في البلدان التي تعيش صراعات داخلية، يسود اعتقاد لدى كثيرين بأن الهجرة طريق إلى الجنة، ومع أن الأمر ليس كذلك؛ إلا أن جانبًا منه صحيح أيضًا، وإلا فماذا سيعني النجاة من الجحيم؟ غير أن الأمر ليس بهذه السهولة، خاصة بالنسبة للنساء. فالشائع هو أن تواجه اللاجئات صعوبات وتحديات قد لا تكون في حسبانهن، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالتأهيل أو الحصول على فرصة عمل، ولأسباب عديدة منها حاجز اللغة. إلا أن هناك نماذج قوية استطعن تحدى الغربة القاسية وانخرطن في الأنشطة المجتمعية، أو تطوعن في المنظمات وشاركن في الفعاليات، الأمر الذي ساعدهن على اكتساب اللغة والحصول على فرص أكثر. لذا إذا كنتِ مهاجرة أو لاجئة فإن كسرك للحواجز التي من شأنها أن تحد من قدرتك على صنع بصمة قوية دليلا على رغبتك في المشاركة وصنع الفارق، اكسريها.
مطلع مارس/آذار من العام الماضي 2019 كان القلق والترقب سيدا المشهد، وبينما بدأ العالم ينكمش على نفسه، مغلقا الأبواب والنوافذ بإحكام لمواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد – كوفيد 19، ولجأت معظم الدول لـ”العزل المنزلي” فارضة الكثير من القيود على الفرد والمجتمع كآلية احترازية، وجدت مجموعة من المهاجرين واللاجئين في ألمانيا وبينهم عدد كبير من النساء أن الجلوس في المنزل وانتظار التوجيهات ليس حلا، وأن الخطر أكبر وبحاجة لتكاتف الجميع.
استمعت إلى قصص مليئة بالصعوبات والمعاناة واجهتها نساء مهاجرات ولاجئات، ولكوني واحدة من هؤلاء النسوة اللائي تركن الأهل والذاكرة والرائحة وبدأت مجددًا من الصفر كنت مهتمة بالسماع لتلك لقصص كي أتعلم منها
وفي مدينة نوردرشتيت شكل عرب من “اليمن، سوريا، العراق، تونس، الجزائر، والمغرب” ومسلمين من الأكراد وإيران، أفغانستان، تركيا، وأشخاص من جنسيات مختلفة فريقا من المتطوعين، قام عبر سيدة كردية تدعى هيروا أمين تدير مشروع (شارك بدلاً من المغامرة- Partizipieren statt Risegnieren) بالتنسيق مع مسؤولة الاندماج في البلدية السيدة هايدا كروكر لتنفيذ نشاطات تطوعية تساعد المجتمع على الالتزام بالحجر الصحي، ولحسن الحظ كنت أحد المشاركين في المبادرة. وقد أتاح لي الانخراط في هذا النشاط التعامل مع عدد كبير من الناس.
وخلال ذلك استمعت إلى قصص مليئة بالصعوبات والمعاناة واجهتها نساء مهاجرات ولاجئات، ولكوني واحدة من هؤلاء النسوة اللائي تركن الأهل والذاكرة والرائحة وبدأت مجددًا من الصفر كنت مهتمة بالسماع لتلك لقصص كي أتعلم منها، ثم جاءت الفكرة: لماذا لا أكتب وأوثق هذه القصص؟! ومن حينها بدأت إجراء المقابلات سواء عن بعد أو وجها لوجه لتوثيق ما يمكنني الوصول إليه.
هيروا امرأة تحدت المستحيل لتساعد الآخرين
حتى اليوم مر ما يقارب ربع قرن على انتقال هيروا أمين من العراق إلى ألمانيا. عندما قابلتها مؤخرًا لغرض كتابة هذه المادة، عادت بي إلى البدايات. أخبرتني كيف أنها بين عشية وضحاها وجدت نفسها مضطرة إلى مغادرة بلادها، إثر اضطهاد تعرض له زوجها نتيجة نشاطه السياسي، وكيف أنها لم تستسلم “كان ذلك عام 1995″، تقول هيروا. خلال أقل من عام بدأت العمل في مكتب بريد لمدة ساعتين يوميا، وبعد فترة لم تكتف بذلك، فانخرطت في المجال التطوعي مع منظمة الدياكوني.
