“على الزوجة طاعة زوجها” ومع ذلك “تجب النفقة على الزوجة لزوجها المعسر إذا لم يكن يستطيع الكسب وكانت هى قادرة على الإنفاق عليه”. تلك مبادئ مسيحية، جسّدتها القوانين، وصدر على إثرها حكم المحكمة الدستورية الذي ألزم المرأة بالإنفاق.
جولة قضائية
وترجع الواقعة إلى قيام زوج برفع دعوى أمام محكمة الأسرة في طنطا. طالب فيها بفرض نفقة على زوجته لصالحه، على نحو يتناسب مع ارتفاع مستوى المعيشة وغلاء الأسعار وارتفاع دخل زوجته. مستندًا إلى المادة 151 من لائحة الأقباط الأرثوذكس.
خلال عام 2008 دفعت الزوجة بعدم دستورية نص المادة 151 من لائحة الأقباط الأرثوذكس. وطالبت بإحالتها إلى المحكمة الدستورية العليا للنظر في الطعن ومخالفتها نصوص المواد (2 و9 و40 و46 و68) من دستور 1971. والمقابلة للمواد (2 و10 و53 و64 و97) من دستور 2014.
كما استندت الزوجة بالأساس إلى أن المادة تخلّ بنص أن “الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسي للتشريع”. وبمبدأ المساواة أمام القانون بين المصريين.
غير أن المحكمة الدستورية العليا اعتمدت في حيثيات الحكم على الفوارق الزمنية. إذ إن مجال تطبيق المادة الثانية على التشريعات فيما بعد إقرارها جاء في عام 1980. بينما لائحة الأقباط الأرثوذكس وضعت في عام 1938، وبالتالي لا تتناولها الرقابة القضائية.
واعتبرت المحكمة أن التمييز أمام القانون بين المصريين ليس تحكمًا، ويستند إلى أسس موضوعية تبرره، ويتفق مع حرية العقيدة بالأساس.
وأوضحت المحكمة أيضًا أن النفقة هي التزام تبادلي في إطار العلاقة الزوجية للأقباط الأرثوذكس، فينتقل استثناءً من الزوج إلى الزوجة. وذلك إذا تحققت الشروط المنصوص عليها؛ كون الزواج نظامًا دينيًا وسرًا مقدسًا يثبت بعقد بين الزوجين طبقًا لطقوس كنسية. وهو بقصد تكوين أسرة والتعاون على نحو أبدي لا مؤقت، ويكفل كل منهما الآخر في السراء والضراء.
وبناء على ذلك، قضت المحكمة خلال الشهر الجاري برفض الدعوى ومصادرة الكفالة، وألزمت الزوجة التكاليف، وأتعاب المحاماة.
الفرق بين الأخلاق والقانون
تاريخيا، كانت المبادئ الأخلاقية منسجمة مع قواعد القانون، فكان اليونانيون لا يميزون بينهما. ثم بدأت التفرقة عند الرومان حتى تردد على أحد الفقهاء قوله: “ليس كل ما يبيحه القانون يعتبر موافقا للأخلاق”. ليعود الخلط بينهما في القرون الوسطى، عند الفقهاء الكنسيين الذين كانوا يتشددون في إقامة قواعد قانونية طبقا للأصول الدينية والأخلاقية.
ولم يبرز الفصل بين القانون والأخلاق بشكل واضح إلا في العصور الحديثة. وبسبب مجموعة من المتغيرات، أضحى يغلب على القائم على التنظيم اعتبارات أخرى غير الأخلاق، كالاعتبارات الاجتماعية، والاقتصادية.
بالإسقاط على مادة اللائحة، التي تم إدراجها في قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين الموحد، فإن الأمر يبدو ظاهريًا حكما أخلاقيًا. كما يعتبر موافقا مع العقيدة الأرثوذكسية، التي تعتقد في أبدية العلاقة الزوجية، وما يترتب عليها من التزامات، ومسؤوليات مادية، ومعنوية.
مآخذ على الحكم
ولكن ثمة مآخذ على الحكم، حيث تقول المحامية ماريان سيدهم إن “الحكم يعد تناقضًا بشأن حقوق والمرأة والمساواة”. وأشارت إلى أن خطورة الأمر ترجع لتناقض المادة مع باقي مواد اللائحة، إلى جانب عدم تفصيلها الآثار المترتبة على القانون.
