ترك الاتفاق السياسي المُوقّع في أكتوبر 2020 بين الأطراف الليبية، برعاية الأمم المتحدة، خانة فارغة- سواء بقصد أو بدون قصد- تلك التي تتعلق بالإطار القانوني (الدستور) لإجراء الانتخابات المتفق عليها في أواخر 2021.
في أكتوبر 2020 وقّع الطرفان المتحاربان (قوات شرق ليبيا – قوات حكومة الوفاق بالغرب) اتفاقاً لوقف إطلاق النار، وُصف بـ”المعجزة”، حين كانت التوقعات تشير إلى حرب إقليمية أوسع نطاقًا في الدولة المطلة على أوروبا.
وبعد محادثات سياسية بين كافة الأطراف، حتى تلك التي لم تنخرط في الحرب مباشرة، جرى التوقيع على خارطة طريق برعاية الأمم المتحدة في نوفمبر 2020، تنص في آخر بنودها على إجراء انتخابات عامة بنهاية 2021.
مهمة السلطة المؤقتة
على هذا الأساس جرى اختيار سلطة مؤقتة في فبراير الماضي، عبر اقتراع مباشر للمشاركين في منتدى الحوار السياسي ممثلين عن كافة المناطق. جاء محمد المنفي – المحسوب مناطقيًا على الشرق لكنه يميل سياسيًا إلى الغرب (الإسلاميين) كرئيس للمجلس الرئاسي خلفًا لـ فائز السراج، وعبد الحميد الدبيبة المحسوب كليًا على الغرب رئيسًا للوزراء.
اقرأ أيضًا: ليبيا.. محاولة لتقليم أظافر أمراء الحرب وفرصة لتقوية أنياب الدولة
تلك السلطة التي شكك البعض في بدايتها بإمكانية حصولها على ثقة مجلس النواب (شرق ليبيا)، تسلمت بالفعل- في 10 مارس الماضي- بطاقة البرلمان للعبور إلى السلطة، محمّلة بأعباء عديدة، أهمها قدرتها على تهيئة البلاد لوجيستيا وأمنيا وسياسيا لإجراء انتخابات بنهاية العام الجاري.
لدى تلك النقطة، وصف تقرير لمجموعة العمل الدولية- مقرها بروكسل- الخطوات السابقة بـ”المذهلة”، واعتبر أن “ليبيا تقلب الصفحة“، وأن احتمال العودة إلى الحرب قريباً يبدو غير مرجح، بعد ست سنوات من القتال.
غير أن التقرير وضع يده على نقطتين رئيسيتين تشكلان عقبة أمام تنفيذ خارطة الطريق، الأولى تتعلق بغياب الإطار القانوني الذي تجرى على أساسه الانتخابات المرتقبة، والثاني الاتفاق على القيادة العليا للقوات المسلحة. النقطة الأولى سقطت من اتفاق نوفمبر، والثانية أسقطتها عمدًا الأطراف في شرق ليبيا.
ونصّت خارطة الطريق على أن المجلس الرئاسي، المكوَّن من ثلاثة شخصيات حاليًا، يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة، لكن مجلس النواب الذي منح الثقة لحكومة الدبيبة، تجاهل التصديق رسميًا على خارطة الطريق، باعتبارها “موافقة غير مطلوبة لإقرار النص”، وهو ما يشير إلى رفض مُبطّن من المشير خليفة حفتر لمنح سلطة “الأعلى” للوليد الجديد المستقر مقره في طرابلس، التي كانت إلى وقت قريب “عدو حرب“. لذلك يرى التقرير أن مجلس النواب مطالب بالموافقة على خارطة الطريق أو على وثيقة تعادلها تعترف صراحة بالمجلس الرئاسي كقائد أعلى للقوات المسلحة.
مخارج المأزق القانوني:
الاتفاق السياسي الأخير لم يوضّح ما إذا كانت الانتخابات المقررة في 24 ديسمبر المقبل ستجرى وفق الإعلان الدستوري المؤقت، أم الاستفتاء على دستور جديدٍ دائم يسبق الانتخابات، وهي النقطة التي كانت محور المناقشات في أسابيع ما بعد تشكيل الحكومة.