وبالنسبة لامرأة لديها ثلاثة أبناء وثلاث سنوات من الخبرة في المجال التعليمي، انتقلت فجأة إلى بلد لا تتحدث لغته؛ قد لا يكون مستغربا أن تواجه الكثير من الصعوبات في تقديم نفسها وممارسة أنشطتها، خاصة المتعلقة بالجانب العملي. لكنها راهنت على شهادتها الجامعية في “الهندسة الكهربائية” ففي سبيل الحصول على عمل عدلت شهادتها الجامعية كي تتوافق مع النظام الألماني، لكنها قوبلت بالرفض، ووجدت أن إمكانية حصولها على عمل كـ”امرأة” شبه منعدمة، كون هذا التخصص مقتصر أكثر على الرجال. تقول هيروا إن مثل هذه المعلومة شكلت لها صدمة، ففي العراق يعتبر هذا التخصص مرغوبا به، ولم يكن يخطر ببالها أن السنوات التي قضتها في الدراسة ستذهب دون أن تعود عليها بفائدة. إلا أنها استطاعت بإرادتها القوية أن تكسر أكثر من صخرة.
في الدياكوني أسست هيروا مجموعة للنساء اللاجئات المقيمات في مدينة نوردرشتيدت سميت (نساء القمر- Mond Frauen) بهدف الالتقاء شهريا، لمساعدتهن في الحديث عن مشاكلهن وتزويدهن بمعلومات عن مجتمعهن الجديد
في الدياكوني أسست هيروا مجموعة للنساء اللاجئات المقيمات في مدينة نوردرشتيدت سميت (نساء القمر- Mond Frauen) بهدف الالتقاء شهريا، وتنظيم رحلات وأنشطة اجتماعية وثقافية لمساعدتهن في الحديث عن مشاكلهن وتزويدهن بمعلومات عن مجتمعهن الجديد. تضم هذه المجموعة نساء من أكثر من خمسين جنسية. وحاليا، ترى هيروا أن لتلك الخطوة فضل كبير في مساعدتها على الاندماج وبناء علاقات واسعة مع المجتمع الألماني، فهناك التقت بشخصيات شكل التعرف عليها مدخلا لهذا الاندماج، وساعدها في الحصول على فرص عمل أفضل صقلت خبراتها.
تتحدث هيروا إلى جانب الكردية ثلاث لغات؛ العربية، الإنجليزية والألمانية. وقد اكتسبت الأولى خلال فترة إقامتها في مدينة البصرة التي درست في جامعتها، وتعلمت الثانية كون أغلب التخصصات في الجامعة تدرس بها، والثالثة عندما انتقلت إلى ألمانيا، عملت لسنوات مترجمة لعدد من الجنسيات.
يعرف أغلب المهاجرين في نوردرشتيت ومدن أخرى هذه المرأة الاستثنائية، عندما وصلت ألمانيا مطلع العام 2017، وجدت اسمها يتردد كثيرا، وقابلتها بعد فترة وجيزة فقد كان يتوجب أن أجري بعض المعاملات، وكانت استثنائية بالفعل، وعندما قابلتها للكتابة عنها، عرفت أن لها عزيمة لا تقهر. لم تتغلب فقط على الظروف بل قهرت حتى المرض. في 2015 أصيبت بالسرطان، لكنها قالت إن لذلك فضلا في جعلها تقاوم وتستمر في مساعدة الناس، إذ تعتبر مساعدة الآخرين علاجا نفسيا ساعدها على أن تتغلب على الوجع.
وشهد العام الذي أصيبت فيه هيروا بالسرطان تدفق موجات كبيرة من اللاجئين إلى ألمانيا، فنشطت إلى جانب كثيرين وعملت على تسهيل حصول كل من يحتاج للترجمة عليها، ورغم خضوعها لعملية جراحية وجلسات علاج كيماوي إلا أن ذلك لم يجعلها تتوقف عن القيام بدور ترى أنه كان يجب القيام به، وركزت على تقديم المساعدة للنساء بشكل خاص.
وكما اخبرتني كانت لا تعود إلى البيت للراحة بعد أن تخرج من المستشفى بل تتجه إلى المكتب، ولم تكن تكتفي بإنجاز أعمال الترجمة لطالبي اللجوء بل تشرف على تحضيراتهم للجلسات في المحكمة مع المسؤول القانوني في الدياكوني. لم تخجل قط بسبب مرضها. وعندما تساقط شعرها بسبب العلاج، استعانت بباروكة حتى لا تنقطع عن الذهاب لتقديم المساعدة.
كُرمت هيروا من منظمة دياكوني كأنشط متطوعة عملت مع اللاجئين. ومنحت شهادة من حزب السلام الأخضر الدولي، فطلبت مساحة في حديقة “اشتات برك” لعمل أنشطة ثقافية سميت بـ حديقة الثقافات
كانت قصص الرعب التي واجهها الهاربون من الحرب لا تتركها تنام الليل، وأثر على نفسيتها إلا أن رؤية السعادة والاطمئنان في عيون من تساعدهم شكّل لها مصدرا للقوة، كما اخبرتني.
