لم يخل تاريخ العلاقات الإثيوبية الإريترية من مراحل متباينة، صراعات يعقبها تعاون، سواء بين نظامي الحاكم، أو قوى المعارضة في البلدين. هذه العلاقة المعقدة ترسم ملامح بلدين يتنافسان على إرث بعضها البعض، كل طرف يرى أحقيته في قيادة غيره باعتباره تابعًا.
المحطة الأخيرة لفصول هذه العلاقة، عندما وصل رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد إلى السلطة، وجرى توقيع اتفاق سلام مع أسياس أفورقي عام 2018. عندها أنهى زعيما دولتي القرن الأفريقي عقدين من النزاع، بدأت بعد نشوب حرب بين البلدين في العام 1998.
منذ ذلك الحين يتمتع البلدان بعلاقات تحرسها ظاهريًا المصالح المتبادلة. وإن كانت ذات طبيعية إشكالية تاريخيًا، تجعلها أقرب إلى الهشاشة على المدى البعيد، بفعل المنافسة.
يحمل تاريخ العلاقات الإثيوبية الإريترية سلسلة من الصراعات، تنطلق بالأساس من أطماع أديس أبابا في منفذ على البحر. وفي الطريق إلى ذلك تسلك كل السبل حتى الإمبريالية منها، فلا تمانع في رفع السلاح بشكل مباشر في وجه جارتها، كما حدث من قبل أو اتباع سياسة “عدو عدوي صديقي الحاصل في إقليم تيجراي“.
جذور الصراع
تبدأ تعقيدات العلاقات بين البلدين حين كانت أريتريا تتعرض لغزوات نهب من قبل جارتها. وهو ما استمر حتى دخلتها تحت حماية الاستعمار الإيطالي.
وبعد رحيل الإيطاليين، وبزوغ نجم البريطانيين عام 1941، تحولت عين أديس أبابا إلى أسمرة مرة أخرى. حينها تحركت في الخارج لإقناع القوى الدولية والإقليمية، ونشطت في الداخل الإريتري للتأثير في القيادات المسيحية الدينية والسياسية لصالح مشروعها. واستطاعت أن تحقق اختراقات في المسألة.
هذا التحرك أعقبه تناقض إريتري داخلي، فاتجاه دعا للاستقلال الفوري بقيادة الرابطة الإسلامية. واتجاه آخر دعا للانضمام إلى إثيوبيا بقيادة حزب الوحدة. وتقدمت الولايات المتحدة آنذاك بمشروع ربط إريتريا بإثيوبيا عبر نظام فيدرالي، رأت فيه أديس أبابا حلاً مؤقتًا لحين لحظة الضم. إلا أن محاولات التغول واجهت مقاومة، وصلت إلى مرحلة الثورة في عهد الإمبراطور هيلي سلاسي.
وفي النهاية استطاع الإريتريون أن يهزموا إثيوبيا ويحرّروا بلادهم عام 1991. ثم عادت الحرب تخيم على الأجواء عام 1998 وعلى مدارعقدين، بسبب الخلاف حول مثلث بادمي.
لاحقا قضت المحكمة الدولية بأحقية إريتريا في مثلث بادمي، إلا أن الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي التي كانت تحكم إثيوبيا ماطلت في تنفيذ الحكم.
آبي أحمد يُعيد أقدام الإريتريين
بعد خروج التيغراي من الحكم في أعقاب وفاة ميليس زيناوي، جعل آبي أحمد العلاقة مع جارته “دافئة”. لكن هذا السلام لم يكن صافي النية، بعدما استعان رئيس الحكومة الشاب بقوات أريتريا في مواجهة غضب التيغراي.
ولكن أبي أحمد الذي نفى طويلا وجود قوات إريترية في تيغراي، أقر بوجودها الشهر الماضي مع وعد بانسحابها كاملة من المنطقة. هنا تغيرت المعادلة، وبات الإرتيريين يقاتلون طرفًا إثيوبيا، ظل لسنوات على خلاف معه، وهو ما اعتبره مراقبون “انتقام”.
وتتهم القوات الإريترية بارتكاب مجازر وعمليات اغتصاب ونهب في التيجراي. فيما تلفت تقارير النظر إلى أن الرئيس الأريتري أسياس أفورقي يتلاعب بالشاب الإثيوبي. وأن دعمه في جبهة تيغراي ما هو إلا انتقام من عدو الأمس، وطمع في الجارة يريد أن يتحقق مع الوقت.
