تحركات متسارعة يشهدها ملف سد النهضة مع انطلاق عملية الملء الثاني لتشغيل السد، من تواتر دبلوماسي وتحركات عسكرية مشتركة امتدت صداها إلى الحدود الإثيوبية- السودانية، كل هذا يحدث وسط توترات داخلية في أديس أبابا على خلفية الانتخابات النيابية المؤجلة والتحديات الأمنية المستمرة بسبب إقليم تيجراي.
ففي خطوات فسرها السودان بأنها تصعيدية بدأت إثيوبيا اجراءات رسمية للملء الثاني لخزان سد النهضة مع البدايات المبكرة لموسم الأمطار المنتظر أن تصل ذروته في يوليو وأغسطس المقبلين، دون اعتبار رفض مصر والسودان والمطالب والمبادرات الدولية والإقليمية للعودة إلى المفاوضات والتوافق على اتفاق عادل وشامل وملزم يحكم قواعد ملء وتشغيل السد ويضمن يحقق مصالح إثيوبيا بالاستفادة من السد من دون توقيع الضرر على مصر والسودان.
وكشف مصطفى الزبير، رئيس وفد التفاوض السوداني في ملف سد النهضة في تصريحات صحفية أن إثيوبيا بدأت في الملء الثاني، مما يشكل أول مخالفة، متوقعاً أن يكتمل الملء الثاني نهائياً في يوليو وأغسطس المقبلين، مشيراً إلى تحركات أفريقية وعربية ودولية لإرسال رسائل بأن الملء الثاني بدأ فعليا دون وجود إشارات لمنع إثيوبيا من الملء الثاني دون اتفاق، مشدداً على وجود ضمانات دولية في التفاوض بسبب التعنت الإثيوبي.
رغم استمرار الرسائل الدبلوماسية لإثيوبيا بحرصها على العودة إلى المفاوضات إلا أن آخر تصريح لوزير الخارجية الإثيوبيا أكد أن الملء الثاني لسد النهضة سيكون في موعده المقرر وفق المخطط الإثيوبي لاستكمال أعمال بناء السد، وأنه لا توجد قوة تستطيع أن توقف إثيوبيا عن ذلك.
ومن المقرر أن تبدأ إثيوبيا تشغيل تجريبي لتوليد الطاقة في سد النهضة الإثيوبي خلال موسم الأمطار المقبل، خلال عملية الملء الثاني بتشغيل أول توربينتين من وحدات توليد الكهرباء.
كانت إثيوبيا قد بدأت خلال الشهر الماضي عددا من الإجراءات التنفيذية في موقع سد النهضة ضمن أعمال التجهيز للملء الثاني من خلال تصريف جزء من المياه المخزنة خلف السد وتجفيف الممر الأوسط من خلال فتح البوابتين السفليتين في جسم السد وبداية صب الخرسانة، حيث رصدت الأقمات الصناعية استمرار كميات المياه المخزنة خلف البحيرة على منسوب يساوي تقريباً 5 مليار متر مكعب وهو حجم المياه التي تم تخزينها خلال الملء الأولي في يوليو من العام الماضي.
أما وزير الموارد المائية، محمد عبد العاطي توقع عدم قدرة إثيوبيا على تخزين الكميات المعلنة من خلال الملء الثاني والمقدرت بـ13.5 مليار متر مكعب بسبب مشاكل تقنية وهدنسية في أعمال الإنشاءات بالسد، وهو ما رصده عدد من خبراء المياه المتابعين لتطور الإنشاءات في سد النهضة، حيث تشير التقديرات إلى تخزبن أقل من 5 مليار متر مكعب فقط خلال الموسم المطري الجاري، دون الوصول إلى الهدف المخطط له بارتفاع منسوب البحيرة إلى منسوب 595 متر فوق مستوى سطح البحر بما يمكن من توليد الكهرباء عبر التشغيل الأولي للتوربينتين الأوليين.
غير أن الحكومة السودانية أكدت على لسان وزيرة الخارجية، مريم المهدي، أنها قادرة علي إرغام إثيوبيا على عدم المضي قدما في الملء الثاني لخزان سد النهضة من دون اتفاق، مندده بالسياسات الإثيوبية واتهمتها بأنها تسعى لفرض الهيمنة وتركيع الدول الأخرى.
حشود عسكرية على الحدود مع السودان
تزامنا ًمع وصول قوات مصرية برية وبحرية وجوية للسودان لإجراء مناورات عسكرية، قالت تقارير إعلامية سودانية أن ولاية القضارف شرق السودان رصدت حشود كبيرة للقوات الإثيوبية في عدة مواقع على الشريط الحدودي الذي تقع ضمنه مناطق متنازع عليها بين البلدين، حيث تتمركز في منطقتي الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى.
وتأتي التحركات الإثيوبية رغم تأكيد مصري وسوداني على أن التدريبات المشتركة ومناورات حماة النيل ليس لها أي علاقة بالأحداث أو التوتر مع إثيوبيا سواء في ملف سد النهضة أو التوتر على الحدود السودانية الإثوبية، حيث كان مدير دائرة التدريب بالقوات المسلحة السودانية، أكد في في تصريحات صحفية أن المناورات العسكرية لرفع قدرات الجيش ليست موجه ضد أحد، ولكنها لتبادل الخبراء ورفع الجاهزية القتالية وتعزيز التعاون بين الجيشين.