ففي حين تتضمن المادة نوعًا من المساواة بين الرجل والمرأة في مسألة الإنفاق. تؤكد نفس اللائحة أن للرجل الطاعة، ويملك مميزات مختلفة لا تتساوى فيها المرأة معه، حتى في مسألة الإنفاق.
في هذا السياق، أوضحت سيدهم أن الصيغة الأخلاقية للنص وغموض ألفاظه نظرًا لانطلاقه من مبدأ أخلاقي بالأساس لا مواد قانونية واضحة، يلقي بالكثير من التبعات على المرأة، مثل الأخذ بالمظاهر في مسألة ثراء المرأة أو قدرتها على الإنفاق. كذلك الاعتداد بمكانتها الاجتماعية، أو حتى ميراث أهلها. في حين أن الإنفاق بالنسبة للرجل يتطلب وثائق رسمية محددة تخص راتبه، ولا تقترب من أي دخل إضافي يخصه.
إلى جانب أن شهادة المرأة العلمية ربما تكون دافعًا- وفق تقديرات القاضي- لرجوعها لسوق العمل لمساعدة زوجها. في حين أن اللائحة نفسها تنص على أنه من الممكن اشتراط عدم عمل المرأة خلال عقد الزواج.
وفي الإجمال يأخذ القانون بالمظاهر والأخلاق بالنسبة للمرأة. في حين يكون أكثر تحديدًا بالنسبة للرجل. هذا الأمر نفسه يتكرر مع فكرة تبعات المسألة الجنائية والتي عادةً ما يرجع إلى القاضي، فقد يؤدي الأمر إلى تغريم المرأة. أو مراكمة النفقات الواجبة عليها بشكل يزيد من أعبائها.
وبناءً على كل ما سبق، تنبه سيدهم إلى ضرورة التفرقة بشكل واضح بين الأخلاق والقانون، فكلاهما يختلف تماما عن الآخر. لاسيما في مسألة العواقب المترتبة على مخالفته، والأهم مطاطية الألفاظ، وعدم وضوحها في حالة الأخلاق؛ مما يساهم في إساءة استغلالها.
ضربت سيدهم مثالاً على ذلك بمادة طاعة الزوج الواجبة. وتساءلت عن كيفية تحويل هذه المادة إلى قانون، وكذلك كيفية رصد طريقة عملها، أو العواقب المترتبة على عدم الإذعان لها. وعقّبت: “مسطرة الأخلاق كبيرة ولا نستطيع تقنينها دائمًا”.
القوانين الانتقائية لصالح الرجل
“أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ، لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ، وَلَكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ” (أفسس 5: 22-24)
الباحثة إلهام عيداروس ركزت على إشكالية المساواة التي طالما عالجتها قوانين المحاكم بشكل يصب في صالح الرجل، وزيادة أعباء المرأة. وأن الوضع نفسه يتكرر بالنسبة للمرأة المسلمة.
واعتبرت عيداروس أن الأمر أشبه بالانتقائية في المساواة. فعلى سبيل المثال تعدل مشاريع القوانين الجديدة بالنسبة للمسلمين من ترتيب الرجل في حضانة الأطفال وتفضل أن يكون متزوجًا. في حين أنها تستمر في نزع الحق نفسه في حالة زواج المرأة.
وشددت إلهام على ضرورة السعي في تطبيق المساواة في كافة البنود، وبالقياس على الجميع بغض النظر عن النوع. فكما للزوج الحق في الإنفاق يكون للزوجة الحق في الميراث بالنصف دون اللجوء إلى القضاء. وكذلك مسألة توزيع الثروة مستقبلاً، أو حتى الحق في الولاية.
ولفتت إلى ضرورة إعادة النظر في القوانين التمييزية المتعلقة بالحقوق الدستورية، مثل اشتراط الرجل على زوجته بعدم استكمال تعليمها. أو النزول إلى سوق العمل، وهو الشرط الذي قد يستغل ضدها حتى بعد تغير الظروف في أعقاب سنوات من الزواج. كذلك التغيير الذي يصاحب عمر المرأة ومدى نضجها.
تناقض “حرية العقيدة”
في الوقت نفسه، أشارت إلهام إلى ضرورة الانتباه للتناقض داخل فكرة حرية العقيدة التي استندت إليها المحكمة في قرارها. والتي أكدته المادة الثالثة في دستور 2014، وتلزم أصحاب العقائد المختلفة باللجوء إلى شرائعهم، بعد أن كان الأمر اختياريًا.
