كتب أحدهم قبل سنوات يحكي عن حارس إحدى الحدائق العامة، الذي أبدى ضيقه من تواجد “الحبايب” في الحديقة “اتنين اتنين”، واصفا الوضع بأنهم: “قاعدين بيتحرشوا ببعض جوّه”!

أتذكر جيدا الوقت – غير البعيد- الذي كانت كلمة “تحرش” فيه كلمة جديدة، غريبة الوقع على أذن المجتمع. وأقصد بالطبع «الكلمة» لا الفعل الذي تشير إليه.

أما من تعرف على الكلمة فكان يستخدمها – غالبا – بصورة خاطئة كحارس تلك الحديقة، فكان يعتقد أن أي نشاط جنسي أو حتى عاطفي بين اثنين هو تحرش، غير مدرك أن التحرش، كأي جريمة، يتعلق بالاعتداء أو الإرغام القسري، بل إنه، نتيجة ميراث ثقافي طويل، يشعر بالاستفزاز من فعل التراضي أكثر من فعل الاعتداء!

كانت الكلمة الدارجة في المجتمع المصري قبل ذلك هي “المعاكسة”، والتي كانت تتعلق أكثر بمفهوم “الغزل” أو إبداء كلمات الإعجاب، وما يصاحبها من “تعليمات” أسرية للبنت بألا تتجاوب معها، وأن تسير في طريقها متجاهلة إياها، كانت الأمهات ممن يبذلن تلك النصائح ينتمين لجيل “المعاكسة” و”يا أرض اتهدّي”، ولا يدركن أن التحرش شيء آخر ينتمي إلى عالم الاستقواء والكراهية، ويبدأ من الملاحقة وألفاظ العنف الجنسي وصولا إلى الاعتداء البدني.

حتى أن القانون نفسه، الذي كان مليئا بمفاهيم من قبيل الاغتصاب وهتك العرض والفجور والفعل الفاضح في الطريق العام، انتظر حتى العام 2014 ليدرج لفظ “التحرش” بين نصوص  العقوبات.

اقرأ أيضا:

حقوق المرأة: جرائم التحرش والاغتصاب.. هل تسقط بالتقادم أو الاعتذار؟

 

لا نتكلم هنا عن فترة طويلة – في عمر الشعوب. أعتقد أنه كان العام 2005 حين بدأ النقاش المجتمعي الواسع حول التحرش بعد واقعة اعتداء جماعية حدثت أمام إحدى سينمات وسط البلد. كنت مشاركا في إعداد ملف نشرته صحيفة الدستور عن الواقعة آنذاك، وأذكر جيدا حجم الإنكار الذي تعامل به المجتمع مع الحادثة، وفي مقدمته المؤسسات الرسمية التي كانت ترفض فكرة أن ذلك “يحدث في مصر”.

الشرطة النسائية في محيط السينمات بعد انتشار وقائع التحرش.. تصوير آخرون

ولا شك أننا – رغم كل شيء- قطعنا مشوارا كبيرا – رسميا وشعبيا – في التعامل مع العنف الجنسي، بالمقارنة مع الماضي. وككل ظاهرة اجتماعية، فإن الطريق مليئة بالعثرات والانتكاسات، وبالمكاسب أيضا، فلا يجب أن ننسى الانتصارات حين تقع الهزائم، ولا أن نتجاهل الهزائم حين ننتصر، وقد رأينا كيف أن أحكام السجن المشدد التي صدرت لصالح “فتاة التيك توك” (م.ع) ضد المدانين باغتصابها، بعد معركة قانونية قادتها محاميتها القديرة هدى نصر الله، قد أتت بعد أيام من حفظ ” قضية الفيرمونت” الشهيرة لعدم كفاية الأدلة.

اقرأ أيضا:

حقوقيون: إغلاق “الفيرمونت” ردة على قضايا المرأة

 

والواقع أن مجرد فتح قضية فيرمونت بعد 6 سنوات من الواقعة المفترضة كان حدثا غير مسبوق في اتهامات الاغتصاب، ومن ثم فإن الخطاب المحبط (بكسر الباء) فيما يخص دعاوى التحرش والعنف الجنسي، الخطاب الذي ينتهج عبارة (شفتوا ليه البنات مش بيشتكوا) قد يكون أشد ضررا رغم افتراضه التعاطف مع الضحايا. فصحيح إن إثبات دعاوى التحرش ليس بالسهل، لكنه كذلك في معظم بلدان العالم لطبيعة الفعل نفسه الذي لا تبقى آثاره البدنية طويلا، كما أن كلا من الإدانة والبراءة جزء من طبيعة العملية القضائية، سواء في قضايا التحرش أو غيره، وإلا انتفت الحاجة إلى المحاكم وإلى القانون.

ومع ذلك، فإن في مقابل القضايا التي يفلت فيها المتهمون المفترضون من العقاب، تمتلئ الأخبار أيضا بمن يدفعون ثمن جريمتهم، فها هو المتحرش بطفلة المعادي موجود في السجن، وكذلك المعتدين على فتاة التيك توك، وصاحب فعل التحرش الفاضح في المترو، وغيرهم الكثير ممن تنشر الميديا أخبارهم أو من لم تصل أخبارهم إليها.

أما النقطة الأهم في المعركة الطويلة ضد العنف الجنسي. فهي أن التحرش انتقل من مرحلة كان يتم إنكاره فيها، إلى مرحلة الاعتراف بوجوده، وأخيرا، إلى المرحلة الأطول والأهم اجتماعيا؛ وهي أنه يتحول –وإن ببطء شديد- إلى وصم اجتماعي لمرتكبه، وتعرف الكثير من الفتيات اليوم، أن كاميرا هاتفها المحمول صارت سلاحا (قد) تستطيع الانتصار به على المعتدي. هل يكفي هذا؟ بالطبع لا يكفي. فثمة نوع من الجرائم لا يمكن ملاحقته من دون انتشار كاميرات الشوارع في كل مكان –هذا ما أوقف الجرائم التسلسلية في الغرب. وبالطبع، فإن الخطوات الرسمية، وإن كانت جيدة، إلا أنها لم تنتقل بعد إلى مستوى المواجهة الشاملة لهذا السرطان الاجتماعي، وإلى أن يحين هذا اليوم، لا مكان لليأس والتيئيس.