جدد مؤتمر دعم الانتقال الديمقراطي في السودان الذي استضافته العاصمة الفرنسية، بارس، هذه الأيام، الآمال السودانية، الرسمية والسياسية، في إزاحة العقبات الاقتصادية التي تعرقل جهود التنمية والاستثمار في البلد الأفريقي. الذي عانى من العزلة الدولية خلال 30 عاماً في ظل النظام الراحل للرئيس عمر البشير. 

وشارك في جلسات مؤتمر باريس الذي بدأ أمس واستمر حتى اليوم 15 رئيسا أفريقيا إلى جانب مجموعة من ممثلي الجهات والمنظمات الاقتصادية والمانحين والمصرفيين من 40 دولة. حيث تعرض الحكومة السودانية خطة طموحة لجذب الاستثمارات بعد وعود دولية بالمساعدة في إسقاط الديون المستحقة على السودان. 

وتقدر قيمة الديون المستحقة على السودان ما يقرب من 56 مليار دولار لدول ومؤسسات مالية، منها 38% ديون مستحقة لنادي باريس أي ما يعادل 22 مليار دولار. وهي القضية التي تشكل العبء الأكبر أمام الاقتصاد السوداني، حيث وعد الرئيس الفرنسي خلال المؤتمر بحلها قائلاً في كلمه خلال الجلسة الافتتاحية: “سنعمل على حل مشكلة الديون حتى لا يوجد سبب لعدم الاستثمار فى السودان”. 

توافق وطني في مؤتمر باريس 

بعيداً عن أي خلافات أو انقسامات، كان الوفد السوداني المشارك في المؤتمر ممثلاً للمشهد السياسي في السودان بشكل عام، فإلى جانب مشاركة رئيس المجلس السيادي، الفريق عبد الفتاح البرهان ورئيس مجلس الوزراء، عبد الله حمدوك, كان هناك ممثلون عن القطاع العام والخاص ومجموعة من الممثلين عن شباب الثورة.  وهو ما كان لافتاً للاهتمام الدولي بدعم التحول المدني والديمقراطي في السودان بالموازاة مع دعم جهود المجلس العسكري والحكومة خلال المرحلة الانتقالية. 

ويرى محللون أن تمثيل الوفد السوداني للقطاعات الرسمية وغير الرسمية يأتي في إطار أهمية الجناحين السياسي والعسكري داخل السودان منذ الثورة والإطاحة بنظام البشير. حيث لا يزال المجلس العسكري يتحمل أعباء ثقيلة في إدارة البلاد والتعامل مع التحديات الأمنية والاقتصادية التي لا يزال يعاني منها السودان. 

كان الرئيس الفرنسي قد أشار في كلمته إلى أهمية التوافق الوطني في السودان ودعم جهود الحكومة الانتقالية قائلاُ : “هناك تأييد كامل لحكومة الفترة الانتقالية من أجل إنجاح عملية الانتقال الديمقراطي والوصول لانتخابات حرة ونزيهة”.

خطة حكومية طموحة  

خلال يومي المؤتمر قدم الوفد الحكومي السوداني بالتعاون مع القطاع الخاص 18مشروعا تنمويا بقيمة 15 مليار دولار، لإعادة البلاد على مسار النمو، وخفض نسب التضخم وزيادة قيمة العملة المحلية وخفض نسب الفقر والتضخم.

وتتركز المشروعات في قطاعات الزراعة والطاقة والنقل والبنية التحتية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وهو ما قدمه وزير المالية والتخطيط السوداني، جبريل ابراهيم في إطار تطلع الحكومة لشراكات استراتيجية فى قطاعات الانتاج المختلفة والتي تتميز فيها السودان. 

وتتضمن المشروعات الاستثمارية مشروع ميناء جديد في سواكن الساحلية (شرق على البحر الأحمر) من خلال الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتأهيل الناقل الجوي الوطني بشراء أسطول جديد من الطائرات. وكذا تأهيل خدمات التموين والمناولة الأرضية، بتكلفة تقدر بملياري دولار أمريكي، إضافة إلى تأهيل الخطوط البحرية السودانية بتكلفة ملياري دولار، وإصلاحات بالسكك الحديدية بتكلفة تبلغ 2.6 مليار دولار.

وعرضت وزارة الطاقة مشروع “إنارة” لزيادة الإنتاج من الكهرباء بـ1000 ميغاوات، ومشروعات في قطاع التعدين تتضمن إنتاج 92 طناً من الذهب و3100 طن من الفضة و600 ألف من النحاس، و200 ألف من الزنك، بتكلفة قدرت بـ700 مليون دولار. 

واستحوذ القطاع الزراعي على قائمة المشروعات الاستثمارية الأكثر اهتماماً سواء من قبل الحكومة أو المستثمرين الأجانب خلال جلسات المؤتمر نظراً للقيمة التي تمثلها الأراضي السودانية الخصبة. حيث عرضت الحكومة مشروعات تقدر قيمتها 4 مليار دولار، منها تأهيل مشروع الجزيرة الزراعي ومشروع للصمغ العربي، ونظام للري في جبل مرة بدارفور، ومشروعات مسالخ حديثة لقطاع الثروة الحيوانية.

تعهدات حكومية

لتنفيذ هذه المشروعات تعهد وزير المالية السوداني أمام المشاركين في المؤتمر بالتزام الحكومة بتوفير البيئة الملائمة من خلال الإصلاحات المتعلقة بالإطار القانوني لجذب الاستثمارات الأجنبية. وهي الإصلاحات التي وصفها رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك بأنها تأتي في إطار سياسات جادة لإعادة السودان واقتصاده إلى الساحة الدولية.