كُرمت هيروا من قبل منظمة دياكوني كأنشط متطوعة عملت مع اللاجئين. ومنحت شهادة من حزب السلام الأخضر الدولي، كانت سببا في رفع معنوياتها وجعلها تطلب مساحة في حديقة “اشتات برك” لعمل أنشطة ثقافية سميت بـ Interkulturelle Garden- حديقة الثقافات، يجتمع فيها نساء ورجال من المهاجرين للحديث عن ثقافات بلدانهم المختلفة، وقد ألهم ذلك كتاب من اللاجئين قاموا بجمع 60 قصة لأشخاص من 40 جنسية، من المتوقع أن يصدروا كتابا يجمع كل هذه القصص قريبا.
كما أسست هيروا مجلة Wir Hier التي تعنى بقضايا اللاجئين من جنسيات مختلفة. صدر أول عدد منها عام 2017 باللغة العربية، وبعد عام كانت المجلة تنشر مقالات بلغات مختلفة منها العربية، الألمانية، الأفغانية والفارسي، قبل أن يستقر صدورها بالألمانية وبشكل دوري، وحاليا تطبع ما يزيد على 2000 نسخة.
مع بداية العام 2018 انتقلت هيرو للعمل مع البلدية وخلال ذلك نظمت عدة أنشطة ركزت على التوعية الأسرية، وأشرفت على إنتاج أفلام قصيرة تناقش قضايا الاندماج وصعوبته لدى القادمين الجدد، كما تبنت نشاطا أسبوعيا لتعليم اللغة للأطفال، بمشاركة مجموعة من النساء التربويات المتطوعات.
ومع نهاية العام 2019 قرر الأطباء إجراء ثلاث عمليات جراحية لهيروا أثرت على الأحبال الصوتية؛ مما جعلها ملزمة بالبقاء في المنزل وعدم التحدث لأكثر من ساعتين في اليوم. وخلال أزمة كورونا التي حدت من الأنشطة المجتمعية لم تتوقف عن تقديم المساعدة. شخصيا رأيتها تقوم بعقد جلسات لمتابعة أمور اللاجئين في المخيمات، وقد استعانت بعدد من المتطوعين رجال ونساء قسمتهم للقيام برش المعقمات والحرص على النظافة، وكونت مجموعة من المتطوعين الذين عملوا على إنتاج كمامات قماشية وصلت إلى 4000 كمامة، وزعت على لاجئين من جنسيات مختلفة، وعلى عيادات كانت بحاجة لها.
وجدت نفسي أمام امرأة يمكن القول إنها صنعت قدرها بنفسها. تحدت الموت مرات عدة، غير أن ما ادهشني فيها امتنانها للمرض الذي تقول عنه: “لقد أعطاني الإصرار لمواصلة النشاط وخدمة الآخرين”
عندما قررت الكتابة عن هيروا أمين، طلبت أن أقابلها وقد وجدت نفسي أمام امرأة يمكن القول إنها صنعت قدرها بنفسها. تحدت الموت مرات عدة، غير أن ما ادهشني فيها امتنانها للمرض الذي تقول عنه “لقد أعطاني الإصرار لمواصلة النشاط وخدمة الآخرين”.
نماذج للاقتداء
في أوروبا بشكل عام، وفي ألمانيا بشكل خاص سجلت النساء المهاجرات واللاجئات حضورا متنامياً على مستوى المؤسسات والأنشطة المجتمعية، إلا أن هذا الحضور الذي يمكن ملاحظته تقابله أوضاع صعبة تواجهها الكثيرات، وفي حين يمكن الحديث عن عنصرية وتمييز وعنف لا يزال يمارس ضد النساء توثقه منظمات حقوقية مهتمة وتصدر حوله تقارير دورية، إلا أنني هنا فضلت تسليط الضوء على الجانب المشرق، على نسوة يقدمن صورة واعدة عن مستقبل الهجرة، ويصنعن قصصا ملهمة، رغم كل شيء.
تعمل السيدة إيمان ميكا في مخيم للاجئين، منذ قرابة الأربع سنوات. قادمة من العراق عام 2009 مع زوجها وطفليها، هي واحدة من النساء العربيات اللوائي وجدن صعوبة بالغة في الاندماج في البلد الجديد، إلا أنها اليوم تعتبر ألمانيا وطنها الثاني كونها فتحت أبوابها لعدد كبير من الفارين من بلدانهم بفعل الاضطهاد السياسي أو الاقتصادي أو الديني أو نتيجة ويلات الحروب.