الدستور أولاً
الجدل الذي عاشته مصر قبل سنوات، وصل متأخرًا إلى ليبيا، وهو المتمثل في: الدستور أولاً أم الانتخابات؟. تنقسم الأطراف الليبية حول ضرورة طرح دستور دائم للاستفتاء قبل الذهاب لأي استحقاق انتخابي باعتباره لن يكون فترة مؤقتة، لكن آخرون يرون في هذا التوجه محاولة من السلطة القائمة حاليًا، ذات الميول لطرف الإسلاميين، محاولة لإطالة أمد الحكم، باعتبار أن مدة الأشهر السبعة المتبقة لن تكون كافية للاتفاق على مسودة الدستور؛ ومن ثمّ تهيئة البلاد للاستفتاء عليها.
وخلال السنوات الماضية، اتفقت الأطراف الليبية على تسمية الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور، وانتهت في 29 يوليو 2017، بإعلان مسودة نهائية، لقيت انتقادات عديدة، خاصة من الأطراف المناهضة للإسلاميين، فضلاً عن انتقادات مناطقية، رأت في المسودة تجاهلاً للجنوب وإقليم فزان.
عاد الحديث عن تلك المسودة مرة أخرى في العامين اللاحقين، وخرجت أنباء عن إمكانية إجراء تعديلات عليها والاستعداد لطرحها أمام الاستفتاء الشعبي، لكن حتى آلية الاستفتاء كانت محل جدل، وانتهت إلى صيغة في منتصف فبراير الماضي بمدينة الغردقة المصرية على “نظام الدوائر الثلاث” هي الأقاليم التاريخية في ليبيا “طرابلس، برقة، فزان”، على أن “ينال مشروع الدستور ثقة الشعب إذا صوت بنعم الأغلبية المطلقة (50+1)، بدلا من النظام السابق الثلثين + 1، من المقترعين بكل دائرة من الدوائر الثلاث”.
وفي آخر استدعاء لهذا المقترح، اتفق وفدا مجلس النواب (الشرق) والمجلس الأعلى للدولة (الغرب) في يناير الماضي على إجراء الاستفتاء على مسودة الدستور المقدم من الهيئة التأسيسية، بناءً على قانون مجلس النواب رقم (6) لسنة 2018.
الإعلان الدستوري
وإزاء الحديث عن صعوبة تنظيم استفتاء على دستور دائم، فضلاً عن الاتفاق على بنوده، طرح البعض حلاً آخر يتمثل في الاتفاق على قاعدة دستورية جديدة، تتضمن تعديل المادة 30 من الإعلان الدستوري المؤقت الصادر في 3 أغسطس 2011.
هذا الطرح نجح في انتخاب المؤتمر الوطني العام في 2012، ومجلس النواب في 2014، حين خضع الإعلان الدستوري لعدة تعديلات، سمح بموجبها بعقد انتخابات شرعية من الناحية الدستورية والقانونية، وهو ما دفع البعض لتطوير الفكرة والاعتماد على قانون انتخاب مجلس النواب نفسه، لإجراء الاستفتاء على الدستور.
في التاسع من أبريل الماضي، أعلنت لجنة قانونیة منبثقة عن ملتقى الحوار السیاسي، عن اتفاق بشأن القاعدة الدستوریة اللازمة لإجراء انتخابات 24 دیسمبر المقبل، تضمنت تأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور إلى ما بعد تشكيل السلطة التشريعية الجديدة، التي بدورها ستختار رئيس الجمهورية بالاقتراع.
لكن يبدو أن الاتفاق لم يحصل على توافق جمعي عندما عاد المتفقون من تونس إلى ليبيا، حيث أعلنت البعثة الأممية قبل أيام عن اجتماع افتراضي آخر يومي 26 و27 مايو الجاري لاستكمال المناقشات حول مقترح القاعدة الدستورية.
دستور الاستقلال
أحد الحلول الأخرى للمأزق الدستوري، تمثل في اقتراح العودة لـ”دستور الاستقلال” في العهد الملكي، مع إخضاعه لبعض التعديلات. وتضمن هذا المقترح أن تجتمع لجنة خبراء دستوريين ممثلة عن كافة الأطراف، تجري تعديلات على دستور ليبيا الحديثة، ويمكن اعتماده دستورًا مؤقتًا تجرى على أساسه الانتخابات، إلى حين الاستقرار على مسودة دستور دائم توافقية.