كانت الحكومة الاقتصادية قد نفذت برنامجا اقتصاديا قاسيا ضمن الإصلاحات الهيكلية التي وضعها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث تم تحرير العملة ورفع الدعم عن السلع الأساسية بما فى ذلك الأدوية وإطلاق آلية السوق والقطاع الخاص.

إلا أن عددا من الأعباء الاقتصادية في مقدمتها تراكم الديون التي خرجت عن سيطرة الدولة دون وجود فرصة حقيقية لسدادها أو جدولتها، ظل العائق أمام تنفيذ البرنامج الاقتصادي الطموح والحصول على فرص استثمارية حقيقة، بينما لا تزال التحديات الاقتصادية المحرك الرئيسي للاحتجاجات في الشارع السوداني في ظل استمرار أزمات توفير السلع والاحتياجات الرئيسية للمواطن مع ارتفاع نسب التضخم وأسعار السلع. 

وتتضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي في السودان سلسلة من القوانين شملت اعتماد النظام المالي المزدوج، وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وقانون تشجيع الاستثمار. إضافة إلى اعتماد النظام المالي المزدوج، بعد أن كان النظام المالي في السودان أحادياً يعتمد على النظام الإسلامي، وهو ما يفتح الباب أمام الشركات العالمية والمصارف الدولية للدخول إلى السوق السودانية.

أما القانون الثاني، فهو الشراكة بين القطاعين العام والخاص لسنة 2021، الذي يهدف إلى مساعدة القطاعات الحكومية المختلفة في تحقيق أهدافها الإستراتيجية وتحفيز القطاع الخاص المحلي والأجنبي للدخول في شراكات مع القطاع الحكومي. 

حصيلة المؤتمر 

وفق تصريحات لرئيس الوزراء السوداني، عبد الله حمدوك، فإن الحكومة تأمل في أن تنتهي قمة باريس إلى شطب 70% من ديون الخرطوم. إلا أن تقارير إعلامية فرنسية نسبت إلى مصادر استهداف القمة معالجة الديون الجماعية فقط، على أن يتم النظر إلى الديون الثنائية لاحقاً.

في مبادرة فرنسية، أعلن ماكرون أن بلاده قررت شطب كامل الديون المستحقة على السودان والتي تبلغ ما يقرب من خمسة مليارات دولارمن أجل مساعدة السودان على الانتقال الديمقراطي والتحرير من أعباء الديون. كما أعلن عن قرض فرنسي للخرطوم بقيمة مليار ونصف المليار دولار لمساعدتها في تسديد متأخراتها من الديون لصندوق النقد الدولي.

اقرأ أيضا:

السودان.. حكاية 27 عامًا في قوائم العقوبات 

 

وتوالت المبادرات الدولية حيث قدمت الولايات المتحدة وبريطانيا والسويد وآيرلندا قروضاً لدفع متأخرات السودان للبنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي. كما أعلنت المملكة السعودية تقديم منحة للمساهمة في تغطية جزء من الفجوة التمويلية للسودان لدى صندوق النقد الدولي بحوالي ٢٠ مليون دولار وتحويل رصيد المملكة في حسابي الطوارئ والرسوم المؤجلة لدى صندوق النقد الدولي، للمساهمة في معالجة متأخرات وتخفيف أعباء الديون على السودان. 

وشاركت القاهرة في المبادرة الدولية لتسوية مديونية السودان من خلال استخدام حصة مصر لدى صندوق النقد الدولي لمواجهة الديون المشكوك بتحصيلها. حيث عرض الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال مشاركته في أعمال مؤتمر باريس استعداد مصر لنقل التجربة المصرية في الإصلاح الاقتصادي وتدريب الكوادر السودانية.

اقرأ أيضا:

عن الحسابات المصرية في دعم السودان

 

دوافع الدعم الدولي للسودان 

يرى مراقبون أن عودة انخراط السودان في المجتمع الدولي يعود لأسباب أخرى في مقدمتها فتح وتطبيع العلاقات مع اسرائيل، والتي فتحت أبواب الغرب للسودان بداية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

وهو ما جاء في إطار تحركات أمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وإلغاء العقوبات الاقتصادية عليها. 

ويبقى الرهان الدولي على دعم السودان في تقديم نموذج ناجح للانتقال السلمي للسلطة في أفريقيا، وهو ما يظهر في دعم المعادلة السودانية الصعبة بشقيها من المكون العسكري والمدني.  حيث تتميز التجربة السودانية بخصوصية يمكن أن تجعلها نموذجا للتحول الديمقراطي وحلحلة بعض المشاكل الأفريقية المشابهة. 

ورغم الزخم الدولي والتعهدات بمساعدة السودان إلا أن تحذيرات رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فكي، خلال كلمته بمؤتمر باريس من استمرار انعدام الاستقرار في محيط السودان والمشاكل الحدودية مع إثيوبيا والخلافات بشأن مياه النيل والنزاع مع تيغراي. تبقى قائمة دون حلول جذرية، وهو ما ترجمه أيضاً تصريح لرئيس الحكومة السودانية قائلاً : “نطمح أن يكون مؤتمر باريس عودة السودان إلى المجتمع الدولي، لكن نحاول ألا ترفع سقف توقعاتنا”.