لا يمكنني أن أخفيك سرًا سيدي، إن لدي نفورا عنيفا من الطبقات الاجتماعية المهمينة على غيرها … إنني أكره أصحاب العظمة، أكره مكانتهم، قسوتهم، أحكامهم المسبقة، وضاعتهم، وكل رذائلهم، وكنت لأكرهمم أكثر كثيرا إن كنت احتقرهم أقل.

  • روسو، رسالة لماليشيربيه، 28 يناير 1762، مقتبسة في (Dent 2005)

بدأت المقال الأول في هذه السلسلة بالحديث عن روسو، واليوم أعود إليه. في الواقع، عندما كتبت المقال الأول كنت أظن أنه سيكون كافيا للحديث عن مدرسة “العقد الاجتماعي” في الفكر السياسي، ولكنني سرعان ما تبينت أن هذه المدرسة بما فيها من التنوع والثراء، وبما لها من الأثر، يُعد تقديمها بهذا الشكل المختصر بشدة ظالما لها، وللقارئ أيضا. ثمة أيضًا سببان لأن أتعرض لأهم ممثلي مدرسة العقد الاجتماعي بشكلها الكلاسيكي (هوبز ولوك، واليوم روسو) بتفصيل أكبر: السبب الأول أن هؤلاء إضافة إلى مساهمتهم في تأسيس هذه المدرسة قد أسهموا في بلورة مجموعة من الأفكار التي تحولت إلى مسلمات في الفكر السياسي منذ القرنين السابع عشر والثامن عشر وحتى يومنا هذا. لا يوجد أي خطاب سياسي، حول نظم الحكم، وشرعيتها، وأحقية الناس في الثورة على حكامهم، لا يستخدم مجموعة من البديهيات، التي عبر عنها هؤلاء المفكرون في وقت لم يكن أي منها فيه بديهيا على الإطلاق،

هذا يقودني إلى السبب الثاني للحاجة إلى الحديث عن هؤلاء المفكرين بتفصيل أكبر، وهو أن الأفكار التي عبروا عنها لأول مرة، وهي بديهية بالنسبة لنا اليوم، أصبحت بذلك منتزعة من السياق التاريخي والنظري الذي ظهرت فيهما الحاجة إليها، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الدولة الحديثة، كما نعرفها اليوم، تتطور نماذجها الأولى في إنجلترا وفرنسا. نحن اليوم نتعامل مع هذه الأفكار على أنها مسلمات أساسية تقوم عليها ممارسة السياسة سواء كانت في ظل نظام ديموقراطي، كما تقوم عليها أيضا تبريرات النظم الديكتاتورية، عندما تقدم نفسها كبديل وحيد عن الفوضى. أن نرى هذه الأفكار في السياق الذي أنتجها يُسقط عنها بديهيتها، ولا يعني ذلك أنها لا تصلح لأي سياق مختلف، ولكنه يعني فقط أنها ليست صحيحة مطلقا، ولا هي خاطئة مطلقا، وإنما هي ملائمة لظروف نشأتها ومبررة بها، وقد تكون ملائمة لظروف شبيهة تبررها في زمان ومكان مختلفين، وتساعدنا معرفة السياق الذي نشأت فيه أي من هذه الأفكار في أن نحكم بشكل أفضل على مدى ملائمتها أو تنافرها مع ذلك السياق المختلف.

