“بعيداً عن الضجيج والإعلام والزحام وبعض ترهات الأقلام، كل عام وأنتم بسلام”.
“كل عام وأنتن بسلام”.
معايدة قرأتها على حائط صديقة، أستاذة جامعية وحقوقية ليبية، تشبهها.
راقت لي، فأعدتها عليكما، عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة.
بعيداً عن الضجيج والإعلام والزحام، وبعض ترهات الأقلام، كل عام وأنتما بسلام.
الضجيج صاخب هذه الأيام. مشحون. صارخ. معجون بالدماء والحزن والدموع.
والإعلام أغلبه ينطق بالغضب. مشحون هو الآخر. يقتطع من الصورة مشهدا، ويتخذه مدخلاً في التوضيح والتفسير. ومعه موقف، يضرب عليه في وتيرة واحدة، هي هي نفسها، تتكرر في كل مرة، ومن تعجبه النغمة يرقص على وقعها.
والزحام، خانق. على وسائل التواصل الاجتماعي.
زحام عابق بعرق المتضامنين والمتضامنات. يلوحون وهم والانفعال واحد.
وذاك الصوت الخافت في عقولهن وقلوبهن؟
يكتمنه.
الآن وقت الصراخ. الضجيج والزحام.
الآن وقت التضامن.
على الجانبين.
معهم أو ضدهن.
ضدهم أو معهن.
بعض الأقلام والقنوات، تنطق، ثم ترطن، وهي تجعجع.
تذكرني هي وأغلب إعلامنا بجعجعة الخمسينات والستينات.
هوجة، هوسة. وغضبه.
الكل يصرخ.
الكل يدين.
والكل يلعن.
والبعض يهلل. “أخيرا. سنريهم”.
على الجانبين.
ستريهم ماذا؟
انظر إلى المرآة وستراه هو فيها.
أنتما واحد.
مصيركما واحد.
شئتما أم أبيتما.
مقتله فيه مقتلك.
فأين الخلاص؟
وكثيرون، من الجانبين، يُخرّجن ما كن يكتمنّه في الصدور.
في كلمات، شعارات، وصور. وأعمال عنف.
منها ما هو مخيف.
لغة تدعو إلى الإبادة والحرق. كأنها تتقيأ كراهية.
ولذا يبدو السلام بعيداً كطيف من خيال. سارح. شارد. تائه. لا يعرف طريقاً إلينا.
بعيد عن منطقتنا. كأنه معنا على خصام.
سراب هذا السلام، كلما بدا لنا، ينسل، يذوب مع الدموع ويختفي.
——
وأنا؟
أتابع.
أقرأ باللغات التي أتقنها.
أتابع على قنوات مختلفة.
تسمرت أمامها.
أحترق، أتعاطف.
طعم ذاك القهر على شفتي.
طعم ذاك الخوف على لساني.
ذاك الحزن.
ذاك الألم.
وأتعاطف. ثم أتضامن.
أتعاطف مع الإنسان.
أتضامن مع الإنسان.
نقطة. بدون فاصلة. بدون لكن.
على الجانبين.
أتعاطف مع ذلك الطفل. تلك الطفلة. مع الأم تحتضن أبناءها. مع الأب يمسك بيد بناته ويجري بهن.
مع هذا الشاب. تلك الشابة.
هذا العجوز.
هذه السيدة.
هذا الإنسان.
ذاك الذي لا يعتدي على الأخر.
يأخذ بيت غيره ويقول “إذا لم افعل سيسرقه غيري”.
ذاك الذي لا يهلل ويقول “احرقوهم”، “أبيدوهم”.
ذاك الذي لا يسحل غيره بسبب هويته.
ذاك الذي لا يعتدي على حرمات المقدسات. في المسجد أو المعبد.
من الجانبين.
أتعاطف مع الإنسان.
نقطة. بدون فاصلة. بدون لكن.
وأعرف أن صوتي مزعج.
لا يريد أن يمشي مع الجموع، على أي من الجانبين.
فمنذ متى كنت امشي مع الجموع؟
وذاك الصوت الخافت في عقلي وقلبي لا يريد أن يصمت.
ولذا قررت أن أدردش معكما.
دردشة على هامش الضجيج.
تنسج من ذلك الصوت حديثا.
واترك لكما حرية الاستماع أو الرفض.
——
منذ بداية هذا الأسبوع كانت الصواريخ تصرخ.
والمدنيون والمدنيات، بغض النظر عن أي طرف نتحدث، بينهما.
بينهما.
رهينة.
الدماء دمائهم. والوجع وجعهن.
والخوف.
والشرارة التي أطلقت كل هذا الجنون كانت من حي الجراح العربي بالقدس.
عرت واقع مسار سلام لم يبدأ بعد.
وجّرت معها دوامة عنف لا يجيدها إلا من يكره أكثر من الجانبين.
وأعرف أن ما حدث مثّل فرصة ذهبية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو كي يفرض نفسه على الساحة السياسية من جديد، في وقت كنا جميعا نعتقد أن أيامه السياسية محدودة.
وأعرف أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس ألغى انتخابات كان من المفروض أن تعقد. وأن حماس انتهزتها هي الأخرى فرصة كي تموقع وتثّبت نفسها كقائدة “جهادية” لجبهة فلسطينية متناحرة.
دخلت على الخط من جديد.
هدفها “هزيمة العدو”.
ثم “مقاومة العدو”.
ثم “الصمود في وجه صفعات العدو”.
ثم “يصبح النصر اسما فخريا للهزيمة والدمار”.
والاقتباس بتصرف أعتذر عليه من الصديق المفكر حسين الوادعي. فحديثه كان عن معارك العربي، ذاك الذي ينتصر في معاركه قبل أن تنتهي المعركة.
