أثارت تصريحات وزير الخارجية، سامح شكري بشأن قدرة الحكومة التعامل مع الملء الثاني لسد النهضة الإثيوبي. والتقليل من حجم الضرر المتوقع على مصر، استياء ورفض عدد من الخبراء القريبين من ملف سد النهضة. خاصة في التوقيت الحرج لهذه التصريحات قبل أقل من 40 يومًا على بدء الملء الثاني للسد. كذلك الحملة الدبلوماسية الدولية التي تنفذها مصر والسودان لرفض والتحذير من أي إجراءات أحادية لإثيوبيا دون التوقيع على اتفاق ملزم يحكم عمليتي الملء والتشغيل.

وقلل شكري من خطورة الملء الثاني لسد النهضة في تصريحات تلفزيونية خلال مشاركته في أعمال مؤتمر باريس لدعم السودان. “نحن مطمئنين فلدينا رصيد من الآمان من خزان السد العالي. لدينا ثقة أنه لن يكون مؤثر على المصالح المائية المصرية. ويمكن التعامل معه في إطار الإجراءات المحكمة لإدارة المواد المائية المصرية”.

وربط شكري في تصريحاته التحركات المصرية بشأن سد النهضة بمدى وقوع ضرر ذو شأن على المصالح المصرية في مياه النيل. من خلال تأثر إمدادات وتدفقات المياه. “أي تفاقم للأمر مرتبط بوقوع الضرر. وإذا وقع يمكننا التعامل مع الأمور دون الحاجة للتصعيد”.

كما أكد في الوقت نفسه: “إذا ما تم اتخاذ أي إجراءات أحادية من إثيوبيا. ووقع أي ضرر جسيم على دول المصب. لن تتدخر مصر باتخاذ أي إجراءات للدفاع عن مصالحها وضمان أمنها المائي والدفاع عنه”.

وأضاف شكري :”الملء الثاني هو إجراء لكن أي ردود أفعال من قبل مصر مرتبطة بوقوع ضرر مادي وتصرف غير مسئول. من خلال استغلال هذا المنشأ في غير هدفه الرئيسي. في هذه الأوقات نأخذ إجراءات لحماية مواردنا المصرية”.

وزير الخارجية سامح شكري

الملء الثاني.. وتدفقات المياه لمصر

وفق الرواية الإثيوبية فإنه من المنتظر تخزين 13.5 مليار متر مكعب من المياه خلال الموسم المطري المقبل المنتظر بدايته في يوليو. ما يمثل ما يقرب من 20% من تصرفات النهر التي تبلغ في المتوسط من 50 مليار متر مكعب خلال الموسم المطري. إذ يمتد من يوليو حتى سيبتم تصل إلى 100 مليار متر مكعب في حالة الفيضان المرتفع.

تحصل مصر على حصة مقدرة بـ55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل سنويًا حسب اتفاقية 1959 الموقعة مع السودان. حيث يتم تخزين باقي المياه المتدفقة من النيل الأزرق والنيل الأبيض في بحيرة ناصر وهو ما يطلق عليه المخزون الاستراتيجي لمصر. وإلى جانب مخزون المياه في البحيرة والحصة السنوية من مياه النيل. بدأت الحكومة المصرية خلال الـ4 سنوات الماضية عدة مشروعات ضمن خطة قومية لتنمية الموارد المائية لزيادة إنتاج المياه من مصادر غير تقليدية مثل تحلية مياه البحر.

كذلك التوسع في مشروعات إعادة تدوير المياه حيث وصلت مصر إلى أعلى معدلات في كفاءة استخدام المياه أفريقيًا وعربيًا. إضافة إلى مشروعات حصاد مياه الأمطار وتبطين الترع لمنع تسربات المياه في الدلتا. بينما لا تزال محدودية الموارد المائية تضع مصر تحد خط الفقر المائي حيث يقل نصيب الفرد إلى 500 متر مكعب سنوياً مقارنة بالمعدل العالمي المقدر بـ1000 متر مكعب حسب تقديرات الأمم المتحدة.