لجنة ديسمبر
اقتراح آخر قريب من السابق، رأى تشكيل “لجنة ديسمبر”، وهو موعد الانتخابات المرتقبة، تعكف على إيجاد مخرج دستوري للأزمة الحالية. هذا المقترح هو إعادة إنتاج لفكرة “لجنة فبراير” التي تمكنت من إنهاء الأزمة الدستورية عام 2014، بإجراء تعديل سابع على الإعلان الدستوري، وأسفر عن انتخاب مجلس النواب الحالي.
مقاربات توحيد الجيش
قطعت ليبيا مسافات معقولة بعيدة عن مربع الحرب، وإنْ احتفظ كلُ طرفٍ بفرص تكرارها، لاسيما مع غياب قيادة موحدة للقوات المسلحة، وتعثر فرص إخراج المرتزقة الأجانب من البلاد.
مأسسة الانقسام العسكري
لأول مرة منذ اندلاع الحرب في ليبيا، جرى الاعتراف بجيشين، أو جسمين عسكريين في ليبيا، عندما تم التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، وهو أحد إفرازات مرحلة ما بعد معركة طرابلس، التي خلقت “توازن قوى” بين الشرق والغرب.
بدعم وموافقة دولية وإقليمية، جرى التوقيع على اتفاق بين “ممثلي الجيش الوطني الليبي- القيادة العامة) و(ممثلي الجيش الليبي التابع لحكومة الوفاق الوطني”. كانت ذلك أول اعتراف صريح بأن ثمة قوتين منفصلتين، رسّخت الازدواجية العسكرية.
جزئية توحيد المؤسسة العسكرية كانت ولا تزال حديث الليبيين في خلواتهم وعلى الملء، دون الاتفاق عن إطار تصطف خلفه البلاد شرقها وغربها. يزكي ذلك طموحات عسكرية في اللعبة السياسية، فـ المشير خليفة حفتر يرى لنفسه استحقاقًا سياسيًا في مستقبل البلد، وإن لم يتحقق هذا فأقله عسكريًا بوصفه قائدًا أعلى للجيش. في المقابل ترى قوات مصراتة وحلفاؤها أنها أحق بالقيادة منه، بينما يذهب الحل الدائم إلى إخضاع السلطة العسكرية للقيادة السياسية باعتبارها ضامنة لوحدة البلاد.
محادثات القاهرة.. والمجالس العسكرية
اخترقت محادثات القاهرة (2016 – 2018) أزمة توحيد المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية، وانتهت إلى اتفاق يقضي بتعيين المشير خليفة حفتر كقائد عام للجيش لمدة أربعة سنوات، وإنشاء مجلس للأمن القومي بقيادة سياسية، ومجلس للدفاع الوطني بقيادة سياسية عسكرية، ومجلس للقيادة العامة بقيادة عسكرية.
لكن الحديث عن السلطة المدنية المتمثلة في القائد الأعلى للجيش وصلاحياته، حال دون الذهاب بعيدًا في هذا المقترح، ثم جاءت معركة طرابلس (4 أبريل 2019)، لتكتب فشل تلك المهمة.
تقاسم السلطة العسكرية
يستند كل طرف في أحقيته بالقيادة العسكرية بالنجاح الذي حققه ضد التنظيمات الإرهابية، فقوات الشرق نظَّفت درنة وبنغازي من تنظيمي القاعدة وداعش، وقوات الغرب أخرجت “داعش” من معقله الرئيسي في سرت عندما كان في أوج نشاطه.
لذلك رأى طرف أن تكون فكرة تقاسم قيادة الجيش حلاً وسطًا من خلال منح طرف سلطة القائد الأعلى والطرف الآخر القائد العام، لكن النقاش حول تفاصيلها فشل في صياغتها.
ضخت الدماء في عروق محاولات توحيد المؤسسة العسكرية من جديد عبر لجنة 5+5 العسكرية- أحد مخرجات مؤتمر برلين- قوامها من خمسة عسكريين من الشرق ومثلهم من الغرب، انخرطوا في نقاش مطول لتوحيد القوات المسلحة، لكنها لم تسفر عن حل مرضٍ لكافة الأطراف.