جان-جاك روسو
جان-جاك روسو

في المقال الحالي والقادم أتناول الفكر السياسي لجان-جاك روسو ببعض التفصيل. ثمة عدة مبررات لأن أعطي روسو مساحة أوسع في تناول أفكاره: أولا أهميته البالغة في تاريخ الفكر السياسي، وأثره الكبير في تاريخ الثورات التي شكلت عالمنا الحديث وبصفة خاصة الثورة الفرنسية؛ ثانيا، وذلك هو الأهم لهذه السلسلة، يقدم روسو عددا من المبادئ الأساسية التي اعتقد أنها ينبغي أن تميز أي مشروع لتجديد الفكر السياسي في وقتنا الحاضر، وفي مقدمتها أن أي نظرية سياسية ينبغي عليها ألا تفترض نموذجا عقليا لطبيعة ثابتة للبشر، بل أن تتعامل مع البشر كما هم في الواقع، ومع مجتمعاتهم كما أنتجتها ظروفها التاريخية. بصفة خاصة، اهتم روسو بحقيقة التفاوت المادي والاجتماعي بين البشر، بخلاف مفكرين مثل هوبز ولوك الذين افترضا مساواة غير واقعية، رآها الأول في أن الجميع غير آمنين على حياتهم بنفس القدر، بينما تصورها الثاني في صورة افتراض تشريعي قانوني.

مزج روسو في أفكاره بين النظرية الاجتماعية، والنظرية السياسية بطريقة لم يهتم بها سابقيه، وأهملها أغلب التالين له، فيما عدا قليل منهم، وأبرزهم بالطبع هو كارل ماركس. ولكن الفكر السياسي في تطوره خلال القرن العشرين بصفة خاصة، والذي غلبت عليه المدرسة النفعية بقدر أو بآخر، انفصل بشكل شبه تام عن النظرية الاجتماعية، وعن علم الاجتماع الحديث، بل وانفصل عن علم الاقتصاد الذي كان وجها آخر له عند مؤسسي المدرسة النفعية كديفيد هيوم، وآدم سميث، وجيريمي بنثام. هذا الإنعزال لما يسمى اليوم بالعلوم السياسية عن غيرها من العلوم الاجتماعية، أفقدها حيويتها فأصبحت اليوم الأقل تطورا مقارنة بغيرها من العلوم الاجتماعية، والأكثر رجعية ومحافظة في كثير من الأحيان. العودة إلى روسو، تفتح طريقا هاما أمام تجاوز الجمود الغالب على النظرية السياسية في عصرنا الحالي، فليس غريبا أن يكون له مكانه الخاص في هذه السلسلة.

مواطن من جنيف

ولد جان-جاك روسو في جنيف (أحد كانتونات سويسرا الحالية)، في 1712. كان والده صانع ساعات من أصل فرنسي، ينتمى إلى واحدة من عائلات الهيوجونوت (البروتستانت الفرنسيين) التي لجأت إلى جنيف الكلفينية (واحدة من الطوائف البروتستانتية الرئيسية) هربا من اضطهاد ملوك فرنسا الكاثوليك. والدة روسو كانت تنتمي إلى إحدى العائلات القديمة في جنيف التي يحق لأبنائها أن يحملوا جنسية المدينة، ومن خلالها حصل روسو على حق المواطنة بجنيف، وهو أمر كان شديد الاعتزاز به طيلة حياته، وحرص على توقيع الغالبية العظمى من كتاباته “جان-جاك روسو، مواطن جنيفي”.

جان-جاك روسو
جان-جاك روسو

انتماء روسو إلى جنيف كان له أثر بالغ في تشكيل أفكاره السياسية. جنيف كانت واحدة من المدن الأوروبية المستقلة التي دافعت عن استقلالها طيلة العصور الوسطى في وجه محاولات النبلاء الإقطاعيين لضمها إلى ممتلكاتهم. في منتصف القرن الخامس عشر أنشئ “المجلس الأكبر” الذي أصبح منذ ذلك الحين المؤسسة المسؤولة عن إدارة شؤون المدينة. هذا المجلس كان أعضاؤه ينتخبون كل سنة في بداية فبراير، وقاد لزمن طويل جهود مواطني جنيف للحفاظ على استقلال مدينتهم. في القرن الثامن عشر، الذي ولد روسو قرب بدايته، كانت جنيف لا تزال مدينة مستقلة، يحكمها نظريا نظام ديموقراطي، ولكنه كان أشبه بنظام جمهورية روما ما قبل الإمبراطورية. كانت نسبة محدودة من سكان جنيف يتمتعون بحق المواطنة ومن ثم حق انتخاب أعضاء المجلس الأكبر، وهؤلاء بدورهم كانو ينتخبون المجلس المصغر الذي كان الحاكم الفعلي للمدينة، وتشكل طيلة الوقت من أفراد من العائلات الأكثر ثراء ونفوذا في المدينة. كان هذا حكما أوليجاركيا (حكم النخبة) أكثر منه حكما ديموقراطيا. ومع ذلك كان روسو فخورا بمنظومة الحكم الديموقراطي هذه، أو بمعنى أصح بالصورة المثالية النظرية لها.

