وإذا أثبتت التحقيقات التي ستجرى بمعرفة النيابة الإدارية انتمائه إلى الجماعة “يفصل فورا من عمله”.

مشروع القانون وسّع من دائرة الاشتباه ليشمل أيضًا “فصل كل من ينشر إشاعات مضللة تدعو إلى التحريض وتعطيل الإنتاج والتشكيك في مؤسسات الدولة، وكل من ينشر أخبار كاذبة تحرض على الفوضى من خلال مواقع التواصل الاجتماعي”، كما ستطبق ذات العقوبات على “كل مسئول أخفى أي معلومات عن أي عناصر إخوانية داخل جهة عمله”.

وقبيل أن يتقدم النائب رسميًا بمشروع قانونه إلى البرلمان، استبق رئيس هيئة السكة الحديد المهندس مصطفى أبو المكارم الأمور، وأعلن تعامل هيئته مع 162 موظفا يشتبه في انتمائهم إلى الجماعات المحظورة، “نحن لا نعمل مع ملائكة ولدينا نوعيات مختلفة من العاملين، ونتعامل مع الجميع وهذا أمر واقع، والتعامل مع 162 عاملا سيكون على 3 محاور سيتم إبعادهم عن الأماكن الهامة مثل تشغيل القطارات، ومن يطلب إجازة سيحصل عليها وسيحصل على أساسى المرتب، ومن يرفض النقل أو الحصول على إجازة مدفوعة الأجر ومن سيعمل على إثارة المشاكل سيتم فصله من العمل، سيبدأ تنفيذ ذلك فورا”.

إعلان رئيس الهيئة عن قرارت “التطهير المنتظرة” جاء ردًا على تساؤل النائب علاء عابد رئيس لجنة النقل والمواصلات بالبرلمان عما ستفعله السكة الحديد مع الموظفين الذي ثبت انتماؤهم إلى الجماعات المحظورة.

مشروع قانون “التفتيش في النوايا”، وقررات “التطهير” الأخيرة، تتعارض مع نصوص الدستور التي حظرت التمييز ووضعت ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات

مشروع قانون “التفتيش في النوايا”، وقررات “التطهير” الأخيرة، تتعارض مع نصوص الدستور التي حظرت التمييز ووضعت ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات، وكفلت لأيِّ متهم محاكمات عادلة وقانونية، كما أنها تنتهك أيضا مواثيق منظمة العمل الدولية التي وقعت عليها مصر وهو ما قد يعيدن إلى القائمة السوداء للمنظمة، فتتراجع فرص الاستثمار الأجنبي في البلاد كنتيجة لذلك.

نائب حزب “مستقبل وطن” قي البرلمان قرر فتح باب فتنٍ لا أول لها من آخر، ففضلاً عن أن قانونه سيمنح المسئولين في المصالح والهيئات الحكومية الأداة التي تمكنهم من ملاحقة أي مخالف أو معارض، سيقدم لهم شماعة يعلقون عليها فشلهم أو تقصيرهم في أي ملف، وسيُخرج هؤلاء من أدراج مكاتبهم الحجة الجاهزة “الإخوان هم السبب”.

وبالانتقال إلى مستوى أقل، سيعمل القانون على نشر هيستريا اتهامات الأخونة بين مكاتب وأروقة المصالح الحكومية، فكلما نشأت أزمة من أي نوع بين صغار الموظفين فسيتم إحالتها إلى سكة “أمسك إخوان” بدلا من التحقيق في أسبابها الحقيقية.

لم يضع النائب الموقر بمشروع قانونه سيف الفصل والإبعاد من الجهاز الإداري للدولة على رقاب الإخوان والمتعاطفين معهم فقط، بل على كل من ستعتبره أجهزة الأمن والتحري أنه يعمل على نشر إشاعات تحرض على مؤسسات الدولة وقيادتها، وهو ما سيعرض المعارضين والمخالفين للسلطة إلى “خراب الديار”، هذا إلى جانب عقوبة الحبس الاحتياطي التي تلاحقهم بسبب مواقفهم وآرائهم.

مشروع القانون المتتظر لن يقطع دابر الإخوان كما يظن معدوه، والدليل أن عددًا من القوانين القائمة والتي تجرم بالفعل الانضمام إلى الجماعة لم تفلح في دفن أفكارهم

مشروع القانون المتتظر في البرلمان لن يقطع دابر الإخوان كما يظن معدوه، والدليل أن عددًا من القوانين القائمة والتي تجرم بالفعل الانضمام إلى الجماعة لم تفلح في دفن أفكارهم، فالمشروعات المبنية على معتقدات وأفكار لا تسقط إلا بمشروعات بديلة، وإذا كان هناك اتفاق على أن أدبيات الجماعة ومناهجها تتصادم مع مبادئ الحرية وأسس الديمقراطية الحديثة، فمشروع المواجهة البديل يجب أن يكون قائم على ترسيخ مبادئ الحرية والديمقراطية والتعددية والمشاركة، التي ثبت أن الجماعة لا تعرفها ولا تعترف بها.

قبل قرن تقريبًا سعى أدولف هتلر زعيم ألمانيا النازية إلى إقامة مجتمع مسخ يشبه أفراده بعضهم البعض، متجاوزًا للاختلافات الطبقية والدينية والسياسية، وحاول جاهدًا أن يصهر الدولة بمؤسساتها ومواطنيها في بوتقة حزبه.

