حين كتبت صديقة منشورا على “فيسبوك” تسألنا/ نحن أصدقائها: “ما الذي يجعلنا سعداء؟ “كنت أعرف الإجابة بشكل واضح وبدون تفكير، لم أجد ما يسعدني أكثر من ساعات نوم متصلة كاملة بلا أرق وبلا وضعية متصلبة وبلا أحلام خانقة، لم أستسغ فكرة قدرة قطعة شيكولاتة في جعلي سعيدة بديلًا عن هذة النعمة، ولا ما يقوله البعض عن روعة السفر للجلوس أمام البحر، ولا أدرينالين حماسة الاشتراك في دورة تدريبية لتعلم مهارة أو لغة جديدة، ولا حتى التفنن في الطهو الذي أعشقه ويجعلني سعيدة أيضًا. لكن النوم المتصل صار مؤخرًا –ربما بفعل النضج – من أكثر الأفعال التي حين تحدث لي أستيقظ هانئة لا أريد أن أؤذي ذبابة ولا تسيطر علي عقلي أفكارًا شريرة وأستطيع أن أمنح بدون مقابل وأظل مبتسمة لساعات بشكل غريب للأخرين.. لكن حين يصيبني الأرق فأصحو في حالة مزاجية لسان حالها يقول:” الويل لكم جميعًا”.

اقرأ أيضًا.. في الفالنتين.. 6 أسباب ليقول لك إنه يحبك ليس من بينها الحب

(1)
“لا نوم ولا دمع في عينيا”
مأمون الشناوي، أم كلثوم 1965

(2)
تشير دراسة نشرتها دورية “نيتشر هيومان بيهيفيور” (Nature Human Behavior)، وأجراها فريق من الباحثين بجامعة كاليفورنيا- بيركلي الأمريكية إلى أن “الحرمان من النوم لليلة واحدة يمكن أن يؤدي إلى ارتفاع مستويات القلق بنسبة 30٪، وأن هذه النسبة يمكن تخفيفها بواسطة النوم العميق”.

يقول ماثيو والكر -أستاذ علِم الأعصاب بجامعة كاليفورنيا- بيركلي، والمشارك في الدراسة- في حوار لـ Scientific American: على مدى العشرين عامًا الماضية، وُجد أن هناك ارتباطًا متبادلًا بين غياب النوم الطبيعي والإصابة بالاضطرابات النفسية، وأن حوالي 80% من مرضى القلق يشكون من اضطرابات في النوم، وقد حددنا في دراستنا وظيفةً جديدةً للنوم العميق؛ إذ يقلل من القلق بين عشية وضحاها من خلال إعادة تنظيم الروابط داخل المخ.

يضيف “والكر” أن “النوم الرديء قد يكون في كثير من الأحيان مجرد عرض من أعراض الاضطراب، وليس أحد عوامل القلق المُحفِّزة”.

الحرمان من النوم

(3)
“يا مسهر النوم في عينيا.. سهرت أفكاري وياك”
أحمد رامي، أم كلثوم 1972

(4)
ولأن النوم نعمة فقد تفننت عقليلات اجرامية لبعض رجال المخابرات والحكومات البوليسية في استخدامه كسلاح ذو حدين في عمليات تعذيب ضحاياهم، فلم يكتفوا بيكهربة اجسادهم واحراق جلودهم وسحلهم واغراقهم حتى ينتزعوا منهم الاعترافات، بل توصلوا لفكرة لا تستخدم فيها كهرباء أو ينتج عنها الدماء أو الحروق، بل بكل بساطة يعذبونهم  بالنوم وبطريقتين تعذيب وهما: إما إجبار المعتقل على النوم لفترات طويلة مما يؤدي لضمور عضلاته أو منعه من النوم لفترات طويلة مما يؤدي إلى فقدانه للتركيز والهلوسة وإصابته بالوهن وهنا يسهل نزع الاعتراف منه.

في هذه الجزئية يقول دكتور “والكر”: لسنوات طويلة، حذر علماء النفس والأعصاب مما يحدث في الدماغ عندما لا نحصل على قسط كافٍ من النوم، ورسمت العديد من التجارب النتائج الفسيولوجية الخطيرة للحرمان من النوم، ووجدنا أن عدم حصول الشخص على قدرٍ كافٍ من النوم يرتبط بالقلق ارتباطًا وثيقًا، وأن الحرمان من النوم لليلة واحدة فقط قد يؤدي إلى الإصابة بالقلق”.

طب إزاي هذا يحدث؟ فحوصات الدماغ التي أجراها الأطباء القائمين على الدراسة كشفت عن انغلاق وضعف “قشرة الفص الجبهي الإنسي” وهي منطقة موجودة بالجانب الأيسر من الدماغ، تساعد على تنظيم القلق بعد ليلة من عدم النوم، في حين كانت المراكز العاطفية الأكثر عمقًا في الدماغ مفرطة النشاط”. بمعنى أن النوم الجيد يساعد على دعم هذا الجزء من الدماغ المسئول عن تنظيم الشعور بالقلق وطبعًا بيقل دوره لو النوم قل وبالتالي بيزيد الشعور بالقلق، حتى أن الدراسة خرجت بنتيجة تقول إن 78% من جميع المشاركين في حالة الحرمان من النوم أبلغوا عن زيادة في معدل إحساسهم بالقلق.

