هناك مسألتان هامتان ظلتا محل نقاش ضمني في تاريخ الفلسفة والفكر الإنساني، أما المسألة الأولى فتتعلق بطموح الفلاسفة بأن يصبح كل أعضاء المجتمع سمتلكون الوعي، ويمتلكون الفهم والإدراك لكل قضايا مجتمعهم، وأما المسألة الثانية فتتعلق بعدم القدرة على التعامل مع تجليات “الذوق” ورؤى الحدس (الفردي) الذي يمتاز به أصحاب الطريق من المتصوفة. أما المسألة الأولى فـ”طموح” صعب المنال، لم يتمكن المفكرون والفلاسفة على مر عصورهم من الوصول إليه، بل ربما تزداد الفجوة بين الفريفين من حين إلى آخر. وأما المسألة الثانية، فلا أحد يستطيع أن يكذب أو يصدق هذه الحالة المعرفية (الذوقية) التي تعتمد على رؤية ذات طابع خاص، لا تدخل في منظومة المعرفة البرهانية، بقدر ما تدخل في نطاق الإلهام والحدس الفردي.
اقرأ أيضًا.. ابن رشد (1).. “فيلسوف النهضة”
ظل الفلاسفة على مر العصور يمثلون – بطرق متفاوتة- أشخاصا مارقين، يتوجس السياسيون منهم ريبة، ويخشى العامة الإنصات إلى حديثهم، يصورهم “الحس المشترك” كأشخاص تحيا في “أبراج عاجية” بعيدا عن الواقع، وإمعانا في التخلي يقدمونهم كمادة للفكاهة والسخرية، فها هو “ديوجين اللائرسي” يسير في الأسواق ممسكا بمصباح في وضح النهار باحثا عن الحقيقة، وفي الوقت الذي ينبذ فيه (مجتمع) الفلاسفة –إن صح التعبير- أيا منهم إذا ما حاول أن يلجأ إلى تكتيكات اتصالية ما للوصول إلى العامة، أو التقرب منهم، معضلة ربما تكون غير قابلة للحل، مفادها أن الطموح إلى الوصول بأعضاء المجتمع – جميعهم أو أغلبهم – إلى حالة من الوعي قد أصبح طموحا صعب المنال.
في مسرحية (السحب) للكاتب اليوناني الكوميدي “أريستوفانيس”، يطرح المؤلف نموذجا لفيلسوف مراوغ، يعلم الناس فن الجدال ، ومنطق الباطل، في مكان يطلق عليه المؤلف ساخرا “دكانة الأفكار”، حيث “يبيع” الفيلسوف مهاراته العقلية، في إلباس الباطل ثوب الحق بأغلى الأثمان. وهنا يقدم المؤلف نموذج لشخصية (البطل) (سقراط ذلك الضخم عريض المنكبين،أفطس الأنف، قبيح الوجه، الذي يمشي في الاسواق ساعيا لأن يعلم الناس، وأن يدعوهم إلى المعرفة)، بينما يقدمه المؤلف في صورة الدجال المراوغ، وهي صورة ذهنية لا تعبر فقط عن رؤية “أريستوفانيس”، بل وكثيرون من أعضاء المجتمع من المحافظين للفلاسفة، وعبر مشاهد المسرحية وفصولها، يقدم المؤلف طرحا كوميديا ساخرا لسقراط، وأفكاره، ورسالته، ويصوره في هيئة شخص لا ينطق سوى بكلمات فارغة المعنى، فها هو يقول:
سقراط: (جالسًا في سلة معلقة في الهواء أمام “دكانة الافكار”) لماذا تناديني أيها المخلوق، يا إنسان، با قصير العمر؟! ستربسياديس: قل لي أولًا ماذا تفعل عندك؟! اشرح لي ذلك بربك! سقراط: أمشي في الهواء، ومن عليائي ألقي نظرة على الشمس.
ستربسياديس: إذن. فمن هذه السلة، لا من الأرض، تلقي نظرة فوقية على الألهة وتتأملهم.. سقراط: مقاطعا إياه.. ما كنت لأكشف شيئًا من الأجرام السماوية قط، إن لم أبحثها وقد ارتفعت بعقلي إلى أعلى، ومزجت تفكيري الذهني الرفيع بمثله من الهواء الأثير الساطع، ولو كان علي أن أبحث في مثل هذه المسائل العلوية، وأنا قابع في الأرض الدنيا، ما كنت لأكتشف شيئا منها قط، هذا صحيح لأن الأرض بجاذبيتها تشد عصارة الذهن إلى أسفل بقوة جاذبيتها، وتفعل مثلما يفعل نبات الجرجير إذ يمتص مياه النباتات المجاورة فيقتلها. ستربسياديس:.. انزل الآن توا يا سقروطة لتعلمني الدروس.
وهكذا يقدم المؤلف صورة ساخرة، ومغلوطة، عن فيلسوف من أهم فلاسفة العقل، ليقلل من شأنه، ويحد من تأثيره، وهو يفعل هذا ليس فقط عبر وعي فردي لكاتب مسرحي فحسب، بل وعن وعي جمعي، يفضل الحفاظ على التقاليد القديمة، والعادت المستقرة، ويرفض التغيير، أو النقد لهذه العادات والتقاليد التي ربما لم تعد صالحة، أو على الأقل أصبحت في موضع شك.
