نال الصحفيون في فلسطين قدرًا ليس قليلاً من جرائم الاحتلال الإسرائلي، بعضها استهدافٌ مباشر بالقتل، آخرها الصحفي يوسف أبوحسين. تلك سياسة الاحتلال، وهي ليست فقط ساعية لهدم الحقيقة، ولكن قصف رُسلها على شتى تنوعاتهم.
واستشهد، فجر الأربعاء، يوسف أبو حسين، الصحفي في إذاعة الأقصى المحلية؛ جراء قصف قوات الاحتلال لمنزله في حي الشيخ رضوان بغزة.
من غزة إلى الضفة والقدس وغيرهما من المناطق الفلسطينية، واجه الصحفيون أحداثًا مأسوية؛ نظرًا لأن الموت أقرب غريب ينتظرونه.
من بين الركام ودخان القصف، يطلُّ صحفيون لسرد معايشاتهم، والأحداث اليومية التي تواجههم. في المقابل يحصي زملاؤهم في المكاتب أعداد من طالتهم آلة الجُرم الإسرائيلية؛ فتنتج عن ذلك قصصٌ لرُسل الحقيقة.
الاحتلال يقصف كل شيء
“ما في أيِّ طريقة لحماية نفسي”، يروي سامي عاطف (مصور حر)، وقائع معايشته خلال الحرب على قطاع غزة. وذلك على وقع اشتداد المواجهات مؤخرًا بين قوات الاحتلال والشعب الفلسطيني.
يعيش سامي المواجهات حاملاً على كتفه كاميرا لنقل الأحداث (فيديو وصور)، فمثلما لا يستطيع حماية نفسه، فلا يستطيع حماية معداته. ويقول: “سواء كنت صحفيًا حرًا أو تابعًا لأيِّ وكالة عالمية، فالإسرائيلون يقصفون كل شيء”.
وسبق أن قصف الاحتلال مبنى الوكالات الإعلامية الذي يضم قناة الجزيرة ووكالة أسوشيتيد برس. واستهداف عدد آخر من المكاتب العربية والدولية، إذ يقول: “أغلب مكاتب الصحفيين بغزة تم قصفها من مكاتب وقنوات محلية ودولية وعربية”.
شارة الصحفي لا تكفي
وسامي، الذي رغم ارتدائه ما يفيد بكونه صحفيًا، إلا أن قوات الاحتلال استهدفته بشكل مباشر لإصراره على نقل مجازر الاحتلال. وأصيب منذ 4 أيام بأحد ذراعيه والكتف.
يقول سامي: “بيتم استهدافنا رغم ارتداء علامة تشير إلى أننا صحفيون. كما حدث مع الزملاء في وكالة الأناضول، تم قصف سيارتهم رغم وجود نفس العلامة على السيارة وارتدائهم الزي الصحفي”.
يعيش سامي وزملاؤه واقعًا يفتقر لأدنى مستويات الأمان طوال اليوم حتى في منازلهم. فيتابع: “نعطي للعالم جميع الأحداث وبنفس الوقت ننتظر الموت”.
يتحدث سامي وهو بجوار القصف “العنيف” والقريب منه؛ عندما كان يحاول التقاط صور وفيديوهات لإثبات جرائم الاحتلال. ويقول: “القصف مستمر وعنيف جدًا وقريب منَّا”.
عينٌ على الحقيقة.. وأخرى على العائلة
“الناس يهربون من القصف ونحن نذهب لنصوّره”، هكذا يروي خالد لباد، الصحفي بإحدى الوكالات العالمية الواقع اليومي جراء القصف؛ فالقلق لا يستقر بداخله.
على الصعيد الشخصي يمنع عمل خالد من تواجده رفقة أسرته لحمايتهم، وتقديم الدعم المعنوي لهم. فيقول: “من بداية التصعيد أرسلت زوجتي وأولادي لبيت أهل زوجتي؛ لأنني لن أتمكن من التواجد معهم، وتوفير الدعم المعنوي واطمئن عليهم هاتفيًا”.
ويضيف: “الناس يبقون مع عائلاتهم لحمايتهم وتوفير الأمن لهم، ونحن نتركهم”. واعتادت الأسر الفلسطينية على اتباع مجموعة من الإجراءات لتفادي الإصابة جراء القصف، بجانب الدعم المعنوي طوال تلك الفترة التي قد تطول أول تقصر.
