غزة تحت القصف
دفعت المواجهة الراهنة الشعبية والعسكرية الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي والتي كادت أن تتدحرج إلى حرب كبيرة في المنطقة بنظرية المؤامرة إلى واجهة الأحداث لتحاول تفسير هذا الانفجار الخطير بعد نحو 7 سنوات من الهدوء.
ثلاث نظريات مؤامرة متعارضة أو متكاملة طرحت أعقاب اندلاع حرب الصواريخ الذي وضع نظرية الأمن الإسرائيلي في دائرة الخطر ربما لأول مرة منذ حرب أكتوبر 1973.
النظرية الأولى:
مؤامرة كان المخطط والفاعل لها إسرائيل وبالتحديد بنيامين نتنياهو. فهو الذي نسج خيوطها لحل أزمته الداخلية وتثبيت زعامته المتصلة لمدة تزيد عن 12 عامًا لإسرائيل والتي أخفقت أربعة انتخابات عامة في أقل من سنتين في منحه أغلبية مستقرة تمكنه من الاستمرار المزمن في تشكيل الحكومة والبقاء بأي ثمن في السلطة التي يبدو أنها أصبحت إدمانًا مرضيًا له مثل كل من يبقون طويلًا في الحكم.
إذ يعرف نتنياهو الذي قضي تقريبًا على اليسار الإسرائيلي وحول المجتمع إلى مجتمع يميني متطرف يخون أي موقف أو شخص (معتدل) أن اضطهاد الفلسطينيين وممارسة أقسى وأقصى أنواع الوحشية العنصرية ضدهم هي شهادة مرور مضمونة لقلب هذا المجتمع المتطرف الذي دفع (معتدلية) إلى الهامش ويستدل هؤلاء على خيوط هذه المؤامرة بما يلي:
من أخذ المباداة في تصعيد التوتر وإشعال فتيل الأزمة في نقطة ملتهبة وحساسة هي (القدس )وفي الشهر الأهم والأكثر حساسية وقداسة دينيًا عند المسلمين وهو (شهر رمضان كان الطرف الإسرائيلي على مدى ثلاثة أسابيع أو أكثر متمثلًا في إغلاق بوابة دمشق المؤدية لحرم الأقصى، ومنع المسيحيين الفلسطينيين من مسيرة الآلام ،والاعتداء بالأسلحة وقنابل الغاز على المصلين المسلمين داخل المسجد نفسه، وترافق ذلك مع عمليات إخلاء قسري لسكان فلسطينيين في حي الشيخ جراح القريب من القدس .
وكان يعرف أن الاستفراد بالفلسطينيين العزل وطردهم من منازلهم أو الاعتداء عليهم وإصابة المئات منهم في الحرم الشريف وخارجه ستؤجج الاحتجاجات الشعبية والاشتباكات مع المستوطنين المتطرفين وشرطة وجيش الاحتلال كما كان يعرف أنها ستستنفر رد فعل من المقاومة الفلسطينية التي لن تقف ساكتة على افتراء القوة وانتهاك المقدسات الإسلامية والمسيحية الفلسطينية.
وكان له ما خطط له حسب هذا السيناريو إذا اشتعلت الأراضي الفلسطينية المحتلة بتظاهرات غاضبة وقتل الإسرائيليين منهم من قتلوا وأصابوا ممن أصابوا فردت منظمات المقاومة من غزة بصواريخ وصلت إلى القدس وتل أبيب كثيرة العدد، بمدى أطول، وبدقة أفضل ما أثار هلع الإسرائيليين وحولهم لأمة تعيش في الملاجئ وتموت من الرعب. وانتقمت إسرائيل بأسوأ غارات جوية وبحرية على غزة منذ 2008 ،فقتلت مئات الأطفال والنساء وكبار السن وعائلات بأكملها.
النتيجة هي ارتفاع شعبية نتنياهو وانسحاب القوى التي كانت تتفاوض مع خصمه يائير لبيد بهدف تشكيل حكومة جديدة تحل محل حكومته، وبالتالي قد يصبح أمامه مرة أخرى فرصة سانحة لتشكيل الحكومة بعد إعادة الأمر للكنيست إذا انتهت مدة تكليف لبيد بالمهمة دون إنجاز وهو ما يبدو مرجحًا الآن.