بدأ اسم إيمان ينتشر في أوساط مجتمع المهاجرين مع دخولها بداية عملها في المخيم، وأثناء انتشار جائحة كورونا أصبحت واحدة ممن يحظون بالاحترام الكامل لدى اللاجئين والسلطات المحلية على السواء. في تلك المرحلة العصيبة فضلت الدوام في مكتبها رغم ارتفاع منسوب الخطر. بالنسبة لها كان تسهيل معاملات اللاجئين أهم، حيث لا يستطيع الكثير منهم التواصل بالهاتف لاستكمال إجراءات معاملاتهم سواء مع المدارس- إذا لزم الأمر- أو لتسيير أمور مادية يجب الإيفاء بها، أو لتنظيم بعض المواعيد مع الأطباء لبعض كبار السن، كما أن كثيرين كانوا يحتاجون تجديد إقامتهم، إضافة إلى أن تسيير أمور المخيمات أمراً هاما في حال حدث طارئ ما، كما تقول.
وعلى الرغم من أنها حاصلة على شهادة في التربية الفنية من جامعة بغداد التي عملت فيها مدرسة لذات التخصص لمدة سبع سنوات بعد تخرجها، إلا أنها وجدت أن شهادتها الجامعية غير معترف بها، ومع ذلك لم تستسلم ووجدت في العمل التطوعي طريقا آخر يمكن أن تبدأ به رحلتها الجديدة، وبعد الكثير من المثابرة نجحت في الحصول على وظيفة رسمية في الدياكوني، حيث كانت قد عملت هناك لعدة سنوات كمتطوعة.
نادية النجار يمنية ومهاجرة أخرى واجهت صعوبات كثيرة قبل أن تستطيع تحقيق بعض النجاحات، شقت رحلتها الطويلة بكل عزم وثقة، وكل نجاح قادها إلى آخر حتى حصلت على درجة الماجستير في العلوم السياسية
نادية النجار، يمنية ومهاجرة أخرى واجهت صعوبات كثيرة قبل أن تستطيع تحقيق بعض النجاحات، شقت رحلتها الطويلة بكل عزم وثقة، وكل نجاح قادها إلى آخر- كما تقول- حتى حصلت على درجة الماجستير في العلوم السياسية، لكن لا تزال لديها أحلام كبيرة ومشاريع تسعى لتحقيقها. عند التحاقها ببرنامج الماجستير في العلوم السياسية في العام 2015 كان كثير من اللاجئين يقفون على أبواب أوروبا هرباً من الحروب المستعرة في بلدانهم، فيما تضغط بعض الأحزاب على ألمانيا وأوروبا لمنعهم من الدخول.
وجدت نادية نفسها المرأة العربية الوحيدة التي تعمل مع بعض الطلاب الألمان في جامعتها، لحث الآخرين على مناصرة اللاجئين. نظموا مظاهرة شارك فيها أكثر من 3000 شخص، وصلت إلى أمام مبنى المستشارة الألمانية، في اليوم التالي خرجت المستشارة وصرحت بأنها تدارست القضية مع البرلمان، وتوصلوا إلى السماح للاجئين بالدخول ومساعدتهم.
حاليا تشارك نادية في تأسيس المركز اليمني الألماني ببرلين، لتكون صوت يمني يحمل قضايا البلد إلى العالم، تقول: المركز يهدف إلى تعريف الألمان بما يدور في اليمن، ونقل القضايا الإنسانية بحيادية، وعمل أبحاث ودراسات تظهر معاناة الناس، وتأثير الحرب على حياتهم وأوضاعهم المعيشية.
العنف ضد النساء والصعوبات التي تواجههن وتحد من قدرتهن على التعبير عن أنفسهن لا تزال عالية
وإجمالا، يمكن الحديث عن مئات وربما آلاف القصص لمهاجرات يقدمن صورة واعدة عن مستقبل الهجرة ومستقبل مشاركة المرأة في الحياة العامة، غير أن الحقيقية المرة التي لا تزال واقعا ملموسا هو أن العنف ضد النساء والصعوبات التي تواجههن وتحد من قدرتهن على التعبير عن أنفسهن لا تزال عالية.
بحسب إحصائيات لمكتب الشرطة الجنائية الاتحادية، فإن العنف المنزلي في ألمانيا ازداد خلال السنوات الأخيرة وتعتبر اللاجئات والمهاجرات أكثر عرضة لهذا النوع من العنف، وبمناسبة اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة الذي يوافق الـ25 من نوفمبر/ تشرين الثاني دعت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل مواطنيها إلى عدم قبول العنف ضد النساء. تقول ميركل: “نحن مطالبون جميعاً بالتدخل عندما يكون هناك تهديد بالعنف ضد النساء أو حتى عندما يحدث ذلك، كما يجب أن يعرف الجناة أنهم سيواجهون عقوبات، ويجب أن تعرف المتضررات أيضاً من أين يحصلن على الدعم”.
المقال حصد المركز الأول لجائزة نجيبة الحمروني من مركز المرأة العربية للتدريب والدراسات والبحوث – كوثر– بتونس 2021