مهمة لجنة سرت
صاحب اتفاق وقف إطلاق النار ومن ثم الاتفاق السياسي في جنيف، الإعلان إحياء دور اللجنة العسكرية المشتركة، ليكون مقرها وسط البلاد “مدينة سرت”، تضطلع بمهام محددة، تتمثل بمراقبة وقف إطلاق النار وتشكيل قوة عسكرية محدودة العدد من العسكريين النظاميين لفرض الأمن، وحصر وتصنيف المجموعات والكيانات المسلحة بكافة المناطق.
نُظر إلى اللجنة العسكرية المشتركة على أنها نواة لتوحيد المؤسسات الأمنية والعسكرية، ومن ثم الحديث عن جيش نظامي بقيادة موحدة تابعة للسلطة التنفيذية، باعتبار أن ذلك استكمال لمقاربات الحل السياسي الحاصل في جنيف، لكن المؤشرات الميدانية أحبطت هذا الطموح.
إشكاليات عسكرية
الحديث عن قيادة عسكرية موحدة، ومن ثم موضع وصلاحيات القائد الأعلى للجيش، مرهون بإنهاء إشكاليات رئيسية أهمها:
حل الميليشيات
نصّ الاتفاق السياسي في جنيف، الذي بموجبه تشكَّلت السلطة التنفيذية الحالية، على الشروع مباشرة في ترتيبات لحل الميليشيات المسلحة ونزع السلاح. لكن تلك الأخيرة أظهرت خلال الأشهر الماضية أنها عصيّة على تقليم أظافرها، بلغت مداها عندما حاولت اغتيال وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، وعمليات انتشار في مدن غرب البلاد.
البعض تحدث عن إرجاء ملف الميليشيات لما بعد الاستحقاق الانتخابي، بالنظر إلى ضيق الوقت وكون هذا الملف يحتاج وقتًا أطول ومعركة لا يمكن أن يكون مداها أشهر قليلة، لكن الكثيرين رأوا استحالة حماية أي خطوة ديمقراطية إذا تأجل الشق الأمني.
هيكل نظامي
الاختراق الثاني الذي بدونه لا يمكن الوصول لمرحلة توحيد الجيش، هو الاتفاق على هيكل نظامي للقوات الأمنية والعسكرية. وتلك النقطة تحديدًا يبقى مثار خلاف عميق ليس فقط بين الشرق والغرب، لكن الجنوب المهمش يرى لنفسه الحق في أي هيكلية مقترحة.
من غير المعروف كيف يمكن للسلطة التنفيذية أن تتعامل مع القوات العسكرية الحالية لضمها إلى إطار نظامي، خاصة مع طابعها الهجين، فكل قوة تتشكل من عدة فصائل، على غرار “قوة حماية طرابلس” وغيرها من قوات غرب البلاد.
تحالفات مناطقية
في حربه ضد الإخوان بغرب ليبيا، استعان المشير خليفة حفتر بكتائب السلفية المدخلية، لاعتبارات دينية تتناقض مع فكر الإخوان، وتحالف أيضًا مع قبائل في إقليم فزان (جنوب البلاد)، فيما استغلت قوات غرب البلاد وحلفائها من الإخوان الموقف وحاولت التقارب من قبائل التبو، التي بدورها بدورها لا تتوافق مع قبائل أولاد سليمان في سبها.
التحالفات القبلية والمناطقية، تبقى واحدة من الإشكاليات المهمة أمام أي محاولة لتوحيد الجيش الليبي، خاصة أن سنوات الحرب المنقضية، زادت من مساحة العداء بين القبائل وحلفائهم، وحال اختيار أي طرف بالشرق أو الغرب مقترحا لآلية عسكرية سيكون مطالبًا بفرضها على أتباعها والمتحالفين معه.
التدخلات الخارجية
خلال الأشهر الماضية انخرطت الجهود الدولية في محاولات لإخراج المرتزقة الذين نقلتهم تركيا إلى غرب ليبيا، وبالمثل ينطبق الأمر على القوات السودانية والتشادية المرافقة لقوات شرق ليبيا، لكن كافة الجهود لم تنجح في حدوث اختراق ملحوظ لتلك المسألة.