وقالت التقارير إن الحشود العسكرية الإثيوبية تحركت من داخل العمق الإثيوبي صوب مواقع قامت القوات السودانية باستردادها خلال الفترة الماضية، مقدره أعدادها بنحو 4 آلاف جندي مسلحين بآليات حربية ثقيلة وخفيفة.
ويتزامن تحرك القوات الإثيوبية أيضاً مع بداية الموسم المطري والتحضير للموسم الزراعي فكان الآلاف من المزارعين الإثيوبيين يحتلون أراضي سودانية خصبة تقدر بمليون فدان في المنطقة الحدودية بالفشقة، إلا أن عمليات استرجاع الأراضي من خلال الجيش السوداني منذ نوفمبر الماضي لم تنته لاسترجاع كامل المساحة.
مكاسب سياسية لآبي أحمد قبيل الانتخابات
مع التحديات الأمنية والتوتر المستمر بين العرقيات الإثيوبية بخاصة التيجراي والمناوشات المستمرة بين الإقليم وبين الحكومة الفيدرالية بقيادة رئيس الوزراء آبي أحمد، كان مجلس الانتخابات الإثيوبي قد قرر للمرة الثانية في أقل من عام تأجيل الانتخابات المقرر عقدها في 5 يونيو لأسباب لوجستية متحججاً بتأخير تسجيل الناخبين وعدم التمكن من طباعة بطاقات الاقتراع، حيث جاء الإعلان رغم غلق باب التسجيل في الانتخابات وتسجيل 36 مليون ناخب، دون أن يشملهم شعب إقليم التيجراي.
ويواجه آبي أحمد مشاكل عرقية وتحديات أمنية بالغة، منذ اندلاع الحرب على إقليم التيجراي الذي طالما عارض وجوده في السلطة، إلا أن قدرة الحكومة على فرض سيطرتها على الإقليم تسبب في استقواء قومية الأمهرة التي سعت إلى استعادة السيطرة أراضي قديمة لها كان قد استولي عليها التيجراي خلال قيادتهم للجبهة الثورية الديمقراطية التي كانت تحكم إثيوبيا قبيل الثورة على حكومة ديسالين بقيادة قومية الأورومو.
إلى جانب الصراع في إقليم التيجراي، بدأت مجموعات بإقليم أمهرا بالمطالبة باستقلالية أكبر لمناطقهم حيث بدأت عدد من المناوشات في بني شنقول جمباز الذي يقع فيه سد النهضة، وهو ما اتهم فيه آبي أحمد السودان كاشفاً عن أن القبض على مسلحين تدربوا داخل ولاية النيل الأزرق السودانية.
أزمة تيجراي أقحمت آبي أحمد في مناوشات دبلوماسية مع الإدارة الأمريكية الجديدة، إذ صعد جو بايدن من حدة خطابه إزاء ما يحدث من عمليات تطهير عرقي في الإقليم، وبدأ في اتخاذ إجراءات عقابية باستهداف تأشيرات مسؤوليين إثيوبيين وإريتريين لمنع تنقلهم خارج البلاد، إلى جانب رفع المساعدات الأمنية والاقتصادية التي كانت تخصصها أمريكا لأديس أبابا لحين إنهاء هذا الملف.
اقرأ أيضا:
أزمة إقليم تيجراي.. إلى أين تتجه العلاقات الأمريكية- الإثيوبية؟
ويتصاعد التوتر العرقي في إثيوبيا مع عمليات استهداف أمنية على أساس الهوية لقومية تيجراي، بخاصة العاملين منهم في مناصب دولية والمشاركين في قوات عسكرية تتبع الأمم المتحدة، وهو ما كشف عنه طلب جنوب عسكريين إثيوبيين اللجوء إلى السودان بعد انتهاء عملهم في وحدات تتبع قوات حفظ السلام خوفاً من استهدافهم لدى عودتهم لإثيوبيا.
ويبدو أن إدارة آبي أحمد تحاول اللعب بورقة الانتصارات الخارجية في مواجهة الموقف المشتعل داخلياً حيث تستخدم ورقة سد النهضة والمكاسب الاقتصادية التي قاربت على تحقيقها مع الانتهاء من الملء الثاني والبدء التدريجي لتوليد الطاقة من السد، والتحدي السياسي لمصر والسودان دون اعتبار رفضهم للسد.
ويحذر مراقبون دوليون من استمرار نهج الإدارة الإثيوبية في إدارة الصراع الدخلي بمزيد من التوتر لما سيكون له من انعكاسات على بيئة الصراع في القرن الأفريقي بشكل أكبر بخاصة مع زيادة الاحتكاكات مع السودان والصومال وإريتريا، وهو ما سيعقد من إمكانية تقديم حلول شاملة مع زيادة التعقيدات والتداخلات الإقليمة بخاصة من القوى أصحاب المصالح في المنطقة.
ويتوقع المراقبون أيضاً مزيدا من التعنت الإثيوبي في الملفات المتشابكة مع مصالح دول الجوار على رأسها ملف سد النهضة والنزاع على أراضي الفشقة الحدودية مع السودان، حيث لا يزال النظام يروج لمكاسب سياسية في الداخل بإحراز أي تقدم في هذين الملفين وحسمهما لصالح إثيوبيا.