يقول خصوم نتنياهو في إسرائيل إنه مجنون السلطة الديكتاتور الذي لدية استعداد لأن يضحي بأي شيئ للبقاءفي السلطة التي أدمنها هو وزوجته سارة.
النظرية الثانية
تقول إن الانفجار كان مدبرًا من قبل إيران التي رأت أن عليها أن تمنع بقوة المحاولات الإسرائيلية المستميتة والمؤامرة لإفشال مفاوضات( فيينا بين طهران والدول الكبرى لاستعادة الاتفاق النووي الذي ألغاه ترامب. وأن من شأن إشعال توتر هائل في داخلها وعلى حدودها مع غزة أن يلهيها لفترة من الوقت عن تعطيل مفاوضات إذا نجحت ستحقق نجاحات استراتيجية لإيران تنهي بها العزلة الدولية التي أحكمها ترامب وحلفائه العرب والإسرائيليين عليها في السنوات الثلاث الماضية ،وتنهي محنتها الاقتصادية التي نتجت أيضًا عن العقوبات الاقتصادية المؤلمة التي فرضها ترامب وحلفائه عليها.
من شأن إلهاء تكتيكي كبير من هذا النوع أن يوقف سلسلة عمليات استخبارية- ناجحة دمرت فيها إسرائيل منشآت نووية إيرانية ،وعمليات اغتيال لبعض الشخصيات المهمة، بالإضافة لوقف ولو مؤقت لهجمات إسرائيل الجوية الفعّالة ضد مواقع وقوات إيرانية في سوريا نالت بوضوح من فعالية الوجود الإيراني هناك.
هذا التصور تشارك في طرحه معلقون إسرائيليون ومعلقون خليجيون بدات دولهم عملية تطبيع بلا رجعة فيما يبدو مع إسرائيل مهما بلغت حجم الجرائم الإسرائيلية أو بلغ حجم الشهداء والجرحى الفلسطينيين كما تشارك فيه معلقون غربيون وحتى معلقون قريبون من التفكير الجديد لروسيا البراجماتية في السياسة الخارجية.
– حسب هؤلاء لم تكن حماس والجهاد (شاركت الجبهة الشعبية في إطلاق الصواريخ على إسرائيل وهي ليست مرتبطة بإيران!!) اللتان تعتمدان جزئيًا على إيران في الدعم التسليحي والمادي) سوى أدوات تنفيذ بلا إرادة، صدر لها أمر من قيادتها الإقليمية إطاعته دون نقاش أو التفات لحجم الخسائر البشرية الفادح الذي سيلحق بشعبها ، أو التدمير شبه الكامل للبنية التحتية لقطاع غزة!!
المؤامرة الثالثة: حمساوية خالصة للقضاء نهائيًا على ما تبقى من السلطة الفلسطينية
في رأي هؤلاء أن حماس وليس نتنياهو ولا الإيرانيين من دبر لهذا الانفجار العنيف في الموقف، وأن هذا القرار اتخذ كرد حاسم على قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس أحادي الجانب وغير المقنع بتأجيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية (التي كانت جزءامن تفاهمات بين فتح وحماس بشكل أساسي بعد فترة طويلة من انعدام الاتفاق بينهما) وهي انتخابات بدا أن حماس في ظل تفجر الانقسامات داخل حركة فتح مهيأة لتحقيق انتصار كبير فيها ليس في غزة فحسب بل في الضفة الغربية التي حوصرت فيها سواء من السلطة الفلسطينية أو من سلطة الاحتلال اللتين يوجد بينهما اتفاق مهيمن للتنسيق الأمني.
تفجير الوضع بهذه الصواريخ التي وصلت للقدس وتل أبيب ومفاعل ديمونا النووي وحتى إيلات في رأي هؤلاء يعطي لحماس ثلاثة مكاسب استراتيجية:
1- القضاء على ما تبقى من مصداقية للسلطة الفلسطينية والتي تهيمن عليها حركة فتح والتي بدت بحق أمام شعبها والعالم في حرب الأيام الماضية طرفًا عاجزًا عن الفعل لا وزن له حتى لدى العالم العربي الذي يحافظ نظامه الرسمي -المستاء من حماس -على شكلية التعامل معها كعنوان للشعب الفلسطيني.