ففي أبريل 1933 بدأت السلطات الألمانية تفعيل قانون الخدمة المدنية للتخلص من اليهود في الوكالات الحكومية ووظائف الدولة في مجالات الاقتصاد والقانون والحياة الثقافية، وتطور الأمر ليشمل “غير الآريين” -الذين لا ينتمون إلى الجنس الآري-، وألغت الحكومة النازية النقابات وأجبرت العمال والموظفين وأرباب العمل على العمل في “جبهة العمل الألمانية” التي كانت تحت سيطرة الزعيم النازي روبرت لاي.

الدكتور روبرت لاي أعلن بعد ترأسه تلك الجبهة أنه يجب سيطرة الدولة — أي الحزب النازي نفسه — على حياة الأفراد، “إن من الواجب على كل فرد أن ينضم إلى صفوفنا ويسير معنا، ومن واجبه أن يقبل العمل بالروح المتغلبة علينا ويرضى به، وإلا تعذر عليه تمامًا أن يجد هواء يستنشقه؛ لأننا سوف نحرمه أية فرصة تمكنه من كسب عيشه، بل ندعه يموت ويفنى، وإذا قال قائل إنه يريد أن يُترك وشأنه ليعيش في سلام أجبناه بالنفي دائمًا، وقلنا له: كلا يا صديقي، فإني لن أفكر في فعل شيء من هذا مطلقًا”.

كان قانون الخدمة المدنية النازي ضمن حزمة من القوانين أُطلق عليها قوانين نورمبرج، “لم يتورع النازيون عن ارتكاب أشنع الجرائم للتخلص من جميع الأفراد الذين قضوا بعدم صلاحيتهم لأن يكونوا أعضاء في المجتمع النازي الذي ينبغي أن يتألف في نظرهم من الأفذاذ والأسياد فحسب

كان قانون الخدمة المدنية النازي ضمن حزمة من القوانين أُطلق عليها قوانين نورمبرج، “لم يتورع النازيون عن ارتكاب أشنع الجرائم للتخلص من جميع الأفراد الذين قضوا بعدم صلاحيتهم لأن يكونوا أعضاء في المجتمع النازي الذي ينبغي أن يتألف في نظرهم من الأفذاذ والأسياد فحسب، ولجئوا في تحقيق أغراضهم إلى وسائل ثلاث (القتل، والخصي، والتعقيم)؛ إذ إنه لم يكن هناك مناص من اختيار الصالحين بدنيًّا وعقليًّا وخلقيًّا حتى ينسلوا أطفالًا صالحين من تلك النواحي، يقوم على أكتافهم عندما يشبون عن الطوق صرح الدولة الوطنية الاشتراكية الصميمة”، يقول المؤرخ المصري محمد فؤاد شكري في كتابه
“ألمانيا النازية”.

وعدد شكري في كتابه الجرائم التي ارتكبها النازيون في حق من يرون أنهم غير صالحين للعيش في المجتمع النازي، “لم يقنع النازيون بإجراء عمليات التعقيم والخصي للأشخاص الذين ينطبق عليهم القانون، بل اتخذوا من وجود هذا القانون ذريعة لإلقاء الرعب والفزع في قلوب أولئك المواطنين الذين اعتبروهم أعداء للنظام القائم، فكان التعقيم والخصي إلى جانب القتل والعزل في مصحات الاعتقال من وسائل بسط نفوذهم وسلطانهم على ألمانيا”.

كان النازيون يبررون ما يفعلون بأنهم إنما يريدون أن يُنشئوا مجتمعًا من السادة الصالحين لممارسة شئون الحكم في العالم

ومع هذا كان النازيون يبررون ما يفعلون بأنهم إنما يريدون أن يُنشئوا مجتمعًا من السادة الصالحين لممارسة شئون الحكم في العالم، فهم من أجل إنشاء هذه الطبقة “النبيلة” لا يترددون في اتباع كل ما يرونه ضروريًّا للمحافظة على نقاء الدم وخلوص الجنس الآري من الشوائب.

قَبل شطر من المجتمع الألماني إجراءات هتلر القمعية، لكن مع الوقت ظهر تيار لمقاومة هذا القمع والتعسف وزاد هذا التيار شدة وعنفًا منذ أن تذوق الألمان طعم الهزيمة في الميادين الروسية وقذفتهم طائرات الأمم المتحالفة بقنابلها وحممها، وانتهت التجربة بهزيمة ألمانيا وانتحار الفوهرر، وصارت تجربته في الحكم نموذجا يدرس في فشل الأنظمة القمعية المثيلة.

لن تستقر دول وتتجاوز أزماتها بإجراءات وتشريعات قمعية تسعى إلى اجتثاث المخالفين والمعارضين، فالاستقرار لن يكون إلا بالشروع في تأسيس مشروع لدولة مدنية تؤمن بالديمقراطية طريقًا ومستقبلًا وأسلوب حياة، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلمى للسلطة، وتؤكد على حق الشعب فى صنع مستقبله، على أن يكون هو وحده مصدر السلطات، وأن تكون الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية حق لكل مواطن.. دولة يكون لمواطنيها السيادة فى وطن سيد، كما نصت ديباجة دستورنا.