لم تنجو جنيف كسائر أوروبا في هذه الفترة التاريخية من النزاعات الداخلية، ولكن النزاع داخل جنيف كان سببه هو رغبة سكانها المحرومين من المشاركة في إدارة شؤونها في إنهاء هيمنة النخبة على حكم المدينة. هذا الصراع ضد النخبة زرع في روسو كراهيته للطبقات المهيمنة التي عبر عنها في مواضع لا حصر لها من كتاباته، وأحد نماذجها هو ذلك الاقتباس الذي بدأت به هذا المقال. كانت نشأة روسو متواضعة، وفي صباه اضطر إلى العمل كصبي متدرب لحرفيين مختلفين على أمل أن يتعلم حرفة يمارسها فيما بعد، ولكن سوء المعاملة التي لقيها ألجأه إلى الهرب من جنيف في سن السادسة عشر. في الأعوام التالية تنقل روسو بين أحوال عدة، فعاش في رعاية سيدة من النبلاء لبعض الوقت، كانت سببا في تحوله إلى الكاثوليكية مما أسقط عنه المواطنة بجنيف البروتستانتية المتعصبة، طيلة 20 سنة تالية، واستعادها فقط عندما عاد واعتنق المذهب البروتستانتي. خلال هذه الفترة تقلب روسو بين أعمال مختلفة في خدمة سادة مختلفون، وعلم نفسه بنفسه، حتى أمكنه أن يعمل كمعلم للموسيقي التي منحته مدخله الأول إلى عالم المثقفين في باريس التي انتقل للعيش فيها، في عام 1742.

حظي روسو، من خلال عمله بكتابة الموسيقى والكتابة عنها، بقدر من الشهرة
حظي روسو، من خلال عمله بكتابة الموسيقى والكتابة عنها، بقدر من الشهرة

حظي روسو، من خلال عمله بكتابة الموسيقى والكتابة عنها، بقدر من الشهرة، وأصبح معروفا في أوساط مثقفي باريس وأهمهم في ذلك الحين فولتير بالطبع، إضافة إلى دينيس ديدرو، وجان دالامبير، الذين أسسا معا مشروع الموسوعة (Encyclopédie)، أحد معالم عصر التنوير. وأتيح لروسو أن يكتب الفصل الخاص بالموسيقى في الموسوعة، بخلاف تقديمه مشروعا لعلامات موسيقية بديلة إلى أكاديمية العلوم الفرنسية. ولكن نقطة التحول، التي جعلت من روسو الفيلسوف السياسي الذي نعرفه، وقعت في 1749. وروسو نفسه يضفي على الحدث شكلا دراميا مدللا بذلك على مدى الأهمية التي يعطيها له. فبينما كان في طريقه إلى فينسان، لزيارة ديدرو في سجنه، اصطحب جريدة تسليه في الطريق الطويلة التي قطعها ماشيا، وفي هذه الجريدة وجد إعلانا عن مسابقة لأكاديمية العلوم والفنون في ديجون، موضوع المسابقة هو إجابة السؤال: كيف ساهم إحياء العلوم والفنون في ترقية الحس والفضيلة الإنسانية. يعبر روسو عن الأم بمبالغته المعهودة قائلا:

إذا ما كان شيء أشبه بدفقة من الإلهام، فذلك هو الدافع الذي سرى في بينما قرأت [الإعلان]. شعرت بعقلي تتخطفه آلاف الأضواء؛ قدمت حشود من الأفكار الحية نفسها في ذات اللحظة، بقوة وبحيرة قذفت بي إلى مأزق لا يمكن التعبير عنه؛ شعرت بأن رأسي قد سيطرت عليه دوامة مثل تلك المصاحبة للسكر، جعلتني أنهج لألتقط أنفاسي، وإذ لم أعد قادرا على التنفس وأنا أمشي، تركت نفسي أرتمي تحت واحدة من الأشجار على جانب الطريق.