ففي هذه الأزمة اشتكى قيادي بارز من السلطة أن الزعماء العرب جميعهم تجاهلوا تمامًا الاتصال بمحمود عباس.
في هذا بدت حماس أن لم تكن القائد فهي الأقرب لموقع القائد للشعب الفلسطيني والذي يفرض على فتح مع هذا التطور على الأرض -إن أرادت البقاء -أن تقبل بمشاركة حماس لها على قدم المساواة سواء في الحكم أو في منظمة التحرير.
2- تخفيف الحصار الإسرائيلي الخانق على غزة كجزء من أي تسوية لوقف إطلاق نار طويل الأجل ستسعى إليه القوى الإقليمية والدولية الساعية إلى استعادة الهدوء على هذه الجبهة التي يمكن أن تفجر المنطقة بأسرها خاصة مع العواطف الجياشة التي تحيطها بها كل الشعوب العربية والعالم الإسلامي كما يمكن أن تستثمرها جماعات متطرفة لشن هجمات جديدة في أوروبا والغرب.
3- إعادة الاعتبار لحضور القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية بعد طول موات بدت فيه على الأقل للواهمين من محدودي الأفق والمعرفة أمثال ترامب وكوشنر أنها انتهت إلى الأبد.
المؤامرة هي أضعف الأسباب واستقلال وتصارع الإرادات هو التفسير الأكبر.
____________________________________
غزة تحت القصف
في رأي هذا المقال لا تبدو نظرية المؤامرة صحيحة على الأقل فيما يتعلق بالانفجار الحالي وأن ماحدث لم يكن مخططًا له مقدمًا من أي طرف من الأطراف المشتبكة فيه فعليًا ولا من الأطراف الإقليمية والدولية التي تفاعلت معه. ما حدث هو تدافع حوادث معينة استطاعت أطراف معينة أن تحاول كل حسب مصلحتها توجيه مسارها لتكون الفائزة منها، أو على الأقل أن تكون مكاسبها منها أكثر من خسائرها.
– التفسير يبدأ من حقيقة أن التطرف يغري بمزيد من التطرف هذا هو درس التاريخ ومادته الحية من الاجتماع البشري (لاحظ كيف تدرجنا من الإخوان المسلمين إلى القطبيين إلى التكفير والهجرة والجهاد والجماعة الإسلامية والقاعدة حتى وصلنا إلى مصيبة داعش التي تكفر كل من سبقها).
فاليمين الإسرائيلي بحكومته، بمستوطنيه، بأحزابه الدينية والقومية المتطرفة، بجيشه، وشرطته، واستخباراته التي لاتقيم كلها وزنًا لحقوق الإنسان ولاتخجل من إعلان أن طرد الفلسطينيين أو قتلهم هو الطريقة الوحيدة لإسرائيل يهودية ونقية، استمرأ التنكيل بالفلسطينيين كروتين يومي خاصة مع ثقتهم العمياء في سكوت العالم وتواطؤ أمريكا فواصلوا الطرد التدريجي المستمر منذ سنوات للفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح ولكن هذه المرة مع فضح السوشال ميديا لهذه الجرائم بالصوت والصورة بما فيها تباهى مستوطن بسرقة بيت سيدة فلسطينية [وأنه إن لم يسرقه هو سيأتي مستوطن آخر ليسرقه] ذكر هذا التهجير القسري الوحشي كل الفلسطينيين بأن النكبة ليست حدثًا أو تاريخًا إنما هو سلوك إسرائيلي يومي ضدهم من لا يواجهه اليوم سيواجهه غدًا.
– تلا التهجير في الشيخ جراح منع المسيحيين في عيد القيامة من الوصول لمقدساتهم ((على الجميع -خاصة ممن يستدرجون لإعطاء الصراع بعدًا دينيًا إسلاميًا / يهوديًا وهو في الحقيقة صراع وجودي بين أمتنا وووكيل وظيفي للإمبريالية الغربية))أن يتذكر أن أول من أطلق الدعوة لإنقاذ القدس وقبل شهر كامل تقريبًا لم يكن المسلمون ولا حماس وإنما مطران القدس للروم الأرثوذكس يوحنا عطا الله) ،تلاه منع المصلين المسلمين في الشهر الفضيل من الوصول عبر بعض بوابات الأقصى ،ثم تطور لاقتحام مجمع الأقصى والحرم الشريف ،وإطلاق الغاز المسيّل للدموع والخرطوش، واعتقال وجرح مئات الشبان الفلسطينيين، بالإضافة لهجمات المستوطنين على العرب في سياراتهم وبيوتهم في اللد وغيرها من المدن في الداخل الفلسطيني (خاصة مع ماسمى الاحتفال بوحدة القدس اليهودية) وما واجهه من دفاع عن النفس من الفلسطينيين ضد المستوطنين أو الشرطة ، أو من هجمات صاروخية من المقاومة لوقف استفراد إرهاب الدولة والمستوطنين بالمدنيين الفلسطينيين.
