على الرغم من الربط المباشر الذي يجري حاليًا في الأوساط الإعلامية وغيرها بين زيارة الرئيس السيسي لجيبوتي وبين أزمة سد النهضة إلا أنه في واقع الأمر يبدو أن هذه الزيارة في إطار أكبر مرتبط باتجاهات جديدة للتموضع الإقليمي المصري، الذي لايرتبط فقط بسد النهضة، ولكنه يستجيب لتحديات متنوعة قد تكون أزمة السد موجودة فيها ولكن ليست هي لا المحرك ولا الوزن الوحيد في التحركات المصرية بالفترة الأخيرة.
في هذا السياق نشير إلى أن التموضع الإقليمي المصري حافظ تاريخيًا على فاعلية في البحر الأحمر ودول القرن الأفريقي، خصوصًا في فترة محمد علي ومابعدها ولكنه انسحب من مناطق تمركزه خلال حكم الرئيس الأسبق السادات، بتقدير موقف أن العلاقات المصرية الأفريقية لم تعد ضرورية بزخم فترة جمال عبدالناصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، حيث وضعت القاهرة كل بيضها في السلة الأمريكية فقط على اعتبار أن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا، وذلك في قضية الصراع العربي الإسرائيلي.
وتحول الانسحاب المصري من أفريقيا عمومًا والقرن الأفريقي وحوض النيل خصوصًا إلى انكفاء على الداخل في فترة الرئيس حسني مبارك، حيث ساهم في ذلك توجهات الرجل الشخصية وتنظيرات نخب سياسية مصرية أن تقدم مصري تنموي مرهون بالتراجع عن تأدية أدوار إقليمية والاهتمام بالقدرات الداخلية، خصوصًا أن تمويل الأدوار الخارجية يبدو مكلفًا لمصر اقتصاديًا.
والمفارقة في هذا التقدير أن غالبية معطيات الأمن القومي المصري هي معطيات خارجية، وأهمها الأمن المائي، ولا يستقيم الأمر مع متطلباتها الانكفاء الداخلي، بل أن الأدوار الإقليمية المصرية الرشيدة تكاد تكون شرطًا لحفظ التقدم التنموي المصري بمعناه الشامل داخليًا وخارجيًا.
ويبدو لنا أن رعاية المصالح المصرية في منطقة القرن الأفريقي، كانت تتم تحت مظلة تحالف مصري خليجي عام خلال عقود مبارك في الحكم، وذلك بتقديرات أن قدرات تمويل الدور الإقليمي المصري ضعيفة، ويمكن الاعتماد على الخليج في رعاية المصالح المصرية، حيث كان التحرك الخليجي الشامل في هذه المنطقة يقتصر على نشاط خيري واستثماري محدود.
وتطورت الأدوار الخليجية دون انتباه مصري كاف في منطقة القرن الأفريقي، مع وجود متغيرات جديدة منها تصاعد التهديدات الإيرانية فيه من ناحية، وطبيعة الفرص الاستثمارية المتاحة في دول القرن الأفريقي من ناحية أخرى خصوصًا بعد تضخم العوائد البترولية، وأزمة الأمن الغذائي في الخليج المترتبة على ندرة المياه، وظهور أهمية متصاعدة لموانيء البحر الأحمر مع مشروع الحزام والطريق الصيني، فضلًا عن طبيعة تطلعات شركة دبي للموانيء التي تعتمد تقديراتها حتى الآن على المعطيات الاقتصادية المجردة، دون انتباه لتداعياتها المستقبلية على المستوى الاستراتيجي حتى على المصالح الخليجية ذاتها.
وفي هذا السياق لم ينتبه الخليج للمصالح المصرية الحرجة في دول حوض النيل ، ولا متطلبات أمن قناة السويس في البحر الأحمر ،حيث لعب الإنقسام الخليجي دورا في أن تكون متطلبات التنافس بين دول الخليج ذاته ،أعلي من محددات المصالح العربية.
وشكلت الاتفاقات الإبراهيمية للسلام التي تم عقدها مؤخرًا بين إسرائيل وعدد من الدول العربية متغيرًا مؤثرًا على التفاعلات العربية العربية في مناطق القرن الأفريقي وحوض النيل، حيث تصطف أبوظبي حاليًا مع تل أبيب في محاولة لتشكيل حلف دفاعي ضد إيران بينما تفتح الرياض حاليًا بابًا للحوار مع إيران.
طبقًا لهذا المشهد الإقليمي المعقد، بالغ الدقة والتركيب ربما يكون على القاهرة في هذا التوقيت عدم الاعتماد على أي نوع من التحالفات العربية، والمضي قدمًا بقدراتها الذاتية نحو التفاعل المباشر في مناطق مصالحها، ليس حفاظًا فقط على متطلبات القاهرة وأمنها القومي، ولكن ربما برؤية أشمل لحفظ مصالح النظام العربي الشاملة، بعد أن تم اختراقها خلال العقدين الماضيين بشكل غير مسبوق، وكان لها تأثير سلبي علي الجميع دون استثناء.