  • رسالة إلى ماليشيربيه، 12 يناير 1762، مقتبسة في (Bertram 2004)

تقدم روسو إلى المسابقة بنص بعنوان “خطاب عن العلوم والفنون”، فاز بالجائزة الأولى في مسابقة الأكاديمية، هذا الخطاب أصبح يسمى لاحقا بالخطاب الأول، حيث كتب روسو “خطاب عن أصول اللا مساواة” (الخطاب الثاني) بعد خمسة أعوام (1754)، ونشر في العام التالي. الخطاب الأول هو الأقل أهمية بين أعمال روسو في الفلسفة السياسية ولكن أهميته تكمن في أنه بداية تحول اهتمامه إلى البحث في أصول “مأزق الإنسان المعاصر.” معالجته الأكثر تماسكا وتعبيرا عن نظرته الخاصة، تبدأ بالخطاب الثاني عن اللا مساواة وتصل إلى أفضل تعبير لها في كل من روايته إميل، وكتابه الأهم “عن العقد الاجتماعي.” اللذان كانا سببا في محنته التي أشرت إليها في السطور الأولى للمقال الأول في هذه السلسلة.

روسو: الملامح الرئيسية

يوجز نيكولاس دينت (Dent 2005)، ما يعده، أهم الثيمات في فكر روسو في مجموعة نقاط:

  • وصفه ونقده لما تجلبه الحضارة من فساد للإنسان.
  • اهتمامه بعلاقات القوة/السلطة بين الناس.
  • احتفاؤه برجل “الطبيعة”.
  • دور عاطفة “حب الذات”، وعاطفة “حب الذات من خلال الآخرين”.
  • وصفه لأسس الشرعية السياسية ودور الإرادة العامة.
  • إبرازه للحرية، الأخوة، والمساواة في مجتمع عادل وإنساني.
  • وصفه لدور الثقافة الوطنية والدين في حياة الأفراد وفي مجتمع عادل.

لا تتسع هذه السطور للحديث عن جميع هذه النقاط بالطبع، ولا لاستعراض أهم أعمال روسو، ومن ثم فسأكتفي بذكرها، بينما ألتفت لما أعتقد أنه يهمنا في الإطار الحالي، وأبدأ بالإشارة إلى الموقف الذي قد يبدو متناقضا لروسو من مشروع التنوير. فروسو من جانب أحد أهم مفكري ما نسميه بالتنوير وأبعدهم أثرا، ولكنه في المقابل أحد من تشككوا في بعض أهم الأعمدة التي يقوم عليه مشروع التنوير، وقدم نقدا هاما لها، وبشكل ما يعتبر من آباء الحركة الرومانسية التي في بعض وجوهها تعتبر رد فعل نقيض للتنوير.

كان مشروع حركة التنوير يتأسس، بين أمور أخرى، على الاعتقاد في أن تطبيق المعرفة العلمية على المشاكل الاجتماعية يقدم إمكانية تحويل البشر للأفضل. ذلك ما عبرت عنه رؤى ديفيد هيوم، كما تعرضنا لها في المقال السابق، وهي الفكرة التي تبناها فلاسفة الموسوعة، ديدرو ودالامبير، في حين تشكك روسو فيها، وعبر عن تشككه هذا بقوة كلفته صداقة هؤلاء وحولتهم إلى أعداء وخصوم، في نهاية حياته. اختلف روسو كذلك بشكل حاد مع رؤى القرن السابق عليه والتي كان أبرز من قدمها هما هوبز ولوك. فروسو كان يعتقد في أن الإنسان “صالح” بطبيعته، وأن المؤسسات المختلفة للحضارة هي ما يحوله إلى كائن “سيئ”. وبخلاف هوبز ولوك الذان رأيا أن حال الطبيعة للإنسان الفرد هي العزلة فقد اعتقد روسو أن الإنسان خارج أي مجتمع لا يختلف عن أي حيوان في احتياجاته الأساسية. هذه القناعة تبرز واحدة من تناقضات روسو المحيرة، بين أفكاره وحياته، فكما يقول برترام:

بالنسبة لروسو، تتمثل أعمق احتياجاتنا الإنسانية في إقامة رابطة بين أنفسنا والآخرين، تضمن لنا إحساسنا بأن لنا قيمة. لقد أنهى هو نفسه حياته، بشعور بالانفصام الجذري عن بقية الجنس البشري، ولكن استبصاره أن النظم ذاتها، الأسواق والتراتبيات الهرمية، التي تمكنننا من تحقيق السيادة على العالم الطبيعي، يمكن في الوقت نفسه أن تجتمع لتحبطنا وتعزلنا، لا يزال يحتفظ بقوته. (Bertram 2004)

الإحساس بقيمة الذات، والذي يعتمد على تلك الرابطة التي نشكلها مع الآخرين، هي واحدة من الأفكار المركزية عند روسو. وهي، في أحد التفسيرات على الأقل، ما يعنيه بمصطلح هو بالفرنسية amour propre، ويعني حرفيا “حب النفس”، ولكن روسو يستخدم أيضا مصطلحا آخر هو amour de soi، والذي يعني حرفيا أيضا “حب النفس”، ولكنه بينما يعني بالأخير هذه العاطفة التي تدفع الإنسان إلى حفظ النفس من خلال السعي لتوفير احتياجاته المادية، وهو في ذلك لا يختلف عن أي حيوان آخر، فهو يعني بالأول العاطفة التي بها يحب الشخص في مجتمع صورته في أعين الآخرين. هذه الصورة التي يحرص الإنسان عليها، والتي تضمن أيضا، بشكل ما، حفظ النفس ولكن من خلال الاعتماد المتبادل على الآخرين في مجتمع، هي ما يدفعه إلى تكوين روابطه بغيره من البشر لتشكيل وحدات اجتماعية تبدأ بالأسرة والعائلة، وتمتد، كما يريد لنا روسو أن نرى، حتى ما يسميه “الجسد السياسي”؛ أي تلك الجماعة من البشر التي تتشارك إدارة شؤونها وحكم نفسها بنفسها.

عن أصول اللا مساواة

في “خطاب عن أصول اللا مساواة”، يقسم روسو تاريخ تطور المجتمع البشري إلى أربعة مراحل؛ في الأولى نرى الحيوان البشري المنعزل، الكسول، ولكنه حر وسعيد، ولا يحركه إلا حب النفس amour de soi؛ في الثانية مع البدايات الأولى للمجتمع، يتعلم البشر استخدام بعض الأدوات البسيطة، ويتواصلون بلغة بسيطة، يشكلون عائلات دائمة، يملك الأفراد أسلحتهم، وتمتلك العائلات مساكنها، ولكن الملكية الخاصة بشكلها المؤسسي لم تظهر بعد، يطور البشر شكلا من الانجذاب إلى بعضهم البعض، فيظهر الحب، ومع تظهر الغيرة؛ في المرحلة الثالثة، التي يرى رولز (Rawls 2007) أنها المرحلة المثالية عند روسو، هي المرحلة الأبوية في المجتمع البشري، لا حكم إلا للعائلات، يعتمد الناس على الصيد والالتقاط مما توفره الطبيعة، ويعيشون في مجتمعات قووية مستقلة عن بعضها البعض، ينحصر الترفيه على الأشكال الجماعية للرقص والغناء، ويبدأ الناس في تقدير واجبات الفرد تجاه الجماعة ومن ثم يظهر تقدير الجماعة للأفراد، الذين يسعون إلى الحفاظ عليه ومن ثم يظهر حب النفس من خلال الآخرين amour propre.