تدحرجت الحوادث ككرة لهب مشتعلة تطرح [تحديًا] وهنا بدأت [الاستجابة] أو الفعل الإرادي المتعمد للأطراف المختلفة.
– فإسرائيل التي زاد تمددها كقوة عظمى إقليمية في سنوات ترامب منتفخة بتفوقها التكنولوجي والاقتصادي والعسكري وبالتطبيع المجاني الذي منحته لها أربع دول عربية وبتفويض السلطة المتزايد لها من واشنطن التي تنقل تركيزها الاستراتيجي إلى الصين وآسيا أصبح لها قدر من الاستقلال النسبي في اتخاذ قرارات إقليمية وهنا يصبح جائزًا أن نتنياهو الجامح المهووس بالسلطة دفع في اتجاه مزيد من التصعيد لكي يبقى في السلطة حتى لو أصبح (نيرون) جديدًا.
– إيران التي تخلصت من هيمنة واشنطن على قرارها السياسي منذ الثورة على نظام الشاه الأمريكي والتي أوشكت على قطف ثمار صبرها الاستراتيجي ،وامتداد نفوذها الإقليمي من العراق ولبنان وسوريا وغزة إلى اليمن بعودة وشيكة لواشنطن /بايدن إلى الاتفاق النووي ،وظهور آفاق للحوار وتخفيف صراعها مع الضفة الأخرى على الخليج ،وربما إيقاف بناء حلف إسرائيلي/خليجي معادي لها من الجائز أن تسعى ويدها حرة للمساعدة في إبقاء الوضع الفلسطيني متفجرًا لإنهاك إسرائيل عدوها الإقليمي الرئيسي وفي قلب داره وعلى حدوده، خاصة وأنها استثمرت في المقاومة الفلسطينة خاصة حماس والجهاد في السنوات التي توقف فيها العرب جميعهم تقريبًا عن الاستثمار فيها خاصة منذ اتفاقيات أوسلو ووادي عربة.
– حماس أيضًا استولت عنوة على السلطة في غزة 2007 [التي انسحبت منها اسرائيل في عهد شارون انسحابًا آحاديًا بسبب كلفة الاحتلال الباهظة 2005] والتي لاتعتبر نفسها مقيدة باتفاقيات أوسلو ولا تفاهماتها الأمنية تتوفر على درجة معقولة من استقلال القرار يمكنها من قبول التحدي والرد على الاعتداءات على المقدسيين وعرب الداخل ومقدسات الأقصى بحرب صواريخ محدودة لن يلومها فيها هذه المرة بعض أو كل أهل غزة عندما تقع الخسائر الفادحة.. فهل سيلام من ينصر القدس بكل رمزيتها الدينية والروحية والتاريخية ؟!.
نحن نتحدث هنا إذن عن صراع إرادات متعادية لها مصالح متناقضة وليس عن (المؤامرة المدبرةسلفا) والشرط الوحيد في خوضه هو أن تكون مستقلًا في قرارك السياسي ولديك أسلحة ما تستخدمها ولديك القدرة – لفترة غير قصيرة – على تحمل الخسائر والتضحيات الناجمة عن قرارك دخول الصراع وهو ما انطبق على إسرائيل، وحماس، وإيران وجعلهم كأطراف فاعلين مؤثرين مباشرين أو غير مباشرين بينما بدت سلطة رام الله وأطراف إقليمية أخرى عاجزة وبعيدة تمامًا عن الفعل بعد أن قيدت اتفاقات وتفاهمات العقود الأربعة عقود ونصف الأخيرة استقلال قرارها السياسي وقدرتها على الحركة والمناورة.