وقالت إن ما اعتبرته المحكمة حرية عقيدة، هو انتهاك سافر. وضربت مثالاً على ذلك بحالة السيدة المصرية ابتسام بسخرون وولداها بنيامين ونيفين أمام المحكمة الدستورية. وكان زوجها وأبو أولادها سافر إلى بلد عربى للعمل واختفى تماما. فتوجهت للقضاء؛ كى تستصدر حكما بإثبات وفاة زوجها لتستطيع هى وأولادها أن يرثوا ويستكملوا حياتهم، ظنًا منهم أن القاعدة التى تنطبق على المسلمين، وهى الانتظار أربع سنوات من تاريخ غياب الشخص فى حالة يغلب عليها الظن بهلاكه، تنطبق عليهم. لكنهم اكتشفوا أن الأقباط الأرثوذكس تُطبَّق عليهم قاعدة أخرى بموجب المادة الطعينة. وهى الانتظار ثلاثين عامًا من غيابه أو بلوغ الغائب تسعين عامًا، وهو ما أشعرهم بالظلم مقارنة بأي أسرة مسلمة مصرية.
حينها قضت المحكمة بعدم دستورية هذه المادة وضرورة معاملة الأسرة المسيحية مثل أي أسرة مسلمة في وضع مشابه. ذلك أن “القاعدة القانونية التي تقوم على تنظيم أوضاع الأسرة المصرية يجب أن تكون عامة ومطلقة في انطباقها على كل أسرة مصرية، وأنه لا يجوز أن تختلف قاعدة عن أخرى تتحد معها فى محلها، إلا أن يكون مرد الاختلاف هو اتصاله بشكل جازم بأمر العقيدة، حيث يجوز فى هذه الدائرة وحدها أن تختلف القواعد القانونية، وهو اختلاف يتحد في انبعاثه من قاعدة دستورية مقابلة هى كفالة حرية العقيدة التى نصت عليها المادة 46 من الدستور”.
الحل.. قانون أحوال شخصية مدني
في أوضاع الأسرة المصرية وتناقضاتها ترى عيداروس أن العمل بقانون مدني موحد يأتي في مصلحة ترسيخ قيم المواطنة. التي يجب أن تتغلب على أي نزعات طائفية تجعل هناك تفضيلاً أو ميزة لمواطن عن أخيه. سواء على أساس النوع، أو الجنس، وجعل اللجوء إلى المؤسسة الدينية أمرا شخصياً اختياريًا.
يتفق الباحث في الأديان إسحق إبراهيم مع عيداروس في ضرورة تشريع قانون مدني موحد يخص كافة الأطياف لتجاوز الخلافات العقدية. في الوقت نفسه يرى إسحق أن الحكم رغم أخلاقياته إلا أنه يتمتع بالانتقائية.
وقال إبراهيم إن العمل بهذه القاعدة يتطلب خلق نظام مالي كامل، لا يخص مسألة الإنفاق وحدها، إنما مسألة الثروة برمتها.
كذلك مسألة المواريث مثلاً، التي تتضمن عددا من التعقيدات، ويتم الفصل فيها على أساس مصلحة الرجل. كما في حالة الخضوع لقواعد الشريعة الإسلامية، التي لا تساوي الرجل بالمرأة، في حين أن العقيدة المسيحية تساوي بينهم.
وينص القانون على أن المساواة بين الرجل والمرأة في المواريث لا تتم إلا بموافقة الطرفين في بعض المحاكم. أو الاحتكام إلى العقيدة الإسلامية، وهو ما يساء استغلاله عادة من قبل أصحاب المصلحة من الرجال. وفي بعض الأحيان لا يتم توريث المرأة كما يحدث بالصعيد مثلا، على حد قول إسحق. وشدد على ضرورة وجود العلاقة التشاركية في كل الأمور، من حقوق الولاية، إلى الحضانة وغيره.
كما لفت إسحق إلى طول فترة التقاضي. فعلى سبيل المثال استغرق الحكم في هذه القضية 13 عامًا، وهو أمر يزيد الوضع تعقيدًا في حالة الأحوال الشخصية خصوصا. فالأمر يتعلق بكيان الأسرة التي يرتبط مصيرها بهذه الأحكام .