ويأتي تصاعد الموقف بشأن ملء السد في وقت تمر فيه مصر بموسم أقصى الاحتياجات المائية. الذي يزيد فيه الطلب على المياه في الأراضي الزراعية ومحطات مياه الشرب.

قرارات حكومية متشددة

وتقول مصادر بوزارة الموارد المائية والري إن هناك تقديرات مختلفة لسد الاحتياجات الأساسية للقطاعات المختلفة بداية من الزراعة والصناعة. حتى الاستخدامات الحضرية المنزلية سواء من خلال المصادر غير التقليدية التي توسعت فيها الوزارة مؤخرًا. أو من خلال استغلال جزء من المخزون الاستراتيجي في بحيرة ناصر. إلا أن جميع الإجراءات لا يمكن الاعتماد عليها لسنوات متتالية. إذا ما استمر ملء خزان سد النهضة بالطريقة الإثيوبية بفرض الأمر الواقع من دون اعتبار التداعيات على المصالح المصرية.

اتخذت الحكومة المصرية عددًا من القرارات أكثر تشددًا لترشيد استخدامات المياه. في مقدمتها تخفيض المساحات المنزرعة بالمحاصيل الشرهة للمياه مثل الأرز والموز ووقف تصديرها. وإطلاق عده حملات لترشيد الاستخدامات المنزلية للمياه.

ووفق تقديرات دراسات وطنية داخل مصر فإن أي نقص يبلغ 5 مليارات متر مكعب من حصة مصر يعني تبوير مليون فدان. وتشريد 5 ملايين مواطن. حيث إن انخفاض منسوب نهر النيل سيتسبب في توقف محطات مياه الشرب عن العمل، وتملح الأراضي الزراعية.

مشروع تبطين الترع

وحسب مصادر فنية شاركت في مفاوضات السد فأن تزامن ملء خزان سد النهضة مع أي ظواهر لجفاف في النيل الأزرق. سيكون له تداعيات بالغة الخطورة على الأمن المائي المصري. وهو ما لا يمكن التكيف معه إذا ما استمر لعدة سنوات. أو ما يعرف بالجفاف الممتد. وهو ما كان سببًا في خلافات عديدة خلال جولات التفاوض سواء على المستوى الثلاثي حتى الذهاب إلى واشنطن في نوفمبر 2019. وحتى الاجتماعات التي تمت تحت رعاية الاتحاد الأفريقي ظل هناك العديد من النقاط الفنية العالقة حول إدارة عملية ملء السد من دون التأثير على مصالح دولتي المصب.

لتجاوز الأثار الفنية المحتملة من سد النهضة ضحت الحكومة بمساحات كبيرة من زراعات الأرز وهو محصول استراتيجي إلى جانب محاصيل أخرى. فضلًا عن إنفاق مليارات الجنيهات في تبطين الترع والمصارف. ما يجعل أي تعويض للنقص بسبب الملء الثاني عبئًا إضافيًا على موارد الدولة المصرية دون أن تتكلف إثيوبيا أي تعويض عن الأضرار المحتملة.

الأثر القانوني لتجاوز الملء الثاني للسد

حسب البند الخامس في اتفاق المبادئ فإنه يستوجب الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء والتشغيل والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة. بالتوازي مع عملية بناء السد والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر. مع إخطار دولتي المصب بأية ظروف غير منظورة أو طارئة تستدعي إعادة الضبط لعملية تشغيل السد.

كذلك ومع تعثر جولات التفاوض المختلفة التي أعقبت التوقيع على اتفاق المبادئ في 2015. فرضت إثيوبيا سياسة الأمر الواقع بإجراء الملء الأول للسد من دون موافقة مصر والسودان. واكتفت بإخطار من وزير الموارد المائية الإثيوبي لنظراءه المصري والسوداني خلال اجتماع تم تحت رعاية الاتحاد الأفريقي. دون انتظار المواقفة أو مشاركة الدولتين في كيفية أو آلية التخزين. ما كان له تداعيات سلبية على السوادن بالجفاف ونقص المياه في محطات الشرب خلال فترة التخزين. ثم زيادة كميات الفيضان الذي أغرق مناطق عديدة من السودان العام الماضي.