“شعور صعب أنني أعمل وأتنقل بين الأماكن التي يتم قصفها، وأرى الشهداء والجرحى بشكل يومي”، يقول خالد الذي يحاول أن يتحقق من معلوماته ويرسلها لوكالته على مدار الساعة.
تُلاحق خالد أسئلة أطفاله: “بابا متى سنعود لبيتنا.. متى ينتهي القصف.. مش قادرين ننام من صوت القصف”. أسئلة مؤلمة، لا إجابات لها لدى خالد أو وزملائه الصحفيين الذين يتواجدون قرب الأحداث.
فراس: اعتدوا عليّ لوقف البث الحيّ
لم تقف مجازر الاحتلال حد الشعب الفلسطيني، بل شملت الاعتداء على الصحفيين ومراسلين الوكالات والمصورين بشكل مباشر. ولأنه قريب من مكان الحدث، لنقل بثّ حي، قامت قوات الاحتلال بالاعتداء على مراسل فضائية “سكاي نيوز” فراس لطفي.
واصل المراسل عمله وظهر على شاشة محطته، ليروي ما تعرَّض له، وهو يرتدي حامل الكتف بعد الإصابة. ويقول: “قامت قوات الاحتلال بالاعتداء عليَّ بظهر السلاح الآلي، لمنعي من متابعة الحدث ومحاولة تكسير الكاميرا”.
وكان فراس يقوم بتغطية حادث الدهس الذي وقع في حي الشيخ جراح بالقدس. وقتلت الشرطة شابًا فلسطينيًا بعد قيامه بدهس 4 أفراد من الشرطة الإسرائيلية بالحي الذي يشهد توترًا كبيرًا.
أثقالٌ على الكتف.. ومآسٍ على الأرض
يتنقل وسط القصف والركام، حاملاً على كتفه وزن 7 كيلو جرامات تقريبًا وربما أكثر، حيث الكاميرا التلفزيونية والمعدات ودرع الحماية. يبدأ محمود عبيد سرد معاناته وهو يعمل مراسلاً لإحدى الوكالات العربية.
يخرج عبيد يوميًا من منزله محملاً بمجموعة من الوصايا من أسرته، أغلبها يدور حول “حماية نفسه”، رغم أن من بالمنزل ليسوا في مأمن.
يستقطع عبيد جزءًا من راحته القصيرة لإطلاعنا على أوضاع الصحفيين في فلسطين، فيقول: “العدو يحاول بقدر الإمكان إسكات الصوت والصورة، ولكن برغم كل الصعوبات والخطر إلا أن كل الصحفيين يقومون في عملهم على أكمل وجه”.
“أيِّ تحرك بالميدان يحمل خطورة لأن ما حد بيعرف أين سيكون القصف”، يقول عبيد الذي رغم ذلك يواصل عمله يوميا على مدار 12 عامًا في قطاع غزة.
مهلة ساعة واحدة لـ”الجلاء”
ينقلنا عبيد من الميدان إلى الحديث عن قصف قوات الاحتلال لمبنى الجلاء الذي يضم وكالات عالمية. في هذا الصدد أشار إلى أن مالك المبنى تلقى اتصالاً يبلغه بإخلاء المبنى لأن القوات ستقصفه.
“ساعة واحدة” هي المهلة الزمنية التي أعطيت برج الجلاء الذي يتكون من 11 طابقا، ويضم سكانا ومكاتب لـ23 وسية إعلامية. ورغم ذلك لم يتم الوفاء، فيقول عبيد: “خلال 45 دقيقة تم قصف البناية حتى أصبحت كومة من الركام”.
حاول عبيد أن يجمع أهم المعدات والكاميرات تاركًا الكثير من ذكرياته على مدار سنوات. ويتابع: “شعور لا يوصف، مكتب عيشنا فيه أكثر من 12 عامًا كان بمثابة البيت الثاني لكل الزملاء، حزن شديد، ذكريات الأمل والفرح والحزن كله في هاذا المكتب”.
“مراسلون بلا حدود” تتقدم بشكوى للجنائية الدولية
بعد استهداف المبنى تقدمت منظمة “مراسلون بلا حدود” بشكوى أمام المحكمة الجنائية الدولية. واعتبرت أن هذا الاستهداف قد يرقى إلى مصافّ “جرائم الحرب” في فلسطين، وفق ما صرح به متحدث باسم المنظمة لوكالة الأنباء الفرنسية.
الشكوى الموجهة إلى المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودة بتاريخ 16 مايو، جاء فيها “أن الاستهداف المتعمد لوسائل الإعلام والتدمير الكامل والمتعمد لمعداتها يُعدان جريمة حرب وفقا للمادة الثامنة من ميثاق روما”.