أصل التفاوت بين الناس
أصل التفاوت بين الناس

المرحلة الرابعة لتطور المجتمع البشري عند ررسو هي تلك التي يظهر فيها المجتمع المدني والحكومات بأشكالها. يعتقد روسو أن ممارسة الحكم تظهر كنتيجة لتطور المجتمعات بحيث يصبح تفاوت الناس من حيث الثروة المادية أكثر وضوحا، ويسعى من يحوزون الثروات إلى حمايتها من هؤلاء الأقل حظا من هذه الثروة. وحسب التقاوت من حيث الثروة والمكانة الاجتماعية يتحدد شكل نظام الحكم في أي مجتمع، فعندما ينفرد شخص بفارق ضخم في المزايا عن الآخرين يكون الحكم ملكيا، وإذا انفردت بالمزايا جماعة من الناس متساوون فيما بينهم، يكون الحكم أوليجاركيا، أما عندما يضيق التقاوت بين الناس فيكونون أقرب إلى المساواة فيما بينهم يكون الحكم ديموقراطيا.

قد يبدو روسو مناقضا لنفسه عندما يصر على أن الإنسان صالح أو خيّر بطبيعته، ثم هو في عرضه لمراحل تطور حياة البشر في مجتمعات يصور لنا تطورا من السيئ للأسوأ بشكل أو بآخر. ولكن الحقيقة أن الفكرة الأساسية المحركة لتصورات روسو هذه هي قابلية البشر للتكيف مع الظروف المختلفة، ومن ثم فإن أي شكل تاريخي لمجتمعاتهم هو ظرفي وعارض بالأساس. وبعبارة أخرى لو كانت الظروف التي تشكلت فيها المجتمعات البشرية مختلفة لنشأت وتطورت هذه المجتمعات بشكل مختلف. بالتبعية أيضا، ليس الشكل الحالي (في عصر روسو، أو في غيره) للمجتمع البشري ضروري أو دائم، بل هو قابل للتغير، وفق الظروف، أو وفق خطة للوصول به إلى شكل أفضل له. فهم روسو بهذه الطريقة يحل إلى حد بعيد إشكالية التناقض الذي رآه كثيرون بين الخطاب الثاني (المتشائم)، وبين عمله الرئيسي “عن العقد الاجتماعي” (المتفائل). وهو يتوافق مع رؤية معلقين هامين على أعمال روسو، مثل إرنست كاسيرر (Cassirer 1989) ، أخذوا على محمل الجد ما أكده روسو نفسه في نقده الذاتي لأعماله، فهم مثله يرون أن هذه الأعمال متجانسة من حيث أفكارها الأساسية، ويكمل بعضها بعضا، ومن ثم فالخطاب الثاني عن اللا مساواة، هو تمهيد ضروري، لنظرية روسو التي يقدمها في “عن العقد الاجتماعي”، الذي سيكون موضوع المقال القادم.

مصادر

Bertram, Christopher. 2004. Routledge Philosophy Guidebook to Rousseau and the Social Contract. London New York: Routledge.

Cassirer, Ernst. 1989. The Question of Jean-Jacques Rousseau. New Haven: Yale University Press.

Dent, N. J. H. 2005. Rousseau. London New York: Routledge.

Rawls, John. 2007. Lectures on the History of Political Philosophy. Cambridge, Mass: Belknap Press of Harvard University Press.

لقراءة سلسلة تامر موافي عن تجديد الفكر السياسي:

نحو تجديد الفكر السياسي| عن العقد الاجتماعي (1)

نحو تجديد الفكر السياسي| ليفياثان هوبز: الوحش ذو السلطات المطلقة (2)

نحو تجديد الفكر السياسي| جون لوك: سيادة الشعب والحق في الثورة (3)

نحو تجديد الفكر السياسي| ديفيد هيوم: المنفعة والصالح العام (4)