ويرى مراقبون أن سياسة الأمر الواقع التي تتبعها إثيوبيا وعدم السماح لأي من الدولتين بالتدخل سواء في ملء أو تشغيل السد فيما بعد هي الخطر الأكبر. الذي يجعل من سد النهضة مشروعًا يتخطى الأهداف المعلنة منه. بتوليد الكهرباء أو تلبية احتياجات تنموية ليكون آداة في ممارسة ضغوط على دولتي المصب أو التحكم في مياه النيل الأزرق.

الخلاف الرئيسي في المفاوضات الأخيرة كان في صياغة اتفاق قانوني ملزم وشامل يمكن أن يحكم عمليتي إدارة وتشغيل السد. والذي سيكون بمثابة الإطار القانوني المنوط به حماية مصالح مصر والسودان وإضفاء صفة الإلزامية على بنود الاتفاق. ومن ثم الإحالة دون أي إجراءات أحادية الجانب من قبل إثيوبيا. إلا أن مراقبين أكدوا أن تجاوز مصر لهذا الاتفاق والسماح لإثيوبيا بتمرير الملء الثاني للسد كما حدث العام الماضي في الملء الأول. سيكون له تأثير قانوني ضار على الموقف المصري والسوداني.

جانب من مفاوضات سد النهضة التي استمرت لأكثر من 10 سنوات

تمرير الملء الثاني والأثر السياسي

وفق حملة التصعيد الدبلوماسي التي بدأتها مصر، تم التعامل مع الإجراءات الإثيوبية المتعنتة في ملء خزان سد النهضة. على أنها تهديد لحالة السلم والأمن الإقليمي. وهو الأساس الذي صيغ وفقًا له خطاب مصر لمجلس الأمن وخطابات مصر لدى المنظمات والدول.

ورغم حالة الارتياح التي تحدث بها وزير الخارجية في تصريحاته إلا أن تصريحات تلفزيونية أخرى لوزير الموارد المائية والري. حذرت من خطورة تمرير الملء الثاني للسد. “ملء سد النهضة هو صدمة من الصدمات التي تنتقص من كمية المياه الواردة إلى مصر. وهو ما يعني جفاف صناعي والخطر الأكبر إذا ما تزامن هذا الملء مع جفاف طبيعي أو انخفاض لكمياه مياه الأمطار”.

وتأتي تصريحات وزير الخارجية في وقت بدأت عدد من القوى الفاعلة إقليميًا ودوليًا التدخل لطرح مبادرات للوساطة من أجل دعم الحوار واستئناف المفاوضات. بينما يرى خبراء في الشئون السياسية أن إبداء أي مواقف تتسم بالمرونة أو الاستعداد لتقديم تنازلات. قد يضر الموقف المصري، خاصة بعد إشارات ورسائل قوية وجهها الرئيس السيسي من قبل عقب فشل المفاوضات.

إعلان مبادئ سد النهضة 2015

ويرى المراقبون أن حديث وزير الخارجية وتقليله من شأن الأضرار المحتملة من الملء الثاني يحمل أبعادًا سياسية. أفادت موقف المفاوض والطرف الإثيوبي. وتضعف حجتنا ومبرراتنا في رفض الملء الثاني دون اتفاق مسبق ومكتوب وملزم قانونًا.

ويبقى الضرر المعنوى الأكثر خطورة على مصالح مصر في النيل الأزرق بخاصة مع جمود الموقف الإثيوبي وزيادة التعنت بشأن أي مقترحات. حيث كان المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية، دينا مفتي صرح أن ملء خزان سد النهضة كاملًا يمكن أن يحدث خلال سنتين. حيث إن العامل المحدد للتخزين هو مدى التقدم في الإنشاءات الهندسية دون التقيد بأي التزامات قانونية مع مصر والسودان.