أعرف كل هذا.
لكن الشرارة، حي الجراح العربي في القدس الشرقية، تستحق منا وقفة تأمل.
لأنها تعكس أساس الأزمة.
وسائل الإعلام الإسرائيلية تُصر على أن ما يحدث في حي الجراح هو خلاف عقاري.
وهذا القول يشبه القول إن القدس مدينة عادية ككل المدن في العالم. وهي غير ذلك. على الأقل لغالبية من أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاثة. تظل قدسا. مقدسا. لهم ولهن.
جوهر القضية تتعلق بإخلاء عائلات فلسطينية من بيوتهم في حي الشيخ جراح.
قضية قديمة.
لكن معالجتها هي التي ستفصل بين سلام مستديم، أو واقع احتلال واستيطان يستفحل.
——
تاريخ القضية معقد.
قرأته من أكثر من مصدر. واعتمدت في هذا السرد على شرح لخبير من معهد شاتام هاوس للدراسات السياسية في شئون الشرق الأوسط أذاعته بي بي سي العربية، 11 مايو 2021، ومقال نُشر في النيويوركر في نفس التاريخ لكاتب ومحامي فلسطيني.
جذورها تعود إلى عام 1876، عندما أشترت مجموعتان يهوديتان أراض في الشيخ جراح.
المنطقة مقدسة بالنسبة لأتباع الديانة اليهودية لأن بها قبر الكاهن شمعون الصديق.
بنت المجموعتان هناك بيوتا وعاشوا بسلام مع جيرانهم الفلسطينيين إلى أن صدر قرار التقسيم الأممي، ورفضته الدول العربية لتشن حرباً على دولة إسرائيل الوليدة في 1948.
هرب الكثيرون والكثيرات من بيوتهم، وخاصة من الفلسطينيين.
بعضهم هرب، وغيرهم أُجبر على الرحيل.
وبين هؤلاء كانت هناك أيضا مجموعة من اليهود، هربت هي الأخرى، بعضها نزح من القسم الشرقي إلى القسم الغربي من القدس. وغيرها أعادت إسرائيل توطينها داخلها.
تغيرت الخارطة بعد تلك الحرب. الأردن أصبحت هي الحاكمة في القدس الشرقية ومعها الضفة الغربية.
حتى حرب 1967.
خلال هذه الفترة، عمدت السلطات الأردنية، بمشاركة الأمم المتحدة ببناء 28 بيتا للاجئين الفلسطينيين على الأراضي التي كان يملكها يهود. ووعدتهم بتثبيت إقاماتهم قانونيا. وعد لم تف به بسبب حرب 1967، الذي أدى إلى ضم إسرائيل القدس الشرقية.
القدس مدينة مقسمة بين إسرائيليين يهود، يتمتعون بحقوق المواطنة الإسرائيلية، وفلسطينيين عرب، لديهم حق إقامة دائمة، يفقدونها لو تركوا القدس. وهناك قيود كثيرة تم فرضها عليها من قبل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بهدف توسيع الوجود اليهودي في القدس، وتضييق الخناق على أي تراخيص للتوسع والبناء من الجانب العربي الفلسطيني.
وعندما يتعلق الأمر بحي الجراح تحديداً، بدأ المستوطنون في المطالبة بتلك البيوت التي كانت مملوكة ليهود.
قانون الملكية الإسرائيلي الذي صدر في الخمسينات يسمح بذلك.
فهو يقضي بحق اللاجئين اليهود المطالبة بالبيوت، التي كانوا يملكونها، واضطروا لتركها.
لكن القانون لا يشمل اللاجئين الفلسطينيين، الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم بسبب الحرب.
من يطالب بحقوق ملكية تلك البيوت اليوم ليسوا ورثة العائلات اليهودية التي كانت تعيش هناك.
بل جهات استيطانية متطرفة أشترت حق تلك الملكية من الورثة الأصليين، وهي تحاول الاستيلاء على هذا الحي للحيلولة دون تحول القدس الشرقية إلى عاصمة لدولة فلسطينية في المستقبل.
وهناك أصوات وجماعات سلام إسرائيلية تدافع عن وجود العائلات الفلسطينية. لكن صوتهم، ككل صوت يدعو إلى تسوية عادلة لهذه القضية، يغرق وسط الضجيج والضوضاء.
هل تفهمان ما يعني ذلك؟
من الناحية القانونية، المستوطنون يملكون بالفعل هذه البيوت.
لكن منحهم هذا الحق سيفرض سؤالاً جدياً، وماذا عن حق مئات الألاف من الفلسطينيين الذين اضطروا إلى ترك بيوتهم (المملوكة لهم قانونيا) في القدس الغربية وداخل إسرائيل؟
القانون الإسرائيلي لا يسمح لهم ولهن بذلك.
وهو قانون غير عادل.
فما دمت تقبل بذلك الحق لهذا الإنسان، سيتوجب عليك القبول بنفس الحق لغيره، وإن اختلفت هويته.
وبسبب حساسية هذه القضية. اضطرت المحكمة الدستورية إلى تأجيل نطقها بالحكم.
لكن ماذا لو نطقت بالحكم لصالح المستوطنين؟
هذا المحك.
القضية قديمة.
لكن معالجتها هي التي ستفصل بين سلام مستديم، أو واقع احتلال واستيطان يستفحل.
ومهما حاولنا الالتفاف حول هذا المحك وتجاهله، سنجد أنفسنا من جديد في هذه الدوامة.
دوامة عنف لا يجيدها إلا من يكره أكثر.
إذن.
بعيداً عن الضجيج والإعلام والزحام وبعض ترهات الأقلام، كل عام وأنتم بسلام.
كل عام وأنتن بسلام.