ورثت الحضارة العربية الإسلامية معارف الحضارات السابقة، وكانت خير وريث. تنامت المعارف والأفكار بصورة مذهلة على يد المفكرين والعلماء العرب، وكانت حركة الترجمة نشطة إلى حد كبير عن كل اللغات، خاصة اليونانية، والسوريانية وغيرها؛ مما أتاح للعقل العربي تنوعًا فكريًا كبيرًا، أضفى على العقل العربي بـ”سماته الخاصة” أبعادًا جديدة.
ورغم هذا التنوع الفكري الذي طرحته الترجمات ظل أفلاطون وأرسطو (والفلسفة اليونانية عامة) أصحاب التأثير الأكبر في مسيرة الوعي العربي الإسلامي، وإن ظل لهما (أفلاطون-أرسطو) تجلياتهما الخاصة عند المفكرين والعلماء العرب، عبر تقديم رؤى وأفكار تبدو أرسطية النزعة، ولكنها ذات طابع مختلف، وأبعاد متباينة.
مارس المفكرون المسلمون تأثيرًا كبيرًا على المدارس الفكرية المتنوعة في أوروبا، فمن الناحية الفلسفية خاصة فيما يتعلق بمفهوم العقل فقد ظهرت حركات فكرية تمحور فعلها الفلسفي حول موقف ابن رشد من العقل
لقد مارس المفكرون المسلمون تأثيرًا كبيرًا على المدارس الفكرية المتنوعة في أوروبا. أما من الناحية الفلسفية، خاصة فيما يتعلق بمفهوم العقل، فقد ظهرت حركات فكرية تمحور فعلها الفلسفي حول موقف ابن رشد من العقل، ونمت (الحركة الرشدية) في اتجاهات كثيرة، ولكن ولما فهم علماء “اللاهوت” جيدًا أن ابن رشد نجح في إعلاء الحقيقة الفلسفية على الحقيقة الدينية: أي إعلاء العقل على الإيمان، وجهت تهمة التعاطي للرشدية آنئذ -باعتبارها جريمة تستحق العقاب- إلى مفكرين فرنسيين هما: “سيجي البرابنتي” و”بوويس الداسي”، إذ كتب الأول كتابين أساسيين حول العقل، وفيهما يدافع عن أطروحة “وحدة العقل” الرشدية.
أما الثاني فقد ألّف كتابًا يدافع فيه عن أطروحات ابن رشد الفكرية بشكل عام، خاصة مسألة تأمل الحقيقة بواسطة العقل، ويعد ما قاله “بوويس” بدايةً لطرح مفهوم جديد لــ”العقل” في عصر النهضة. وانتشرت رؤى ومفاهيم ابن رشد في الأوساط الثقافية الأوروبية (فيما عرف بالرشدية اللاتينية) بوصفه فيلسوف الفكر والعقل الذي يواجه المفاهيم اللاهوتية للكنيسة، ويضع حدًا لسيطرتها السياسية والاجتماعية والفكرية على أوروبا العصور الوسطى.
ابن رشد مفكر عظيم، بفضله اهتدت الحضارة الأوروبية إلى تراثها، وأعادت إحياءه عن طريق مؤلفاته وكتبه وترجماته للتراث اليوناني، وحظي باهتمام كبير ومكانة خاصة عندهم، بل دخل في سياق عصر النهضة الأوروبي، وامتنت الحضارة الأوروبية حتى أنه قد ظهر في اللوحة الشهيرة المعروفة باسم “مدرسة أثينا” -للرسام الإيطالي المشهور “رافائييل”- إجلالا له، وتقديرًا لما بذله من جهد، كما ورد اسمه في كوميديا دانتي الإلهيَّة مع باقي الفلاسفة العظام.