وأما المعضلة الأخرى، والتي تتعلق بمسألة المعرفة الذوقية، فلا تقل التباسا عن المعضلة الأولى، فلا شك أن لكل مجال معرفي، سواء أكان علميًا أو نظريًا، مثاليًا أم ماديًا، يحتوي في مضمونه على طريقة للتفكير، أو منهجًا للبحث، ييسر عملية التواصل بين المشتغلين به، مثلما يحتوي على لغة موضوعية، ومفردات خاصة تعبر بطريقة ما -رغم التباينات الذهنية – عن شحنات دلالية ذات معنى ما في هذا الفرع المعرفي أو ذاك، وهو ما يوفر الحد الأدنى من سهولة التواصل المشترك، وهو الأمر الذي ينتفي بطريقة ما مع المعرفة الذوقية، التي تعتمد على لغة ومفردات فردية ذات خصوصية، ما يجعلها غير قابلة للتواصل العام، أو المحاججة المعرفية، وتظل رغم جمالياتها الأدبية نصوصًا إشراقية تتوجه نحو العاطفة الفردية، فيقبلها ويتذوقها، أو يرفضها دون إبداء مبرر أو سبب.
فالمبدأ الأساسي للمعرفة الذوقية ينطلق من إمكانية الوصول إلى الحقيقة (الكلية) من خلال التجربة الذاتية، دون الاعتماد على العقل، ومبادئ الفلسفة العقلية، ولكن تظل العقول قاصرة عن إدراك الحقيقة المطلقة، وهو ما يوقع الفلاسفة في مأزق الاستحالة المنطقية في محاولاتهم المضنية للوصول إلى الحقيقة (المطلقة) عندما يستخدمون المقولات العقلية، والبراهين المنطقية، للإمساك بكنه المعرفة عبر القياس العقلي، الذي يعتمد على الإدراك الحسي، أو الاستدلال العقلي، وهي أمور دائما ما تظل قاصرة عن الولوج إبى جوهر الحقيقة، يقول ابن عربي في كتابه “فصوص الحكم”: اعلم أن العلوم الذوقية الحاصلة لأهل الله مختلفة باختلاف القوى الحاصلة مع كونها ترجع إلى عين واحدة. فما يمكن أن يصل إليه العقل في أقصى تجلياته هو العلم الطبيعي الذي يعتمد على إدراك العقل للعلاقات في العالم في ظاهره.
ربما كانت هاتين القضيتين هما لب الخلاف المضمر بين “الغزالي” و”ابن رشد” رغم التباعد الزمني بين كليهما، ورغم تباين الرؤى الفكرية التي انطلقا منها كل منهما، فالقضية الرئيسية التي ينطلق منها “الغزالي” في كتابه الأشهر “تهافت الفلاسفة”، والتي يراها سقطة لأهل الفلسفة هي نشرهم وإعلانهم لجدال فكري لا ينبغي له أن ينشر بين العوام، وطرحهم لأفكار لا يجوز الخوض فيها وسط “الدهماء”، ومن ثم تتفاقم أزمة المعضلة الأولى، فلا يمكن بأي حال من الأحوال وصول العامة إلى الوعي، بل ينبغي على العلماء إخفاء المعارف العقلية (اخاصة) عنهم، ويكفيهم خطاب العاطفة، والظاهر من الأمور.
بينما ينفي أبو حامد الغزالي إمكان وصول العقل للمعرفة الكلية، فالهدف الرئيس من كتاب الغزالي كان إظهار العقل بمظهر العاجز عن الوصول إلى المعارف الكلية، أو اقتناص احقائق (الإلهية)، فنجد الغزالي يسعى حثيثا لانتزاع ثقة المتلقي في العقل، والحد من سلطته، وتقييدها في حدود، ويستعين بــ”الذوق” أو الإلهام للوصول إلى معرفة جوهر الحق، فالفكرة ربما ترتبط بطريقة ما بأداة الوصول إليها، والوثوق بها (الفكرة) يأتي عقب الوثوق بأداة الوصول إليها، فإذا ما أخضعنا كل من الحس، والعقل لاختبارات الثقة هذه، استحال الوصول إليها، وكلما تمادى الغزالي في فحص كل منهما، تأكد له “حكمه” بعدم الثقة في كليهما (الحس، والعقل). يقول الغزالي: ” لقد ظهر لي أن العلم اليقيني هو الذي تنكشف فيه العلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم”. وفي موضع آخر نجده يقول: الصدق الحقيقي هو مطابقة أفكارنا للموجودات التي تكون موضوعاتها، وهنا تنشأ الصعوبة، كيف لنا أن نعرف أنه يوجد مثل هذا التطابق؟! إن كل ما نستطيع أن نعرفه عن الموضوعات يأتي عن طريق قوانا ومداركنا، ولكننا لا نستطيع التأكد أن قوانا ومداركنا يمكنها تصور هذه الموضوعات كما هي في نفسها”.
نحن إذن أمام رؤية معرفية مفادها: يمكن للعقل الوصول إلى بعض الحقائق، بينما المدركات الحسية ليست إلا معرفة ظنية لا ترقى أبدا إلى اليقين، وملاذنا الأخير الذي يجعلنا نثق في مقولاتنا العقلية، كما يجعلنا نصل إلى جوهر الحق، إنما يأتي من خلال كشف قلبي يقذف به في قلب العارف، مثلما يقول الغزالي: “نور قذفه الله في الصدر، ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشوف موقوفة على الأدلة، فقد ضيق رحمة الله الواسعة”.