مع تطور تقنيات الاتصال الحديثة ظن البعد أن التطور الذي طرأ على المنظومة القضائية المصرية سيقتصر على استخدام بعض الآليات التكنولوجية لتسريع إجراءات التقاضي ومحاولة علاج البطء الذي يعانيه في الفصل في بعض القضايا، أو مجرد إتاحة نظر جلسات تجديد الحبس الاحتياطي عن بُعد لمواجهة الضرورات التي فرضتها إجراءات مواجهة وباء كورونا، دون أن نعي أننا أمام تغير جذري في بنية النظام القضائي المصري، نشاهد ملامحه التي تتكون رويدًا رويدًا.

اقرأ أيضًا.. حق المجنى عليه فى تسجيل المحادثات التليفونية

فمع صدور قانون التوقيع الإلكتروني المصري رقم 15 لسنة 2004، والذي أتاح التوقيع الإلكتروني على المحررات والعقود، ومنح التوقيعات والمحررات الإلكترونية حجية في إثبات صحتها وصحة محتواها، وعلى من يدعي عكسها أن يقيم الدليل على ذلك، مرورًا بقانون تنظيم وسائل الدفع غير النقدي رقم 18 لسنة 2019 بما يساهم في قبول سداد الرسوم والمصروفات القضائية بوسائل غير نقدية، وعبر وسائط إلكترونية، انتهاء بالتعديل 146 لسنة 2019 على قانون المحاكم الاقتصادية رقم 120 لسنة 2008، حيث أتاح هذا التعديل رفع الدعاوى إلكترونيًا، ومباشرتها عن بُعد دون اشتراط الحضور الجسدي المادي لأطراف الدعوى والقضاة داخل مقر المحكمة، وجاري تدشين المنصة الإلكترونية للمحاكم الاقتصادية لبدء تطبيق التقاضي الإلكتروني في مصر، ومن أجل ذلك أصدر وزير العدل القرار 8548 لسنة 2020 بتنظيم القيد في السجل الإلكتروني للتقاضي أمام المحاكم الاقتصادية.

وما نلمحه في مبادىء محكمة النقض المصري أنها تدفع المنظومة القضائية لمواكبة هذا التطور التكنولوجي بما يستتبعه ذلك من عدم إهدار ما تحويه وسائل الاتصال الحديثة من عناصر إثبات تساعد في الوصول للعدل والحقيقية وحماية حقوق أطراف الدعاوى القضائية.

رئيس محكمة النقض

ومن ذلك على سبيل المثال:

إذا لم تكن تمتلك عقدًا قانونيًا يثبت علاقة العمل بينك وبين صاحب العمل، ولكن هناك إيميلات بينكما تثبت هذه العلاقة، فهل يمكن الاستناد إليها كدليل إثبات في منازعات علاقات العمل أو العلاقات المدنية والتجارية بشكل عام.

الإجابة فى السابق على هذا السؤال كانت بالنفي طبعًا، فإما أن يكون هناك أصل عقد عمل بين عامل وصاحب عمل، أو صورة ضوئية من العقد قدمها أحد الأطراف ولم يجحدها الطرف الآخر، أو شهود من العاملين على ثبوت هذه العلاقة، أو أي دليل آخر يمكن الاستناد إليه لإثباتها، شأن التوقيع على دفاتر الحضور والانصراف أو دفاتر الأجور أو التحويلات البنكية.. إلخ

أما الصور الضوئية للأوراق أو الإيميلات إذا أثبت الخصم في محضر الجلسة أنه يجحدها (ينكرها ولا يعترف بها) فلا يمكن للمحكمة أن تستند إليهم كدليل لإثبات علاقة العمل إلا إذا تم تقديم أصلها.

لكن مع صدور حكم محكمة النقض في الطعن رقم 17689 لسنة 89 قضائية، الدوائر التجارية – بجلسة 10 مارس 2020،  أضحت لهذه الإيميلات حجية ولا يمكن الاكتفاء بجحدها لمنع المحكمة من التعويل عليها كدليل يمكن لها الاستناد إليه في حكمها.