“الجيش الإسرائيلي لم يتسبب فقط بإلحاق أضرارٍ مادية كبيرة جدًا بأقسام التحرير التي يُعَد صحافيوها ومعداتها ومَرافقها محميين بموجب مقتضيات حماية السكان المدنيين، بل أعاق أيضا التغطية الإعلامية لنزاع يؤثر بشكل مباشر وخطير على السكان المدنيين”، تقول المنظمة.
واعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو أنّ المبنى كان “هدفًا مشروعًا تمامًا”. وأكد أن استهدافه جاء بناءً على معلومات استخبارية.
وفي 2018 تقدمت “مراسلون بلا حدود” بشكوى للمحكمة الجنائية الدولية، على خلفية استهداف الجيش الإسرائيلي بشكل متعمد عشرات الصحافيين في فلسطين، الذين يتولون تغطية مظاهرات (مسيرة العودة).
وطالبت المنظمة بضم أحداث الأيام الأخيرة إلى التحقيق الذي فُتح في مارس بشأن جرائم ارتكبت في فلسطين. في مبادرة رفضتها إسرائيل لكنها لقيت ترحيبا فلسطينيا.
قصف “الشروق” الإعلامي
سبق قصف مبني الجلاء، قصف مبنى “الشروق” الذي ضم عددًا كبيرًا من المؤسسات الإعلامية الدولية والمحلية. ويضم: “قناة روسيا اليوم، التلفزيون الألماني (زي دي إف) تلفزيون دبي، قناة روسيا اليوم بالإنجليزية، قناة الجزيرة الإنجليزية، قناة برس، جريدة الحياة الجديدة، قناة الأقصى، إذاعة الأقصى، قناة القدس اليوم، قناة دبي 12، مرئية الأقصى، مؤسسة طيف الإعلامية، مؤسسة هنا القدس الإعلامية، شركة فلسطين للإنتاج الإعلامي”، بحسب نقابة الصحفيين الفلسطينيين.
استهداف “الجوهرة”
وتقول النقابة إن هذه المرة الثانية التي يستهدف فيها جيش الاحتلال مقار المؤسسات الإعلامية منذ بداية هجماته على قطاع غزة. وتضيف أن الاحتلال دمّر، في 11 مايو، بناية “الجوهرة” في غزة والتي تضم مقار 13 مؤسسة إعلامية ومنظمة غير حكومية.
ومن جانبه، دان الاتحاد الدولي للصحفيين الهجوم. وطالب المجمتع الدولي باتخاذ إجراءات عاجلة لمحاسبة إسرائيل على جرائمها ضد الصحفيين. بالإضافة إلى القصف المتعمد، حيث عمد جيش الاحتلال إلى ضرب واعتقال الصحفيين الذين يغطون الأحداث في الضفة الغربية.
الاتحاد الدولي للصحفيين يلاحق الاحتلال دوليًا
وطالب الاتحاد بشكل متواصل من حكومة الاحتلال بالتحقيق في “قتل مقصود” للصحفيين الفلسطينيين. وقدم شكويين لدى المقررين الأممين في شهر ديسمبر الماضي.
ويصر الاتحاد الدولي للصحفيين على انعدام التحقيق الشفاف في حوادث استهداف الصحفيين. ويقول إن الحصانة التي يتمتع بها مرتكبو هذه الجرائم هي بيئة خصبة تولد مزيدا من الهجمات والاعتداءات على الصحفيين في فلسطين.
وقال أنطوني بيلانجي، أمين عام الاتحاد الدولي للصحفيين: “إن الاستهداف الممنهج للمؤسسات الإعلامية هو محاولة مخزية من الجيش الإسرائيلي لإسكات صوت الاعلام الذي يقوم بنقل الأخبار عن العنف الذي يمارسه في غزة وهو مخالف للقانون الدولي. ويجب وضع حد لاستهداف الصحفيين والاعتداءات المقصودة عليهم. كما أن الحصانة التي يحظى به المعتدون على الصحفيين تعني أن الصحفيين يواجهون خطرا داهما بتعرضهم لمزيد من الاعتداءات.
وأكد أن الاتحاد سيواصل مطالباته بتحقيق العدالة ووضع حدٍ لكل التهديدات لتي تطال الصحفيين على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية؛ لضمان ألا تمر هذه الجرائم دون عقاب.