العقل في مواجهة العالم
إن سيطرة العقل على “الموضوع” لم تكن أبدًا مجرد إجراءً نظريًا، بل هى سيطرة على العالم، وتنظيم له في الآن نفسه؛ ولهذا فالتاريخ لا ينفصل عن تاريخ العقل نفسه، لأن التاريخ هو النسخة العملية الفورية لأفعال العقل. وفي هذا السياق تعد اللحظة التي أدرك فيها الفلاسفة اليونان مفهوم التغير “الصيرورة” تعد لحظة فارقة، إذ ظل هذا التناقض الميتافيزيقي قائمًا على هذا النحو: “الثابت/المتغير” ، كان حديث “هيراقليطس” عن التغير حديثا محبطًا، إذ إن اكتشافه للصيرورة، في هذه اللحظة، كان يعني اكتشاف الجانب العبثي في العالم؛ فلقد أمسك بـ”الصدفة” دون أن يدرك “الضرورة”، وأمسك بـ”الفوضى” دون أن يعي “النظام”.
أما حديث بارمنيدس فلم يكن أقل تشاؤمًا، لأنه حين كشف عن النظام، أقام القطيعة مع العالم، فالتغير والصيرورة باديان في كل شيء، أما النظام فيكمن بعيدًا. وقد أدى هذا التناقض بدوره إلى صعود مفهوم “الماهية” في بداية الأمر، وفي صورته البسيطة على يد سقراط، عبر المفاهيم الأخلاقية: مثل الشجاعة، الفضيلة… إلخ.
عبر منهج معرفي عقلي واضح وهو “المنطق الصوري” جاء أرسطو ليجمع العالمين في عالم واحد (لا شيء خارج العالم)، ووضع ميتافيزيقا “الماهية” في صياغتها النهائية
ثم كانت المحاولة الأولى، التي تأسست على تجليات سقراط الفلسفية، تلك الصيغة الأفلاطونية، من خلال وصل الثابت بالمتغير، ومزجهما في مزيج ميتافيزيقي واحد، يمكننا من فهم العالم، عبر محاولته إقامة عالمين غير متصلين ماديًا، ولكنهما متصلين عقليا: عالم المثل/عالم الأشباح، الثابت/المتغير. وعبر منهج معرفي عقلي واضح وهو “المنطق الصوري” جاء أرسطو ليجمع العالمين في عالم واحد (لا شيء خارج العالم)، ووضع ميتافيزيقا “الماهية” في صياغتها النهائية، طارحًا مزيد من الثنائيات المتعارضة: (المادة/الصورة)، (القوة/الفعل)، (الجزئي/الكلي)، وكلها تنويعات على التعارض الرئيسي (الثابت/المتغير). لقد اعتبر “أرسطو” العقل عنصرا أساسيا في الفعل المعرفي البشري. وبناء على هذه الثنائية الأرسطية (صورة/مادة)، عرف أرسطو النفس باعتبارها “صورة للجسد”. فلقد رفض الثنائية الأفلاطونية (روح/جسد) ورفض اعتبار هذين الأخيرين كينونتين مستقلتين. فلا يعترف أرسطو بوجود للنفس في استقلال عن الجسد.
دعنا نستعير القضايا القديمة، ونرى كيف يمكن التعامل معها ومعالجتها، يطرح “ابن رشد” أسئلته الإشكالية، والتي يعتبرها أساسية، والتي تجاهل أرسطو الالتفات لها، أو الإجابة عنها، ومن بينها: هل هناك صورة عقلية منفصلة عن الإنسان؟ هل هذه الصورة موجودة بالقوة أم بالفعل، أو أحيانا بالقوة وأحيانا أخرى بالفعل؟ هل هي خالدة؟ ما طبيعة النفس البشرية؟ هل هي أيضا خالد؟
ويبدأ ابن رشد بالبرهنة على وجود صورة عقلية منفصلة، حيث يميز بين نوعين من الإدراكات: إدراك الكلي، وإدراك الجزئي، الأول هو إدراك الأفكار الكلية مستقلة عن المادة، بينما الثاني هو إدراك الأفكار في المادة، ويقابل هاذين النوعين من الإدراك وسيلتان معرفيتان مختلفتان: العقل الذي يدرك الكلي منفصلا عن المادة؛ والإحساس الذي يدرك الأفكار في المادة. والفرق بينهما يكمن في أن الأولى (العقل) لا تقتصر فقط على الإدراك بل تقوم أيضًا بتركيب الأفكار واستنتاج بعضها من بعض، وهذه القدرة العقلية هي التي تميز الإنسان عن الحيوان (الإنسان حيوان عاقل)، باعتبار أن هذا الأخير لا يتمتع إلا بالإحساس، ومن ثم يقسم ابن رشد القدرة العقلية إلى: العقل النظري، والعقل العملي. توجد الثانية عند كل الكائنات البشرية بدرجات مختلفة؛ أما الأولى فلا يتمتع بها إلا الخاصة من الناس.