(5)
“مضناك جفاه مرقده”
أحمد شوقي، محمد عبدالوهاب 1938

(6)
في عام 1606 ميلاديًا أنتهى ويليام شكسبير من كتابة رائعته المسرحية “ماكبث” والتي يحكي فيها عن قائد تخبره ثلاث ساحرات بنبوءه أنه سيصير ملكًا لأسكتلندا، تروق له الفكرة فيخبر زوجته فتزيده طمعًا في عرش ملكة “دانكن” وتهيء له الطريقة وتدفعه دفعا فيقرر الفعلة، فيدبر له ويقتله ويعتلي العرش غير أنه لا يستطيع أن ينعم بالمنصب ولا بحكم البلاد والجيوش فيُعاقبه القدر بلعنة عدم النوم فكلما غمضت عينه تراءات له الكوابيس فيصحو مقروح الجفن زائغ البصر مهموم، وتنتهي حياته بالقتل وحياة زوجته بالانتحار.. ملكًا شابًا يعتلي عرش مملكة عظيمة منتصرة في الحرب فما الذي يمنعه أن يهنأ؟ قلة النوم، لعنة سلمته لقاتله هزيلًا ضعيفًا بلا عقل ولا ذهن رائق فكان سهل الاجهاز عليه والانتهاء منه.

الساحرات الثلاث في مسرحية ماكبث

(7)
“يا سارق من عيني النوم، أن نمت دقيقة تصحيني”
جليل البنداري، شادية 1954

(8)
كيف يتحول شخص اجتماعي لطيف ودود يسأل عن اصدقائه، يحب الاختلاط بالناس والنزول من البيت، يجيد التعامل مع الباعة وسائقي التاكسي والميكروباصات، يتفادى الارتطام بالناس في الشوارع، يبتسم معتذرا إن تجاوز، إلى شخص يكره النزول إلى الشارع، وإن حدث مضطرا يصير شخصا متحفزا للاخرين يجتذب المشاكل، يتشاجر لأسباب تافهة كان يتغاضى عنها في اليوم السابق؟ هو نفس الشخص لم تتغير مبادئه ولا قناعاته ولا أصبح فجأة يكره الناس.. هو فقط يظن ذلك في هذا اليوم التالي، هو فقط لم ينم جيدا، فتغيرت كيمياء دماغه وصار اكثر عصبية واستثارة وانفعالا.

وهو ما تقوله نتائج الدراسة أيضا، حيث يبدو ان ليس القلق فقط هو العرض الوحيد لقلة النوم وليس وحده أحد أشكال الاضطرابات النفسية التي تتأثر بالنوم المضطرب، لكن هناك اضطرابات أخرى قد تتأثر بسبب اضطراب تلك الوظيفة الحيوية للجسم؛ إذ انتهى دكتور “والكر”، في دراسة سابقة، إلى أن الأشخاص المحرومين من نومٍ كافٍ يشعرون بالوحدة، ويكونون أقل ميلًا إلى الانخراط مع الآخرين، والأسوأ من ذلك أن شعورًا بالنفور منهم يجعلهم أشخاصًا غير جذابين اجتماعيًّا.

حسنًا يبدو أنني الأن عرفت لماذا أصحو كثيرًا لا أحب الأخرين؟.. يجب أن أنام جيدا حتى يصبح الأخرون جذابون مرة أخرى.

(9)
“مخاصمني النوم.. يعني بأنام تخاطيف”
إيهاب توفيق، بأداء أحمد آدم في فيلم “الرجل الأبيض المتوسط” 2002

(10)
بما أن النوم من مسببات السعادة وذهاب الأرق والشعور بالوحدة، فيجب أن نتعلم كيف ننام بشكل جيد، حين بحثت عن نصائح للتمتع بالنوم الجيد وجدت أن موقع مايو كلينيك وهو موقع أكبر واهم مستشفى للعلاجات السريرية في أمريكا، ينصح الموقع بعدة نقاط يجب أن نركز عليها، الموضوع ليس فقط كوبا من اللبن واستحمام بماء دافيء، حيث يبدو أن هذة الخطوة لا تساعد الكثيرين، يُشير الموقع إلى الألتزام بمواعيد النوم حتى في أيام العطلات والأجازات الطويلة فلا يجب ان يتجاوز السهر عن ميعاد النوم المحدد باكثر من ساعة، الانتباه لما ناكله ونشربه.. فلا يجب أن نذهب للسرير ونحن جوعانين أو متخمين بالطعام، أخر وجبة يجب أن تكون قبل ميعاد النوم بساعتين وألا نشرب ما يحتوي على الكافيين والسكريات والعشاء يجب ألا يكون دسما، كذلك يجب أن نخلق لأنفسنا بيئة نوم مريحة، سرير مريح أضاءة خافتة أو ظلام أفضل، تجنب استخدام الشاشات المضيئة كالتلفزيون والكومبيوتر والهواتف الشخصية.

إذا لم تستطع النوم بعد نصف ساعة غادر الحجرة واستمع لموسيقى هادئة ثم عد مجددا، إذا كنت تفكر في شيء مُقلق اكتبه في دفتر وضعه جانبا، رتب الأمور في عقلك وعلى الورقة، جرب تمارين التأمل، كذلك يجب أن تمارس الرياضة في يومك او تقضي المشاوير أو تلتقي بأصدقائك، ولكن مع تطبيق الحظر الجزئي بسبب كورونا فأنصحكم باستبدال النصيحة الأخيرة بالتمارين في المنزل.

كافكا

(11)
“والآن عندما يتجاوزني النوم، ويمر في الليل دون ان يحفل بي، فإنني أعرف عندئذ أن وجهته إليك، وأرضاها.. وفوق هذا فمن الغباء أن يثور عليه المرء، فالنوم هو أكثر المخلوقات براءة، والرجل الذي يهجره النوم هو أكثر المخلوقات ذنوبا”

فرانز كافكا