في هذا السياق نرصد أن زيارة الرئيس السيسي لجيبوتي تتوج عددًا من التحركات المصرية على المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية في منطقتي حوض النيل والقرن الأفريقي، ربما يكون أكثرها كثافة حاليًا، هي مع دولة السودان الشمالي، حيث تم خلال الشهور القلية الماضية التفاعل لدعم الخرطوم لوجيستيًا في مجالات البنية التحتية والنقل والصحة، كما تم عقد اتفاقات عسكرية ذات أبعاد استراتيجية تم تحت مظلتها إجراء مناورات عسكرية ممتدة منها “نسر1″ و”نسر2″ و”حماة النيل” الجارية حاليًا، وكذلك تم دعم سلاح المهندسين السوداني لضمان سيطرته على كامل ترابه الوطني مع فيضان نهر القاش الفاصل بين الحدود السودانية الإثيوبية.
في السياق العسكري أيضًا هناك تحركات لعقد اتفاقات نجح بعضها ومازال الآخر يرواح الآخر مكانه، ذلك أن مصر نجحت في عقد اتفاقات عسكرية مع كل من كينيا وأوغندا وبروندي، بينما لم تنجح حتى الآن مع كل من جنوب السودان وأرض الصومال والتي يتمتع فيها الخليج بنفوذ مرئي، بينما تعود ممانعات جمهورية الصومال لتأِثير مباشر من تركيا التي تملك قاعدة عسكرية هناك.
وبطبيعة الحال لايمكن إنكار أن هذا التحرك المصري في حوض النيل مرتبط بحصار الصعود الإقليمي الإثيوبي في منطقتي حوض النيل والقرن الأفريقي، وهو الصعود الذي ترتب عليه نجاح أديس أبابا في تجييش المحيط الأفريقي ضد مصر، بخطابات مضللة غابت مصر عن تصحيحها، حينما انسحبت بقوتها الصلبة، وقامت بحصار قوتها الناعمة داخليًا فعجزت الأخيرة عن القيام بأدوار خارجية داعمة لصورة ذهنية إيجابية لمصر في أفريقيا.
وفي تقديرنا أنه من شأن دعم علاقات مصر بجيبوتي على المستوى الاقتصادي، بإقامة المنطقة اللوجستية المتفق عليها بين الرئيسيين السيسي وجيله أن يتم تطوير حركة النقل البحري المدني بين مصر ودول شرق افريقيا لدعم احتياجات هذه الدول خصوصًا في السلع الغذائية، بما يدعم الاقتصاد المصري من ناحية، ويطور قدرات جيبوتي الاقتصادية من ناحية أخرى وهي الاقتصادات القائمة مقدراتها بنسبة كبيرة حتى الآن على تأجير الأراضي للقواعد العسكرية الأجنبية، بما ساهم في عسكرة البحر الأحمر خلال العقد ونصف الماضي بشكل مناهض لمجمل المصالح العربية والأفريقية فيه.
وعلى مستوى استراتيجي فإن الموقع الجيبولتيكي لجيبوتي على خليج عدن، ومناطق وجزر باب المندب يجعل لها أهمية استراتيجية مرتبطة بأمن البحر الأحمر وأمن قناة السويس معًا، وذلك في ضوء سعي إثيوبي لبناء سلاح بحري لها بالبحر الأحمر، كما تملك جيبوتي علاقات متميزة مع إثيوبيا قائمة على خط سكة حديد أنشأته الصين بين البلدين، تقوم فيه أديس أبابا في مفارقة لافتة بتلبية الاحتياجات الغذائية لجيبوتي رغم أن الأولى دولة حبيسة والثانية دولة ساحلية، كما يقوم هذا القطار بدور هو بمثابة الجسر الإثيوبي للبحر الأحمر، وطبقًا لذلك كان من المطلوب إطلاع جيبوتي ورئيسها إسماعيل جيله على طبيعة المرواغات الإثيوبية في مباحثات سد النهضة، وهو الأمر الذي تم التعبير عنه في البيان الختامي لزيارة السيسي لجيبوتي.
وربما يكون من المهم أن تطور القاهرة قدراتها الذاتية في مجالات التنقيب عن البترول والمعادن باعتبارها من المجالات الواعدة في جيبوتي، والصومال، وأوغندا، وهي مجالات داعمة للاقتصادات الوطنية الأفريقية المطلوب لها أن تتقدم في هذه المرحلة دعما للقدرات الإفريقية الشاملة، كما تشكل روافع مهمة لأدوار مصرية على المستويين السياسي والعسكري من هنا ربما يكون لفت أنظار قطاع الأعمال المصري الخاص بالفرص الكبيرة الموجودة بدولة مثل جيبوتي مطلوب الانتباه لها، في ضوء الفرص الربحية المميزة، وكذلك دعم المصالح الشاملة للدولة المصرية.
وفي الأخير لايملك المرء إلا أن يشعر بأسى من أن تكون زيارة الرئيس السيسي لجيبوتي هي الأولى لرئيس مصري بينما تملك جيبوتي كل هذه الأهمية الاستراتيجية للمصالح المصرية.