طور ابن رشد تقليدا تجريبيا (أمبريقيا) سوف يتكشف تأثيره فيما بعد، عند فلاسفة أوروبا في القرون الوسطى، وفلاسفة عصر النهضة، في ما عرف بمشكلة “الكليات”
ومن ناحية أخرى طور ابن رشد تقليدا تجريبيا (أمبريقيا) سوف يتكشف تأثيره فيما بعد، عند فلاسفة أوروبا في القرون الوسطى، وفلاسفة عصر النهضة، في ما عرف بمشكلة “الكليات”، فبالنسبة لابن رشد، لا تعد الكليات موجودة في ذاتها، بل هي فعل الفهم فقط، فإذا ما أضفنا إلى ذلك الأهمية التي ينسجها ابن رشد لدور التجربة في تشكيل المعرفة البشرية، تتجلى الصورة بوضوح في تأثيره على مفهوم العقل في الفكر الغربي، فالمبادئ “الفطرية” غير موجودة، والعقل النظري يفكر في كل الصور لكنه ليس مختلطا بأية صورة، يبدأ الإنسان بإدراك هذا الواقع عن طريق الحواس ومن ثم تنبه إلى أهمية العقل في إدراك الموجودات ومعرفة أسبابها، فالعقل الذي يدرك أسباب الموجودات يستطيع أن يدرك الموجودات، والمعرفة بتلك الموجودات لا تكون كاملة إلا بمعرفة أسبابها، كما يرفض ابن رشد أيضا منهج التأمل المحض الذي يقول به أصحاب المدرسة الصوفية، والذي يعني كسب المعرفة انطلاقا من حالات تأمل معينة، فبالنسبة لابن رشد لن يكون التأمل مثمرا إلا إذا كان مؤسسا على دراسة العلم. وهذه هي الوسيلة الوحيدة التي سوف تسمح للإنسان بإدراك كينونته الخاصة
فصل المقال
تعد قضية “التوفيق بين الدين والفلسفة” واحدة من أهم القضايا التي شغلت بال الفلاسفة المسلمين، من “الكندي” مرورا بــ”الفارابي” و”إخوان الصفا”، ووصولا إلى “ابن طفيل”، وانتهاء بــ”ابن رشد”، وهي الإشكاليّة التي طرحت نفسها بجلاء مع اهتمام المفكرين العرب بالفلسفة اليونانية، (في ظل حركة الترجمة العظيمة التي قامت بها الحضارة العربية الإسلامية في وقت ازدهارها).
وبعد أن وجّه الاهتمام إليها الفيلسوف العربي الإسلامي الأول: يعقوب بن إسحاق الكندي، بعد أن انقسم المفكرون الإسلاميون، والعلماء وقتذاك إلى فريقين، فريق يرى أن الفلسفة هي ابتعاد صريح عن الحق الإلهي، الذي أنزله الله عن طريق الوحي، في صورة شرائع إلهية، وتعاليم دينية، فضلاً عن كونها شيئًا دخيلا وغريبا على المجتمع الإسلامي، يخالف روح الدين، وأصوله، ومبادئه، أي أنهم قالوا بتقديم النقل – النص الديني – على العقل.