وتعود أصول أبي أحمد المسلمة إلى الأب من الأورمو، والأم المسيحية من الأمهرة. ومع ذلك وقع خلاف عميق بينه وبين أصوله من قوم الأورومو نتيجة استمرار التهميش الذي خرجوا بسببه على التيغراي.
أقحم أبي أحمد إريتريا بشكل عميق في النظام السياسي الإثيوبي. ظهر ذلك عبر نشر القوات الإريترية جنبًا مع قوات أمهرة والجيش الفيدرالي على الحدود بين إثيوبيا والسودان (يوجد نزاع إقليمي). بالإضافة إلى الاستخدام المبالغ فيه للقوات الإريترية في القتال ضد جيش تحرير أورومو بولاية أورميا الإثيوبية.
هذه التداخلات لا يتوقع أن تستمر إلى الأبد، خاصة في ظل وجود أصوات إثيوبية تشير إلى ضرورة ضم الجانب الإريتري. وفرض السيادة عليه بدلا من التحالف معه، وهي الخطة التاريخية لأديس أبابا للنفاذ إلى البحر.
أفورقي.. الديكتاتور الذي خدع حلفاءه
على الجانب الإريتري تعيش أسمرة واقع اقتصاديا واجتماعيا بائسا، يقوده الرئيس أسياس أفورقي، قائد الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا. وهو الذي حرص على إظهار الجبهة بمعزل عن الشق الإسلامي والعروبي خلال سبعينيات القرن الماضي، ولصالح التوجه اليساري ظاهريا.
أفورقي الذي ينتقم من تيغراي، استعان بهم عندما كان يقود الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا حتى انتهي باستيلائه على الحكم. ومع نشوب حرب 1998 التي خلفت سبعين ألف قتيل تدهورت العلاقة بين التيغراي وأفورقي.
المعارضة الإريترية في محطة إثيوبيا
مع اشتداد القمع الذي يمارسه أفورقي، ظهرت ملامح معارضة، بعضها على أساس عرقي بدعم إثيوبي، وأخرى ذات ميول عروبية إسلامية.
في عام 2003، أُنشئ ما عرف بالتحالف الديمقراطي الإرتيري، كمحاولة لتوحيد المجموعات المنشقة عن جبهة التحرير. بالإضافة للحركات الإسلامية المعارضة، وتكون التحالف من 13 جماعة، تمكنت من عقد مؤتمر في عام 2008.
وفي عام 2011 جرت محاولة جديدة لتوحيد المعارضة السياسية ودفعها للتنسيق مع حركات المجتمع المدني الناشئة. حينها عقد المؤتمر الوطني الإريتري من أجل التغيير في مدينة أواسا الإثيوبية.
فيما بعد عقدت مجموعات من المعارضة الإرترية المقيمة في إثيوبيا والمهاجرة مؤتمرا جديدا في عام 2014. سعت إلى تشكيل “مجموعة استشارية” جديدة بهدف إعادة إحياء التحالف الديمقراطي الإريتري.
ولكن ومنذ وصول أبي أحمد للحكم جمدت مكاتب المعارضة الأريترية في إثيوبيا أنشطتها إلى حد كبير. وذلك في ظل مخاوف من تسليم قيادات المعارضة إلى أسمرة.
مستقبل العلاقة
وفي أغلب الأوقات لا تعترف المعارضة بالاتفاقيات التي تعقدها السلطة الحالية بقيادة أفورقي. كما سبق أن رفعت في كندا دعوى قضائية ضد شركة كندية تعمل في إطار التنقيب عن الذهب في إريتريا.
كما رفضت المعارضة تأجير ميناء عصب لدولة الإمارات والسماح لقواتها باستخدام الموانئ والمياه الإقليمية في الحرب التي تخوضها في اليمن.
وفيما يعني تغيير النظام تحوّلاً كاملاً للعلاقة بين الجارتين، فإن المعارضة الإريترية لا تتمتع بأي إجماع فسمتها الدائمة هي التشتت جغرافيًا وفكريًا. كما أنها تفتقد للحلفاء الاستراتيجيين، فبينما فقدت دعم الجانب الإثيوبي، لا تتخذ منها الجبهة السودانية موقفًا واضحًا.