شرق النخيل
«كنت أحيانا أقول هذا الكلام لعصام وأنا أمزح معه. أقول له أنتم بعتم أرضكم لليهود فلا داعي للتظاهر بالحزن ولا لعبارات الوطن السليب وعائدون وأجراس العودة وما أشبه. ولكن لا تهتم يا عصام فنحن سنحرر لكم الوطن السليب ونعيدكم إليه رغم أنوفكم. سنحرمكم من الثروات الفاحشة التي تجمعونها وأنتم تتظاهرون بأنكم لاجئون مساكين».
تبين لك هذه السطور القليلة من رواية «شرق النخيل» للكاتب القدير بهاء طاهر، أن الاتهامات السخيفة والمكذوبة للفلسطينيين، والتي لا يناسبها إلا عنوان «لوم الضحية»، ليست ابنة اليوم ولا الأمس، بل تعود إلى أكثر من نصف قرن (تدور أحداث الرواية في الفترة بين حربي النكسة وأكتوبر). وحتى وإن كان “سمير”، أحد شخصيات هذه الرواية الرائعة، يردد هذه الاتهامات لصديقه الفلسطيني عصام على سبيل المزاح الثقيل «كما كنت أقول لزملائي البحاروة في الشقة مثلا لولا نحن الصعايدة لظل الهكسوس يكتمون أنفاسكم حتى اليوم، أو كما كنت أقول لزميلنا السكندري: دخل الإنجليز مصر ودفعنا سبعين سنة من عمر البلد بسبب غباوة حمّار من بلدكم».
إلا أن مثل هذا المزاح كان يسبب الألم لصديقه الفلسطيني «لأنه يعلم أن مزاحي معه هو بالذات يمثل رأيا». والواقع أن هذا “الرأي” لم يكن نابعا سوى من جهل سمير وتفاهته، ورفضه قراءة الكتب التي كان يهديه إياها صديقه المتألم فلا يفتحها، إلى أن انفجر الصديق فيه ذات مرة، وقرر أن يحكي له “كيف باع جده أرض فلسطين”. حكى له عن قريته “حلحول”، التي قرر الإنجليز تأديبها عقابا لها على ثورتها ضد وعد بلفور وتهجير الصهاينة إليها. روى له كيف جاء الجنود البريطانيين إلى القرية الصغيرة وقالوا لأهلها أن هناك 36 ثائرا أي أن هناك 36 بندقية على الأهالي تسليمها.
ولم يكن الأهالي يعرفون شيئا عن البنادق، فجمع الإنجليز شيوخ القرية وأوقفوهم في الشمس إلى أن تظهر البنادق المزعومة. منعوهم من الجلوس في النهار وفي الليل. في اليوم الثاني طلب الأسرى الماء فطلب الإنجليز البنادق. ومر اليوم الثالث بلا نوم ولا جلوس ولا طعام ولا ماء. وفي اليوم الرابع بدأوا يموتون. «وكان جدي ضمن من ماتوا هناك يا سمير، وهكذا باع جدي أرض فلسطين».
لكن الغريب أن ما ذكرني بـ «شرق النخيل» لم يكن تلك الاتهامات البائسة، بل تذكرتها حين استمعت إلى كلمة النائبة بالكونجرس الأميركي، رشيدة طليب، وهي تحكي عن ما كتبته أمّ من غزة، اسمها إيمان، قالت إيمان: «الليلة سأجعل الأطفال ينامون في غرفة نومنا، حتى إذا متنا، نموت معًا».
إن عبارة «لو نموت معًا» تكاد تكون العنوان الثاني لرواية «شرق النخيل» حتى أنها كتبت على غلاف بعض طبعاتها، إنها عبارة الشابة فريدة وهي تبكي مقتل ابن عمها حسين وتتمنى لو أن الناس كالزرع «لو أننا نموت جميعا، أنا وأنت وكل من نحب، كلنا معا، ف وقت واحد حتى لا يحزن أحد على أحد ولا يبكي أحد على أحد».
هل هي نبوءة المبدع أم أنه الزمن يراوح مكانه؟ المؤكد أن كون فلسطين قضية حقيقية يجعلها تعود دائما مهما غيّبها «التريند»، تعود وتعود معها أسئلتها نفسها، ومنها كالعادة سؤال «الضمير العالمي» و«التعاطف الإنساني». ولا تفوت «شرق النخيل» بالطبع أسئلة كهذه، في المجلة الطلابية «الكرباج» التي يحررها سمير الذي غيّره استشهاد صديقه الفلسطيني، يكتب:
«س: لماذا اهتز الضمير العالمي بهذا العنف لمصرع الرياضيين الإسرائيليين في ميونيخ وصب لعناته على الفدائيين الفلسطينيين الذين نفذوا عمليتهم (مع أنهم ماتوا أيضا) وأين كان هذا الضمير وهذا العنف عندما أغار الطيارون الإسرائيليون الشبان بروح رياضية على الأطفال المصريين في مدرسة بحر البقر وقتلوا منهم العشرات؟ ولماذا كان هذا الضمير نائما عندما هاجم الإسرائيليون الرياضيون قرية دير ياسين الفلسطينية وبقروا بطون الحوامل وقتلوا الأجنة في الأرحام مع الشيوخ والنساء؟
جيم: الضمير العالمي يتحرك حسب الطلب. والطلب دائما في صحف الغرب صهيوني. ولن يشفى هذا المريض العالمي ويتحرك لصالحنا إلا إذا أطلقنا كل مدافعنا وحررنا كل أرضنا».
قد تتفق أو تختلف مع كلمات أبطال بهاء طاهر، الأكيد أن الواقع لم يثبت خطأهم بعد.