بينما فريق آخر يرى أن الفلسفة ما هي إلا تمكين الإنسان لأن يصل إلى الحقائق الكلية، والمعارف الإلهيَّة المُجردة، ليس عن طريق النصوص والشرائع الدينية فحسب، بل وأيضًا عن طريق النظر العقلي، والتأمل الخالص، والعلم الإنساني المحض، أي أنهم قالوا بالعقل لا بالنقل وحده، وكان ابن رشد من الفريق الثاني الذي ارتأى ضرورة التوفيق بين الحكمة والشريعة، فألف كتابه الشهير “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال”.
يقول ابن رشد: “أما مسألة قدم العالم وحدوثه فإن الاختلاف فيها، يكاد يكون راجعًا للاختلاف في التسمية، خاصة عند بعض القدماء، وذلك أنهم اتفقوا على أنها هنا ثلاثة أصناف من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين، واختلفوا في الواسطة. فأما الطرف الواحد فهو موجود وجد من شيء غيره، وعن شيء، أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه، أعني على وجوده، وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، فهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدمه زمان، وهذا اتفق الجميع من الطرفين على تسميته قديمًا، وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو االله تبارك وتعالى، الذي هو فاعل الكل، وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، أعني عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره، فهذا الموجود الآخر، الأمر فيه بين: أنه قد أخذ شبها من الموجود الكائن الحقيقي عالم الشهادة، ومن الموجود القديم، فمن غلب عليه ما فيه من شبهة القديم، على ما فيه من شبهة المحدث، سماه قديما، ومن غلب عليه ما فيه من شبهة المحدث سماه محدثا”.
يقدم ابن رشد الشريعة على الفلسفة؛ لأن الفلسفة لا تشجع إلا على منهج البرهان في التصديق، فيما تهمل الجدل والخطابة، أما الدين فإنه يشجع مناهج التصديق الثلاث لحاجتنا إليها، ولضرورة مخاطبة الناس على قدر مستوى إدراكهم
وإذا وصل ابن رشد إلى هذه النتيجة، فقد تسنى له تقسيم الناس وطرق تصديقهم (الوصول للحقيقة) إلى ثلاثة أصناف: الجمهور (العامة)، وأهل الجدل، وأهل البرهان، وعلى هذا الأساس يقدم ابن رشد الشريعة على الفلسفة؛ لأن الفلسفة لا تشجع إلا على منهج البرهان في التصديق، فيما تهمل الجدل والخطابة، أما الدين فإنه يشجع مناهج التصديق الثلاث لحاجتنا إليها، ولضرورة مخاطبة الناس على قدر مستوى إدراكهم. ومن هنا يرى ابن رشد إلى ان لكل نص وجهان: الأول ظاهر، والثاني باطن، والظاهر هو ما عني بحقيقة الشيء من دون بحث واستقصاء في عملية التحليل، فهو يرى ضرورة أن يقر الشرع على ظاهره، ولا يصرح للجمهور بالجمع بينه وبين الحكمة، لأن التصريح بذلك هو تصريح بنتائج الحكمة لهم، دون أن يكون عندهم برهانا عليها، ولهذا يذهب ابن رشد إلى الأخذ بمبدأ التوفيق بين الدين والفلسفة، وأن كلا منهما يفضي إلى الآخر، فالمستلزمات العقلية تنبع من مقاصد الشرع. وهكذا يكون التوفيق بين الدين والفلسفة في نظر ابن رشد قائما على تأكيد التعامل بينهما وإثبات وظيفة العقل من وراء تأكيد أهمية الشرع، وما الفلسفة في نظره إلا تأكيد للعقيدة، بل هي المنهج العقلي لفهم الدين، فهو يؤكدعلى:”أن النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع”. بل يدعمه ويعضد وجوده.