ولذلك أصبح لا يجوز جحدها بمقولة أنها صور ضوئية لا قيمة لها في الإثبات إلا بتقديم أصلها، لأن هذه المستخرجات في حقيقة الأمر ليست إلا تفريغًا لما احتواه البريد الإلكتروني، وليس لها أصل ورقي بالمعنى التقليدي مكتوب ومحفوظ لدى مرسلها، وبذلك تكون بمنأى عن مجرد الجحد، ولا سبيل للنيل من صحتها إلا بـ:

– التمسك بعدم استلام البريد الإلكتروني ابتداءً من جهة الإرسال، وإقامة الدليل على ذلك.

– أو التمسك بحصول العبث في بيانات ومحتوى الإيميل بعد استلامه، والمبادرة إلى سلوك طريق الإدعاء بتزويرها مباشرة وعدم مطابقتها للشروط والضوابط المقررة لصحة المحررات والبيانات الإلكترونية دون انتظار الحصول على إذن من المحكمة باتخاذ إجراءات التزوير.

هذا التغير الجوهري في مبادىء النقض في شأن حجية الإيميلات في الإثبات سيلقى بظلاله الواسعة على قضايا عدة، خروجًا على بعض المبادىء القديمة، ليتضح لنا أن التطورات القادمة لن تقتصر على استخدام الآليات الحديثة وفقط ولكن أيضًا ستتوفر حماية قانونية وقضائية لمحتواها على نحو يحمي حقوق كافة الأطراف.

ولذلك ذهبت محكمة النقض في حيثيات هذا الحكم بشأن مدى حجية المحررات الإلكترونية في الإثبات إلى:

“إذ كان البين من الأوراق أن الشركة المطعون ضدها قدمت أمام لجنة الخبراء مستخرجات من البريد الإلكتروني المرسل منها للشركة الطاعنة وتمسكت بدلالاتها، إلا أن الشركة الطاعنة قد اكتفت بجحدها بمقولة إنها صور ضوئية لا قيمة لها في الإثبات إلا بتقديم أصلها، على الرغم من أن هذه المستخرجات في حقيقة الأمر ليست إلا تفريغًا لما احتواه البريد الإلكتروني على النحو السالف بيانه، وليس لها أصل ورقي بالمعنى التقليدي مكتوب ومحفوظ لدى مرسلها، وبذلك تكون بمنأى عن مجرد الجحد، ولا سبيل للنيل من صحتها إلا بالتمسك بعدم استلام البريد الإلكتروني ابتداءً من جهة الإرسال، أو التمسك بحصول العبث في بياناته بعد استلامه، والمبادرة إلى سلوك طريق الادعاء بتزويرها وبعدم مطابقتها للشروط والضوابط المتطلبة بالقانون لصحة المحررات والبيانات الإلكترونية وهو ما خلت منه الأوراق من جانب الطاعنة، لما هو مقرر من أنه يجب على مدعي التزوير أن يسلك في الادعاء به الأوضاع المنصوص عليها في المادة 49 من قانون الإثبات وما بعدها – كي ينتج الادعاء أثره القانوني دون الوقوف على إذن من المحكمة بذلك. وكان لا يغير من هذا النظر ما تثيره الشركة الطاعنة من أن المطعون ضدها لم ترسل لها أي رسائل عبر البريد الإلكتروني الخاص بها، ذلك أنها لم تدّعِ سبق تمسكها بهذا الدفاع أمام محكمة الموضوع، كما لم تعقد المقارنة اللازمة بين عنوان بريدها الإلكتروني المعتمد وبين عنوان البريد الإلكتروني الذي وُجهت إليه الرسائل التي أرسلتها إليها المطعون ضدها، ومن ثم فلا يعيب الحكم المطعون فيه التفاته عن دفاع لم يقدم الخصم دليله ، ويكون النعي عليه بما سلف على غير أساس”.